كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أقبل الصيف... واشتد الحر... وورد الناس لدفع ذلك موارد شتى، وصدق الله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(الليل:4)، فمنهم من يهرع لشراء المراوح ومكيفات الهواء لكسر سورة الحر، والتخفيف من حدته، ولا حرج على المسلم في التمتع بما أحل الله -تعالى- له.
ومنهم من يسافر إلى بلاد الكفار ليقضي شهراً أو أكثر هناك حيث يُعصى الله -تعالى-، ويُضيَّع الدين، وتـُدفن الفضيلة -والعياذ بالله تعالى-، وغفل عن وقوفه بين يدي ربه، ومسئول عن ماله ونفقاته وعمره وأوقاته (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا)(الإسراء:36).
ومنهم من يقتصد في نفقاته- وربما فعل ذلك منذ فصل الشتاء- ليقتطع جزءًا من راتبه المحدود ليستمتع لمدة شهر أو أكثر على الشواطئ وفي المتنزهات، حيث تنتشر المنكرات، وتضيع الصلوات، وغير ذلك من الموبقات.
وأما العبد الرباني وأهل الاستقامة فأمرهم مختلف، وشأنهم غريب، فارقوا الناس في الدنيا ليفارقوهم في القيامة، علموا أنهم يقضون أياماً في سجن الدنيا القصير مهما طال، فهان عليهم هرباً من سجن الآخرة الطويل أو الدائم!!
فهموا ذلك كله واستحضروه، فأعدوا للأمر عدته، وجهزوا للسؤال بين يدي الله جواباً.
حالهم مشَرِّفة في الدنيا والآخرة، جعلوا الدنيا مزرعة للآخرة، وقطعوها بأحسن ما عندهم، وربطوا بين الدنيا والآخرة، بل أخذوا من كل ما حولهم عظة وعبرة.
فإن رأوا ظلمة ذكرتهم بظلمة القبر ووحشته، وإن رأوا ناراً ذكرتهم بنار الآخرة (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا "أي: نار الدنيا" تَذْكِرَةً "أي: بنار الآخرة" وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)(الواقعة:73).
وإن رأوا البرق وسمعوا الرعد خشوا العذاب والهلاك، قدوتهم في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِى وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِى وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّى أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) متفق عليه.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ومصطفاه، قد بلغ منك الخوف منتهاه!
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخشى أن تأتي الريح بعذاب، بل يعرف ذلك في وجهه ويذهب ويجيء. إنه يخاف الهلاك!
هو يخاف العذاب، ونحن معاشر العصاة في أمن من مكر الله؟
هو يخاف العذاب ونحن معاشر المفرطين نلهو ونغفل عن طاعة الله؟
وأين من تزيده الآيات تذكرة وقرباً ممن تزيده عصياناً وغفلة؟
وكان ابن الزبير -رضي الله عنه- إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض. رواه مالك في الموطأ، وصحح الألباني إسناده موقوفاً.
فبالله عليك أخي، أي زمن وأي قوم أولى بذلك الخوف؟ أذلك المجتمع المبارك الطاهر، أم مجتمع كَثُرَ فيه الخبث؟؟ يا لغفلتنا! ويا لقسوة قلوبنا!!
وتذكر أن موسمنا -موسم الصيف- نفس من جهنم!! وهذا مستفاد من حديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِى بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِى الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِى الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِى الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)
وإذا كان الأمر كذلك، فهل يهرب العبد من حر الدنيا ليسقط في حر جهنم؟
هل يترك العبد الصلوات ويرتكب المحرمات هرباً من الحر ليقحم نفسه في نار جهنم... هل هذا فعل العقلاء؟
هل تضييع الصلوات يبعد العبد عن النار أم يقحمه فيها؟
هل العورات التي تكشف تبعد العبد عن النار أم تقحمه فيها؟
هل النظرات والهمسات واللمسات التي تقع في هذه الأماكن تقرب العبد من النار أم تبعده عنها؟
هل الأوقات التي تهدر والأموال التي تنفق، والمجهودات التي تبذل هل يبذل مثلها في التعلم والتعبد والدعوة، لاسيما وقد اشتدت الحملات والهجمات في هذه الأيام على الإسلام ونبي الإسلام؟
ثم وإن تمتع العبد بكل شهوات الدنيا ومتعها، وكان من أكثر أهل الأرض نعيماً... أليس غمسة واحدة في النار تنسيه كل ذلك؟ بلى والله.
إذا كان نفس واحد من جهنم تسبب في كل هذا الحر في كل الكرة الأرضية، فكيف بحرها لمن عاينها وسقط فيها؟
فهل يتهاون العبد في التزامه بالدين بحجة الترفيه والترويح، ولربما يوقعه ذلك في جهنم؟
وهل أتاك نبأ الرجل الواحد من أهل النار؟
اسمع معي لهذا الحديث العجيب: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه) رواه البزار، وصححه الألباني.
إذا كان هذا نفس لرجل قد أحرقته جهنم، فكيف بجهنم ذاتها؟ أعاذنا الله من النار!!
أخي الحبيب، من كان لا يصبر على حر الشمس في الدنيا، فكيف سيصبر على حر النار يوم القيامة؟
إذاً فليجتنب العبد من الأعمال ما يستوجب له دخول النار، وليأخذ مما حوله عظة وعبرة، وليكن له في سلفه أسوة وقدوة، فلقد روي أن الصديق -رضي الله عنه- كان يصوم في الصيف، وأوصى بذلك عمر -رضي الله عنه- ولده، وعدَّ ذلك من خصال الإيمان، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تصوم في الحر تبادر بذلك الموت. وتعلل ذلك بعض العابدات فتقول: "إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد". انظر للفقه والحرص على القرب.
إنه الري يوم القيامة تتجهز به من هنا.. من الدنيا.. إنه ماؤك في يوم العطش... إنها الراحة وليست التعب. نعم، من أراد الراحة فارق الراحة، والنعيم لا يدرك بالنعيم!
وكان أبو الدرداء يقول: صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.
أحبتي في الله: لما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ أفرد لهم باباً من أبواب الجنة، وهو باب الريان، اسمه يدل على محتواه! من دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ بعدها أبداً، إذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه غيرهم، فكم يكون مقدار حسرة العبد إذا أغلق دونه ذلك الباب؟
ألا فلنجعل صيفنا بل عمرنا قربى إلى ربنا، ولا نغفل عن أوقاتنا فهي ذخرنا، ولنحذر طول الأمل؛ فبه سوء العمل... ولعل الموت قريب (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(لقمان:34).
فهذه أسرة تستقل السيارة لقضاء الصيف على أحد الشواطئ، وفي الطريق ووسط فرحة الجميع تسقط السيارة في حفرة على عمق سحيق فيموت الجميع ويلقوا ربهم!.
وشاب نزل في أعماق البحر يمارس هواية السباحة والغطس، وبينما هو في نشوة الفرح، مستغرقاً في اللعب، إذ بالماء يتسرب فيكاد يموت لولا لطف الله به! والعجيب أن ذلك كان في وقت صلاة الجمعة والناس قد هرعوا لأداء الصلاة، أما هو قد هرب مع أصدقائه تحت المياه!! ولولا رحمة الله لكان من الهالكين!! وكان ذلك الموقف بداية لرجوعه إلى ربه -سبحانه وتعالى-.
وأخيراً...المسئولية مشتركة بيننا جميعاً، كل مسلم عليه دور في مواجهة تلك المنكرات بكلمة طيبة.
كلنا في صف واحد لمواجهة تلك المخالفات.. كلنا ركاب سفينة واحدة، فإن بذلنا واستفرغنا وسعنا وإلا ربما تغرق السفينة!!
نسأل الله أن يهدينا وكل المسلمين سواء السبيل، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر نفوسنا، إنه بالإجابة جدير، وبكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.