كتبه/ ياسر إبراهيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن الحياة الطيبة ليست هي الحياة التي تتوافر فيها أنواع المتع المادية من أكل وشرب، ومركب وملبس، ومنكح، وصناعة وزراعة واختراعات فقط.
وإنما الحياة الطيبة الآمنة هي التي تطمئن فيها القلوب، ويأمن فيها الناس على أنفسهم، وأموالهم وأعراضهم، وينتشر فيها العدل والخير بأنواعه، ويقود فيها الناس الأكفاء الصالحون إلى ما يرضي الله -تعالى-.
ولابد أن يعلم المسلم علماً جازماً بأن متاع الدنيا تابع لتحقيق الفرد والجماعة لمنهج الله في الأرض، قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97)، إن أي أمة في الشرق أو الغرب دانت بمنهج الله، واعتصمت بحبله المتين، واتبعت رسوله -صلى الله عليه وسلم- بصدق وعلم ويقين، وطبقت هذا المنهج؛ لابد أن تكون أسعد الأمم، وأكثرها أمناً واستقراراً، تعيش في رغد من العيش، وتحيا عزيزة سائدة تقود ولا تـُقاد، وهذه سنة الله في خلقه، وقد دل على ذلك القرآن، قال الله -تعالى- عن مريم -عليها السلام-: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(آل عمران:37).
وهذا في حق الفرد، فمريم تطيع وتستقيم وترى أثر ذلك في حياتها، كما قال بعض السلف: "ما احتاج تقي قط"، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(الأعراف:96). وقد جاء الأنبياء والمرسلون بتأكيد هذه السنة، فجاء على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(هود:3). وجاء عن نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(نوح:10-12).
إن أية أمة من الأمم ترفض منهج الله، وتبتعد عن هذا المنهج، وتحارب أولياء الله والدعاة إليه، متبعةً في ذلك لهواها عاصيةً لربها، هاجرةً كتابه، خارجةً عن هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- لجديرة لأن تكون أكثر الأمم شقاءً وخوفاً واضطرباً وضنكاً في الحياة في كل شئون حياتها لأن السعادة الحقيقية لا يجلبها منصب ولا مال، والأمن في أي مجتمع لا يحصل بقوة السلاح والرجال، والاستقرار والطمأنينة لا تأتي بأي سبب من الأسباب المادية، إذا خلت الحياة من الإيمان بالله، وتطبيق منهجه واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وبهذه السنن نطقت نصوص القرآن الكريم، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه:124). وزوال النعم وحلول النقم يكون سببه تحول العباد عن منهج رب الأرض والسماء، قال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(النحل:112)، وقال عن قوم سبأ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُور)(سبأ:15-17)، سيل العرم: انهيار سد مأرب/ مطر شديد، أكل خمط: ثمر مر حامض بشع، أثل: شجر كبير ثمره لا يؤكل، سدر: شجر النبق لا تغني لسد الجوع.
إن مرور الأمة بمثل هذه الظروف، وتدهور الأحوال من سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها من نواحي الحياة ليستدعي كل فرد ليصرخ بأعلى صوته منادياً بالرجوع إلى منهج الله الذي يحقق الحياة الطيبة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)(الأنعام:42-43). إن فريقاً من الأمة لا يرضى إلا بالحلول المستوردة لإصلاح المجتمعات المسلمة، فتارة ترفع راية الاشتراكية، وتارة راية الديمقراطية، وتارة أخرى راية العصرانية والعقلانية التي لا تزيد الناس إلا بُعداً عن الإسلام، ولم تحصد المجتمعات المسلمة من تحت هذه الرايات المختلفة إلا الثمار المُرة، فَذُلٌ بالشرق، واحتلال وقتل وتشريد بالغرب، وفتن بالشمال والجنوب، والحل لا يكون إلا في الإسلام كنهج للحياة، والحياة الطيبة لا تكون إلا ظل شجرة الإسلام. (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين