غزوة خبير

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سامح قنديل | المصدر : www.quranway.net

 

كانت معاهدة الحديبية كما سماها الله تعالى: { فَتْحاً مُّبِيناً } بكل ما يحتمله معنى الفتح من مكاسب سياسية ودعوية وأمنية وعسكرية، بل واقتصادية أيضاً، وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتأديب المناوئين من أعراب البادية، وتأمين مخاطرهم ضد المسلمين، كما كانت فرصة أيضاً للتفرغ للخطر اليهودي الذي لا يكف عن التآمر والعدوان متمثلاً في خيبر وما حولها، وكان اليهود أخطر الطائفتين، فلم ينس المسلمون أنهم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين في غزوة الخندق، ودفعوا قريظة إلى نقض العهد في أحرْج اللحظات، وتحالفوا مع غطفان وغيرها من أعراب البادية لقتال المسلمين، وساندوا المنافقين في كل مواقفهم ومؤامراتهم، إضافة إلى أنهم كانوا أقوى الطوائف اليهودية بأساً وأعظمها دربة على القتال، وكان قد أوى إليهم زعماء بني النضير وغيرهم من المبعدين عن المدينة، لذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عودتة من الحديبية ؛ ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر، وكان الله قد أنزل عليه في الحديبية ما فيه إشارة إلى فتح خيبر، وحيازة غنائمها وذلك قوله تعالى: { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }[الفتح:20] فجعل لهم فتح الحديبية، ووعدهم مغانم خيبر.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من أصحابة وهم أهل بيعة الرضوان، الذين وعدهم الله بمغانم خيبر، ورد أعراب المدينة الذين تخلفوا عن عمرة الحديبية وأرادوا الخروج إلى خيبر للغنيمة ! وسار الجيش بروح إيمانية عالية رغم علمهم بمنعة حصون خيبر، وشدة بأس رجالها، وقوة عتادهم الحربي، وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان ليفصلوا خيبر عن الشام، وعن حلفائها من غطفان فلا يمدونهم، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يقربهمحتى يصبح، فلما أصبح، خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد، والله محمد والخميس ! ـ أي الجيش ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خرجت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
وأسرع اليهود باللجوء إلى حصونهم كعادتهم في حربهم، حيث يكرهون اللقاء في الميادين المكشوفة، ويؤثرون الكفاح من وراء الجدران !!
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ }[البقرة:96] وهل أجبن من يهود ؟!
وكانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستيلاء على حصون خيبر المنيعة، تتلخص في مناوشة بعضها بقوات صغيرة، وتركيز الهجوم على حصن واحد بقواته الرئيسية، حتى يتم له الاستيلاء على الحصن، ثم ينتقل بهجومه المركز على حصن آخر، وهكذا، ولا تعرف الخطط العسكرية الحديثة في زماننا، أسلوبا أفضل من هذا في حرب المدن.وبدأ الهجوم وراحت حصون خيبر الممتدة في المنطقة على شكل سلاسل، والتي يدافع عنها نحو عشرة الآف مقاتل، تسقط بأيدى المسلمين حصنا بعد حصن ! وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة وقتالاً مريراً عند فتح بعض هذه الحصون، خصوصاً الحصون الأولى كحصن ناعم الذي كان خط الدفاع الأول لليهود، لموقعه المتميز ومكانته العسكرية، وقد دار القتال حوله أياما، واستشهد تحته محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة الفارس المعروف، وكان ذلك في شدة الحر وقد أصابت الناس مخمصة شديدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غدأ رجلايحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ! فبات الناس يتساءلون ويختلفون أيهم يُعْطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يستبشرون لذلك، لا رغبة في المنصب والجاه وإنما طمعا في الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفاتح أنه: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وكان يشتكي عينيه، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، ثم أعطاه اللواء وقال له:انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ! وفي هذا التوجيه ما يؤكد حرص المسلمين على نشر الدين وهداية الناس إلى الحق وأن هداية رجل واحد إلى الحق أفضل من أنْفس أموال الدنيا وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصرف نفوس أصحابه عن التطلع إلى الغنائم العاجلة التي تتضمنها ثروات اليهود الهائلة فيما لو هزموا.
ويخرج من حصن اليهود فارسهم المقدام، وبطلهم الهمام الذي يدعي مرحبا، يختال في مشيته ويخطر بسيفه، ويرتجز ليهزم معنويات المسلمين:
قد علمت خيبر أني مرحب         شاكي السلاح بطل مجرب
إذا السيوف أقبلت تلــهب         أطعن أحيانا وحينا أضرب
فبرز إليه على رضي الله عنه وهو يقول:
أنا الذي سمتنى أمى حيدره         كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصالح كيل  السندره!
فاختلف هو وعلى ضربتين، فضربه علىَّ على رأسه ضربة كان فيها حتفه! حتى عض السيف بأضراسه، وسمع أهل المعسكر صوت ضربته، مما أثر سلبياً على معنويات اليهود، ومن ثم كانت هزيمتهم، وكان الفتح على يد على رضي الله عنه، ثم تتابع النصر للمسلمين وجعلوا يفتحونحصناً بعد حصن، كلما فتحوا حصناً انتقل مَن فيه مِن اليهود فراراً إلى الحصن الذي بعده، حتى انهارت معنوياتهم، وخمدت مقاومتهم، واختبئوا في آخر حصونهم فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما حتى طلبوا الصلح على أن تُحقن دماؤهم وأن يخرجوا من أرض خيبر بذريتهم، ولا يصطحب الواحد منهم إلا ثوبه على ظهره، فوافق لهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وسقطت خيبر بيد المسلمين، وتتابعت بعدها سائر المعاقل اليهودية المجاورة، وغنم المسلمون المغانم الكثيرة التي وعدهم الله بها، ثم جاءت يهود تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعملوا في زراعة الأرض ولهم النصف من ثمرها، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم لموافقة ذلك لمصالح المسلمين الذين لم يكن عندهم وقت للتفرغ للزراعة، على أنه قال لهم: (إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم!).
ومن الطريف أن يقتل اليهود وهم يدافعون في حصونهم المنيعة ثلاثة وتسعون رجلاً بينما ينال الشهادة من المسلمين، والذين يهاجمون في ساحات مكشوفة، خمسة عشر رجلاً ! أوعشرون على أقصى تقدير !! فلا نامت أعين الجبناء.
وفي هذه الغزوة أهدت امرأة يهودية شاة مسمومة للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثرت السم في  الذراع لما علمت أنه يحبها! فتناول النبي صلى الله عليه وسلم ذراع الشاة فأخبرته أنها مسمومة! وهذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، ومن حفظ الله له وعصمته من الناس، وقد دعا النبي المرأة وسألها فاعترفت ولم يعاقبها! حتى مات بشر بن معرور وكان قد أكل من الشاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها به.
وفي هذه الغزوة أيضاً وقعت صفية بنت حيى بن أخطب سيد بني النضير في الأسر فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وقد أسلمت وشرفت بأمومة المؤمنين، وفيها أيضاً حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة، وهو نكاح لأجل، وقد كان حلالا في الجاهلية، واستعمل في بدء الإسلام حتى حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على التأبيد، وقيل بل كان تحريمه عام الفتح، وأيا ما كان، فالمتعة محرمة بنصوص الوحي.
وعند عودة المسلمين من خيبر رجع من الحبشة المهاجرون إليها منذ عشر سنين، وفيهم أم حبيبة أم المؤمنين، وجعفر بن أبي طالب ـ وقدم معهم الأشعريون ـ قوم أبي موسى ـ وبعدهم الدوْسيون ـ قوم أبي هريرة ـ وقد عاد فتح خيبر على المسلمين بالخير الكثير، وعزز مكانتهم الإقتصادية، حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما: " ما شبعنا حتى فتحنا خيبر "