كتبه/ أحمد فريد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
رأس مال العبد أنفاسه، فمن سابق سعادته أن يعلم أن كل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، يستطيع أن يشتري بها كنزاً لا يفنى أبد الآباد. أما تضييعه وخسارته، أو الاشتغال فيه بما يجلب الهلاك، فلا يفعله إلا أقل الناس عقلاً، وأكثرهم حمقاً، فالسعيد من عرف زمانه، وتاجر بأنفاسه مع الله -عز وجل-، فربح على الله -عز وجل- أعظم الأرباح.
قال الحسن البصري: المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله -تعالى-، رحم الله امرأً نظر في نفسه، ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم تلا قوله -تعالى-: (إِنـَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (مريم:84) يعني الأنفاس، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.
فكل عبد له عدد محدد من الأنفاس، ويُعـَدُّ لكل واحد منا عد تنازلي، حتى يصل إلى آخر العدد الذي قدره الله -تعالى- له، فإذا وصل إلى آخر العدد المقدر له، كان خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، فالسعيد من تاجر بأنفاسه مع الله-تعالى-، فكانت أفعاله وأقواله مما يغتبط به في الآخرة، وترفع به درجته، والمخذول من ضيع عمره، وأنفق أنفاسه فيما لا يعود عليه بالخير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، أي ترك ما لا يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة من الأقوال والأعمال.
وقال بعضهم: من علامة خذلان الله -تعالى- للعبد، أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمــــل
الموت يأتي بغتـــة وقبر صندوق العمل
كان السلف -رضي الله عنهم- يبخلون بأنفاسهم أن ينفقوها في غير طاعة الله -تعالى- فملؤوا الدنيا عبادة وطاعة لله -عز وجل- وتمنوا لو واصلوا العبادة بعد الموت.
كان ثابت البناني يقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي.
ودخلوا على الجنيد، وكان في النزع، وكان يصلي فقالوا له: الآن؟!
قال: الآن تطوى صحيفتي.
ودخلوا على أبي بكر النهشلي، وكان في النزع، وكان صائماً فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء. قال:حتى تغرب الشمس.
وبكي أحد السلف عند موته، فسأل عن سبب بكائه، فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم.
وكان في التابعين ثلاثون تابعياً لو قيل لأحدهم: القيامة غداً ما استطاع أن يزيد شيئاً.
وكانوا يعدون خصال الخير، ويبكون على أنفسهم إن فاتهم شيء منها.
دخلوا على عابد مريض، فنظر إلى قدميه وبكى وقال: ما اغبرتا في سبيل الله.
وقال بعضهم: أعد ثلاثين خصلة من خصال الخير، ليس في شيء منها.
وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصنا على الدينار والدرهم.
قال رجل لأحد العلماء: قف أكلمك. قال: أوقف الشمس.
وكان أحد العلماء إذا جلس عنده الناس، فأطالوا الجلوس يقول: أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر.
قال بعضهم: من علامةِ المقت إضاعة ُالوقت.
يا من أنفاسه محفوظة، وأعماله ملحوظة، أينفق العمر النفيس، في نيل الهوى الخسيس؟!
جد الزمان وأنت تلعب والعمر لا في شيء يذهب
كم كم تقول غداً أتـوب غداً غداً والمــــوت أقرب
قال ابن القيم رحمه الله: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت يقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك من الدنيا وأهلها.
قال ابن الجوزي ما ملخصه: رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان، وكان القدماء يحذرون من ذلك.
قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
ودخلوا على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك فقال: أصدقكم كنت أقرأ، فتركت القراءة لأجلكم.
وجاء رجل من المتعبدين إلى السري السقطي فرأى عنده جماعة.
فقال: صرتَ مناخ البطالين! ثم مضى ولم يجلس.
وكان داود الطائي يستف الفتيت (أي الخبز المبلول بالماء) ويقول: بين سفِّ الفتيت وأكل الخبز، قراءة خمسين آية.
وكان عثمان الباقلاوي دائم الذكر لله -تعالى- فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج، لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر.
وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم.
والذي يعين على اغتنام الزمان الانفراد والعزلة مهما أمكن، والاقتصار على السلام، أو حاجة مهمة لمن يلقى، وقلة الأكل، فإن كثرته سبب النوم الطويل وضياع الليل.
ومن نظر في سير السلف وآمن بالجزاء بان له ما ذكرته. والله أعلم.