كانت غزوة تبوك، والتي عرفت أيضاً بغزوة العسرة، لما لقيه المسلمون فيها من معاناة وصعوبات، وآلام ومشقات، كانت فرصة مناسبة لإبراز معادن الرجال ولتمحيص المؤمنين، وتمييز صف المنافقين، كما قال تعالى لنبيه : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }(1)، لقد ظهر أمر النفاق واضحاً جلياً، على اختلاف صورة وتنوع دركاته فمن معتذر دون إبداء أسباب، ومن مبد لأسباب سخيفة كالفتنة بنساء الروم! { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي }(2)، ومن مستعلن بالنفاق مثبط مرجف، ساع إلى التنفير عن الجهاد والنفير، يلمزون المؤمنين في الصدقات، ويقولون: لا تنفروا في الحر، ومن متجاوز لذلك كله إلى أسفل درجات النفاق، وهؤلاء هم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ }(3)، ابتنوا مسجد يجتمعون فيه على هذه النوايا الخبيثة للكيد للمسلمين والإضرار بهم، ثم ذهبوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى لهم فيه، وأقسموا أنهم صادقون : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقد فضح الله مقاصدهم، ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن شهود مسجدهم : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً }(4)، فأرسل من يقوم بهدمه بعد عودته من تبوك، وكما اختلفت دركات المنافقين، تفاوتت أيضاً درجات المؤمنين على حسب أرزاقهم ومقاماتهم: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ }(5)، فأعظم الناس بلاء يوم تبوك، عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي جهز الجيش، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم! ) فكان رجلاً من أهل الجنة يمشي على الأرض! ومن أعظم المؤمنين غبطة بيوم تبوك، على رضي الله عنه، فقد خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في نسائه وأهله، وطلب منه أن يبقى في المدينة ليقوم عليهم، وكأنه استعلى بهمته أن يبقى في الظلال و الثمار، ويفوته الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه من مشقة وجهاد، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي ) فكان منقبة لعلى رضي الله عنه أن يظفر بهذه المنزلة. وممن تميز إيمانه في يوم تبوك، علبة بن زيد أحد فقراء المؤمنين الذين لا يجدون ما ينفقون في التجهيز للغزو، قام من الليل وصلى وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وليس عندي ما أتصدق به، وإني أتصدق على كل مسلم، بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو مال أو عرض، فأصبح الرجل وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: أين المتصدق بعرضه البارحة ؟ فقام رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبشر قد قُبلت صدقتك! ). وممن أثنى الله عليهم في ذلك اليوم، هؤلاء الذين تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يجهزهم للغزو، فبكوا رغبة في الجهاد، لذلك لم ينسهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أشركهم في الأجر بقوله: إن في المدينة أقواما ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم ! ـ يريد في الأجر ـ فأوقع الله أجورهم على قدر نياتهم، لكن تخلف من المؤمنين أربعة بغير عذر، فلم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان بأن المؤمن قد يزل ويكبوا، ويرتكب الكبيرة، وأي كبيرة أعظم من القعود عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار الدعة والراحة ؟ وهؤلاء الأربعة هم : أبو خيثمة الأنصاري، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيع، وهلال بن أمية، أما أبو خيثمة فقد سارع إلى حسم الصراع الدائر في نفسه بين البقاء في الراحة والنعيم، والخروج للجهاد مع المؤمنين، وذلك أنه دخل بستانه فرأي عريشاً قد رش بالماء، ورأى زوجته، فقال: ما هذا بإنصاف ! رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور، وأنا في الظل والنعيم ؟! فأسرع في تجهيز نفسه، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من العسكر قال النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة! ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وأما كعب بن مالك وصاحباه فقد تمادى بهم التسويف إلى أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك فجاءوه وأقروا أنه لا عذر لهم في تخلفهم، لكن لم يكذبوا كما كذب المنافقون، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى ضاقت بهم الدنيا، وحاول ملك الروم أن يصيد في الماء العَكِر، فأرسل إلى كعب أن يلحق به فأحرق رسالته، وعصمه الله من فتنته، واستمر الهجر والمقاطعة حتى أنزل الله توبتهم في قوله: { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }(6). وفي قصة كعب من الدروس والعبر ما يجدر بكل مؤمن أن يقف عندها، فمن ذلك: خطورة التسويف وطول الأمل، ووجوب اغتنام الفرصة للطاعة، فالقلوب متغيرة، والعوائق كثيرة، والله يحول بين المرء وقلبه، ومن يسر الله له باب طاعة فلم يستغله فربما لا يمكنه الله منه مرة أخري عقوبة له، كما قال: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }(7)، يقول كعب وهو يصور كيف ضاعت الفرصة بالتسويف: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضي شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقضي من جهازي شيئاً فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، وغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً! ثم غدوت ثم رجعت، ولم أقض شيئاً ! فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك. لقد كان كعب في صراع .... لا هو طاب بالعيش وقد تخلف في الثمار والظلال و الراحة، ولا هو لحق بالمجاهدين في أشرف ساحة:
فلا ترج فعل الخير يوما إلى غد لـعل غـد يأتي وأنت فـقيد
ومن فوائد قصة كعب وصاحبيه رضي الله عنهم فضيلة الصدق وحسن عاقبته ، فقد تجرعوا مرارة الهجر خمسين يوماً وضاقت عليهم الدنيا، لكنهم وجدوا أحسن العاقبة، بشارة وفرحة وتوبة وقبولاً، وذكراً حسناً بين المؤمنين، وسعادة في الدنيا والآخرة، لكن بضعة وثمانين رجلاً من المنافقين تخلفوا معهم فلم يصدقوا تحاشياً للمرارة العاجلة: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ }(8) ، فأي الفريقين أهدى سبيلا ؟ لقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً بثمرة صدقه فقال: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك !) وقد سجد شكراً لله، وتصدق بماله كله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك بعضه، وقال : إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلانى، والله ما تعمدت كذباً منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجوا أن يحفظني الله فيما بقيت. ومن فوائد قصة كعب وصاحبيه رضي الله عنهم: مشروعية الهجر و القطعية زجراً وتأديبا لأصحاب المعاصي والبدع والمخالفات الظاهرة، وترك السلام عليهم لعلهم يتوبوا ويبادروا إلى الطاعة ومراجعة النفس، والعودة إلى سبيل المؤمنين. قال كعب رضي الله عنه في قصته: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغايروا لنا، حتى تغيرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباه فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد! وهكذا نفع الله المؤمنين الصادقين بهذه العقوبات الدنيوية التي تطهرهم وتزكيهم، وأما من سقط عن عين الله وهان عليه كالمنافقين فإنه يخلى بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، وهو عين الإهانة والعقوبة التي لا عقوبة معها: { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(9).
(1) [التوبة:43]. (2) [التوبة:49]. (3) [التوبة:107]. (4) [التوبة:108]. (5) [القصص:68]. (6) [التوبة:118]. (7) [الأنعام:110]. (8) [التوبة:77] (9) [الأنعام:44- 45].