كتبه/ محمد القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أنزل الله -تعالى- القرآن هدى للناس وشفاء لما في الصدور، وتربية لعباده على أحسن المعاني وأفضلها، ومن هذه المعاني الشريفة التي يربي القرآن العباد عليها معنى المراقبة واستشعار قرب الله -تعالى- وسمعه وبصره وإحاطته بأفعال عباده.
وهذا المعنى الجليل دلت عليه آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، منها قوله -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِين)(الأنعام:59)، ومنها قوله -تعالى-: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(يونس:60)، ومنها قوله -تعالى-: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ . عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ . سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ)(الرعد:8-10).
فمهما استشعر قلب العبد اطلاع الله -عز وجل- عليه، ومراقبته لأقواله وأفعاله؛ فإن هذا من أقوى الدواعي له على التقوى والمراقبة.
والمعية معيتان:
- معية سمع وبصر وقدرة وإحاطة، وهي: معية الله -عز وجل- للخلق كلهم.
- ومعية خاصة بأوليائه، وهي: معية التأييد والنصر والتسديد، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(النحل:128)، وقوله -تعالى- لهارون وموسى -عليهما السلام-: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(طه:46).
فالمعية الأولى -العامة- تستوجب الخوف والحذر والتقوى.
والمعية الثانية -الخاصة- تستوجب الأنس والرضا والثقة بوعد الله ونصره.
وهذا المعنى الذي دلت عليه الآيات القرآنية دلت عليه السنة النبوية الشريفة، فعن أبي العباس عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
يا لها من كلمات يعلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لحبر هذه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، ومن خلاله يعلم الأمة كلها هذه الكلمات: (احفظ الله يحفظك).
إن هذا الحديث يحمل في طياته الكثير من الفوائد والدروس الهامة التي تحتاجها الأمة ويحتاجها الفرد في مسيره إلى الله -سبحانه وتعالى-.
فالتربية -عباد الله-، تبدأ مبكرا بتربية الأطفال والغلمان على هذه المعاني الشريفة، بل قل نقشها في قلوبهم وصدورهم منذ نعومة أظافرهم، فالطفل يحتاج إلى أن يربى على المراقبة لله الجليل منذ أول لحظة لإدراكه المعاني، فينبغي أن تردد على مسامعه أن الله يراك وأن الله يسمعك وأن الله يحب المصلين والبارين بآبائهم كما أنه يغضب على من يضيع الصلاة أو يعق والديه أو غيرها من المعاني التي ينبغي أن نربيه عليها، فيرتبط الطفل بخالقه وربه منذ الصغر، وهذه طريقة مهمة من طرائق التربية، وأنت تلحظ في هذا الحديث اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الغلام الذي أصبح بعد ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن، فالاهتمام بالأطفال هي الوسيلة الوحيدة لإيجاد جيل يتحلى بالصفات والأخلاقيات المطلوبة لتحقيق المجد لهذه الأمة.
(احفظ الله يحفظك)، قال بعض السلف: "تدبرت هذا الحديث فأدهشني حتى كدت أن أطيش فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه".
ومن هذه المعاني الجليلة التي ينبغي أن نعطيها حقها في التدبر:
كيف يحفظ العبد ربه -جلا وعلا-؟؟
فكيف للعبد الضعيف الفقير أن يحفظ الرب الجليل القدير، فالإجابة لهذا السؤال في أن يحفظ العبد أوامر ربه -جلا وعلا- ونواهيه، وأن يحفظ حدوده وحقوقه -جلا وعلا-.
فالعبد يحفظ ربه بالمحافظة على الصلوات والصلاة والوسطى، كما أمر المولى -جلا وعلا- بأدائها في أول وقتها، يكبر مع الإمام تكبيرة الإحرام ويصلي في المسجد مع الجماعة فهذا من حفظ الله.
ومنها أيضا: أن يحافظ على ركوعها وسجودها وخشوعها فيصلي صلاة يستحضر فيها أنه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وأنه تلقاء وجهه، فيستحضر معاني الخشوع والخضوع والذل والانكسار بين يدي الله -تبارك وتعالى-، فيتقرب من الله -جلا وعلا- كما قال -تعالى-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق:19).
ومن حفظ العبد لربه أن يحافظ على طهارته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
ومن حفظ العبد لربه أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
ومن حفظ الرأس: أن يحفظ العبد سمعه وبصره ولسانه وعقله، فيحفظ سمعه عن الحرام ويشغله بسماع القرآن والسنة الشريفة وشروحها وعلومها، وكل ما هو نافع له في الدنيا والآخرة.
وأما حفظ البصر: فيحفظه عن أن يقع على ما يغضب الله من الصور المحرمة، فإن العينين يزنيان وزناهما النظر، فكم من قلوب خربت وخرجت منها معاني الإيمان وحلت بها الأماني الشيطانية بسبب النظر إلى الصور المحرمة التي أصبحت رائحتها تزكم الأنوف فأينما يمم العبد بصره وجد منها الكثير في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وفي الإنترنت، ومن قبل ذلك في الشوارع، والبيوت، والمحلات و... فحفظ العينين عن النظر إلى الحرام من معاني حفظ العبد لربه.
ومن هذه المعاني أيضا: حفظ اللسان، هذا العضو الصغير حجمه الكبير جرمه، فينبغي للعبد أن يحفظ لسانه عن الوقوع في الغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور وقول الزور إلى غير ذلك من المحرمات التي يأتيها الإنسان بلسانه، وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
ومن المعاني أيضا التي ينبغي أن يحافظ عليها العبد: المحافظة على الأيمان، فقد قال -تعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)(المائدة:89)، فلا ينبغي للعبد أن يكثر من الحلف بالله، وإذا حلف بالله فلا يجوز له أن يحلف به إلا صادقا، وإذا حلف وحنث في حلفه فعليه أن يكفر عن يمينه.
ومن ذلك أيضا: حفظ الفرج، كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)(المؤمنون:5)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من يضمن لي ما بين لحييه -أي: لسانه- وما بين رجليه -يعني فرجه- أضمن له الجنة) رواه البخاري.
فمن حفظ الله في سمعه وبصره ولسانه وفرجه، وحافظ على حدود الله -عز وجل- وحقوقه وأوامره ونواهيه كان الجزاء من الله الحفظ التام لهذا العبد، فالجزاء من جنس العمل، وقد قال -تعالى-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(البقرة:152)، وقال -تعالى-: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(محمد:7).
والحفظ للعبد يكون على نوعين كما يقول العلماء:
فالأول: حفظ الإيمان؛ أن يحفظ الله على العبد إيمانه فلا يقع في الشهوات ولا في الشبهات، وأن يحول بنيه وبين المعصية التي توجب غضب الرب -سبحانه وتعالى-.
وأما الثاني: فحفظ سمعه وبصره ولسانه وجوارحه وأن يمتعه بقوته وأن يحفظ عليه ماله وأن يحفظ أولاده.
ألا تريد أن تكون ممن خصهم الله بهذه المعية وبهذا الحفظ؟!
ألا تحب أن يحفظك الله في مالك وفي ولدك وذريتك؟!
ألا تحب أن يحفظك الله في بدنك وفي أهلك؟!
من منا لا يحب ذلك؟!! ولكن إذا كنت صادقا في هذه الدعوى فخذ بأسباب الحفظ، فالله -تعالى- يقول: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا)(النساء:9).
وكما كان سعيد بن المسيب -رحمه الله- يقول لابنه: "لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك"، ويتأول قوله -تعالى-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)(الكهف:82)".
فلنبادر إذاً باستكمال الواجبات والتخلص من المحرمات، والمسارعة في الخيرات وبذل الجهد والمال والوقت في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، إن كنا نريد الحفظ والرعاية والتأييد من الله -تبارك وتعالى-.
والله نسأل أن يوفقنا إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.