تفننت قريش في أساليب مواجهة الدعوة، وكلما أخفقت لجأت إلى الإرهاب والتنكيل، فتصاعد العنف مع الأيام، وأصبح المسلمون في حالة فصام تام عن المجتمع المكي، تحيط بهم النظرات الغاضبة، والألسن الشاتمة، والأيدي المعتدية بأنواع العذاب ،
فأصبح المقام بمكة غاية في الصعوبة، فأوعز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى من قل نصيره و نبا به المُقام في مكة أن يهاجر إلى الحبشة.
تقول أم سلمة رضي الله عنها ـ إحدى المهاجرات الأول ـ ( لما ضاقت علينا مكة، وأُوذى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منعة من قومه وعمه، لا يصل إلـيه شيء مما يكره من مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه "، قالت فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمناً على ديننا ولم نخش منه ظلماً) .استغفروا لأخيكم ).ليس بأحق بي منكم ـ يعني عمر ـ له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان )، فعظم الفرح بين مهاجرى الحبشة ـ رضي الله عنهم.اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب " فأسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ فكان إسلامه فتحاً ونصراً حتى قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه: " ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر"، وقال: " لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلى ".قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة )، فغلبت عليه الشقاوة، ولما حزن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك أنزل الله عليه { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } … (القصص: من الآية56).
وكانت هذه الهجرة الأولى للحبشة، في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة.
وممن خرج مهاجراً يومئذ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فلقيه ابن الدغنة ـ سيد القارة ـ رجل من حلفاء قريش، فقال له: مثلك لا يخرج ولا يُخرج، ورجع به إلى مكة وأجاره من قريش، فقبلت قريش أن يعبد ربه في بيته ولا يستعلن، لكنه أخذ يجهر بقراءة القرآن في في فناء داره، فتجتمع نساء المشركين وأبناؤهم ينظرون إليه، وكان بكاء، لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك قريشاً، التي اشتكت إلى ابن الدغنة، فخيره بين الإسرار بعبادته أو أن يرد عليه جواره، فقال أبو بكر: " إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ".
ولم يمكث هؤلاء طويلاً حتى بلغتهم الأخبار بأن أهل مكة قد أسلموا فقرروا العودة إلى وطنهم، ولكنهم فوجئوا بأن الاضطهاد الواقع على الإسلام أشد وأحد.
فأشار عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة مرة أخرى إلى الحبشة، فخرج في الهجرة الثانية جمع أكبر، نحو ثمانين رجلاً، وعشرين امرأة. وكأنه عز على المشركين أن يجد هؤلاء المستضعفين مأمناً لأنفسهم ودينهم فأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا وفداً محملاً بالهدايا والتحف يطلب من النجاشي أن يرد هؤلاء الإرهابيين، الذين فروا من بطش السادة المسؤولين !
وقام بهذه المهمة عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وكانا مشركين في ذلك الوقت، وقد استعانا على النجاشي برجال حاشيته بعد أن ساقوا إليهم الهدايا، وزودوهم بالوثائق الكفيلة بطرد المسلمين في زعمهم، وإعادتهم إلى ساحة العدالة لمحاكمتهم على الإيمان والعمل الصالح !!
ولكن النجاشي كان رجلاً راشداً نظيف العقل، حسن المعرفة بالله، سليم المعتقد في المسيح ـ عليه السلام ـ فأبى لإنصافه أن يظلم هؤلاء المستضعفين لاعتبارات سياسية واقتصادية !
وأرسل إلى المسلمين يسمع منهم، ويسألهم عن حقيقة دينهم، فقام جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبين مساوئ الشرك وعبادة الأوثان، وعرض محاسن الإسلام وشريعته، ثم بين الظلم الذي تعرض له المسلمون والبطش الذي لقوه على أيدي قريش، وختم بإثارة مشاعر الشهامة والمروءة في نفس النجاشي حين أخبره أنهم اختاروه على من سواه لما علموا عدله. ثم قرأ جعفر ـ رضي الله عنه ـ صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال النجاشي: " إن هذا الكلام والذي جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ". فخرجا من عنده ثم قال عمرو لصاحبه: والله لآتينه غداً بما يبيد خضراءهم ! فجاء النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ـ عليه السلام ـ فقال جعفر في صراحة ووضوح غير هياب ولا وجال: " نقول فيه الذي جاء به نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول ـ عليها السلام " فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: " ما عدا عيسى ما قلت قدر هذا العود "، وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، وقال: " والله ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم "، وقد أسلم ـ رضي الله عنه ـ وصلى عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العام التاسع للهجرة لما مات صلاة الغائب، وقال لأصحابه (
وأما مهاجرو الحبشة فمكثوا ما كتب الله لهم، وعاد بعضهم بعد هجرة المسلمين إلى المدينة وقبل بدر ، وعاد الباقون مع جعفر ـ رضي الله عنهم ـ مع عودة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فتح خبير في السنة السابعة، وقد تجادلت أسماء بنت عميس من مهاجرات الحبشة مع عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر: "سبقناكم بالهجرة ـ يعني إلى المدينة ـ فنحن أحق برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منكم "، فقالت: " كلا والله ! كنتم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن كنا نؤذى ونخاف ". وسارعت أسماء فأخبرت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجدالها مع عمر، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : (
لقد ضرب هؤلاء الأخيار ـ رجالاً ونساء ـ أروع أمثلة التضحية من أجل الدين، لأن الدين إذا فقد لم يغْن من ورائه مال ولا نفس ولا وطن، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أدراج الرياح، فما قيمة مال بلا دين ؟ وما قيمة وطن بلا دين ؟ وما قيمة نفس بلا دين ؟.
أما إذا قامت دعائم الدين في المجتمع، ورسخت في القلوب عقيدته. فإن كل ما ذهب في سبيل ذلك من مال وأنفس وأوطان يعود بأقوى من ذي قبل، محاطاً بسياج القوة والكرامة والبصيرة.
ولهذا أوجب الله الهجرة من بلاد الكفر حيث يتعذر على الإنسان إقامة دينه إلى بلاد أخرى يأمن فيها على دينه، ويجد أعواناً على الخير. والعجب من أناس يهاجرون طواعية من أوطان المسلمين إلى بلاد الكفر التي لا يتمكن المسلم من إقامة دينه فيها، كل ذلك من أجل المال أو الجاه، أو المنصب، أو اللذات العاجلة، فيفقد دينه، ودين نسله من بعده، حيث تخرج أجيال لا تعرف ديناً ولا إيماناً، كل هذا من أجل الدنيا.
أما أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد هانت عليهم الدنيا بما فيها من أموال وأوطان وديار وأرحام، بل وهانت عليهم أنفسهم في سبيل دينهم ففازوا في الدنيا والآخرة.
ثم إن وفد قريش رجع إلى مكة يجر أذيال الخيبة، بعد أن فشلوا في إقناع النجاشي بتسليم المسلمين المهاجرين، فلم يجد المشركون إلا مواصلة القهر والإيذاء لمن بقى من المسلمين في مكة، لكن الله تعالى أراد أن يخفف عن المؤمنين فاستجاب لدعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "
وكما كان إسلام عمر عزاً للمسلمين، كان إسلام حمزة عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك، ففرح المسلمون بإسلامهما لكن فرحهم لم يدم حيث شدد المشركون وطأتهم بالمقاطعة الظالمة، فدخل المسلمون شعب أبي طالب وبعد ثلاث سنين خرجوا منه يستأنفون نشاطهم.
ولكنهم ما إن تنفسوا من الشدة التي لاقوها، حتى أصيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوفاة عمه أبي طالب الذي كان يحوطه ويغضب له وينصره، وقد اجتهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عرض الإسلام عليه، وقال له: (
ثم ازداد البلاء بموت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في نفس السنة العاشرة، فأصيب في حياته الخاصة كما أصيب في حياته العامة، حتى سُمِّى هذا العام بعام الحزن