كان يهود بني قريظة في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عند مجيء الأحزاب، وكانت ديارهم في عوالى المدينة، وكان هذا العهد يلزمهم أن يكونوا أعواناً للمسلمين على أعدائهم، لكن حيى بن الأخطب زعيم بني النضير والذي سبق وحرض قريشاً وقبائل العرب على غزو المسلمين جاء إلى كعب بن أسد القرظي يحثه على نقض العهد، ويغريه بقوة الأحزاب، ويمنّيه بالقضاء على المسلمين، ويطمئنه بأنه سيدخل معه حصنه إن رجع الأحزاب وما زال به حتى نقضت قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعظوا مما نزل ببنى النضير، ومن قبلهم بني قينقاع، فهذه طبيعة اليهود التي لا ينفكون عنها، ولا يستطيعون التخلص منها. إن مسلكهم بإزاء المعاهدات التي أمضوها قديماً وحديثاً يجعلنا نجزم أن القوم لا يدعون خستهم أبداً، وأنهم يرعون المواثيق متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، ولو تركت الحمير نهيقها والأفاعي لدغها ترك اليهود نقضهم للعهود. وقد نبه القرآن إلى هذه الخصلة الشنعاء في بنى إسرائيل فقال: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ }[الأنفال:55-56] لكن الله تعالى نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب إلى بيته، ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح ! والله ما وضعناه ! فاخرج إليهم، قال: فإلى أين ؟ قال: هاهنا، وأشار إلى قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى رايته لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه. وإنما تعجل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة للخروج قبل أن يتحصنوا بالحصون ويأخذوا العدة لذلك، وقد أدرك جماعة من الصحابة صلاة العصر في الطريق، حاملين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم صلاتهم على قصد السرعة، ولم يصلها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضى وقتها حاملين الأمر على حقيقته، فلم يعنف أحد الفريقين لأن كلا عمل باجتهاده، فلا يأثم وقد بذل وسعه، لأن لكل مجتهد نصيب، فالحق واحد لا يتعدد. وتلاحق جيش المسلمين الذي كان قوامه ثلاثة آلاف إلى ديار بني قريظة، وحاصروهم في حصونهم خمسة وعشرين ليلة، وألقى الله الرعب في قلوبهم، فحاولوا أن يفاوضوا المسلمين وطلبوا منهم أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فطلبوا الجلاء بأنفسهم من غير مال ولا سلاح، فلم يرض أيضاً، بل قال: لابد من النزول والرضا بما يحكم عليهم، خيراً كان أو شراً، فقالوا له: أرسل لنا أبا لبابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وأولاده في منطقتهم، وكان من نقباء الأوس رضي الله عنه، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، يريد أنه الذبح ! ثم انتبه من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء وخجلاً من مقابلته، وأتى المسجد النبوى وربط نفسه في سارية من سوارى المسجد حتى يقضى الله فيه أمراً، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا، ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إنه لو جاءنى لأستغفرت له وأما وقد فعل ما فعل فأتركه حتى يقضي الله فيه، وقد نزل بعد أيام قوله تعالى: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }[التوبة:102] ثم إن اليهود انهارت معنوياتهم ودب الرعب في نفوسهم وهم في حصونهم المنيعة فبادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام رجال من الأوس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل قريظة كما عامل بني قينقاع حلفاء الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ فقالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وكان بالمدينة ولم يخرج معهم للجرح الذي أصابه يوم الأحزاب ، فأتى به على حمار قد حمل عليه وصف به قومه وقالوا له يا أبا عمرو ! حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت ! فلم يرجع إليهم شيئا ولم يلتفت إليهم ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له قومه : يا سعد إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك ، قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من هاهنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيماً قال : نعم ، قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسم أموالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله ! وكان سعد في غاية الإنصاف. فإن بني قريظة بالإضافة لما ارتكبوه من الغدر الشنيع ونقضهم للعهد، وما استقبلوه به يوم الأحزاب يوم أن ذهب يناشدهم الوفاء فأفحشوا له القول، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين من الأسلحة ما تعجب المسلمون منه وهم يجمعونه بعد نزولهم من حصنهم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتنفيذ حكم سعد فيهم، وهكذا تم استئصال أفاعى الغدر والخيانة الذين نقضوا الميثاق، وأعانوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة مرت عليهم، فصاروا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام، وقتل معهم شيطان بني النضير، وجرثومة هذه الفتن: حيى بن أخطب، الذى أغراهم بنقض العهد، ووعدهم أن يكون معهم في حصنهم إن تخلى عنهم الأحزاب، وقد كان ! والعجب من جلد هذا الكافر إلى آخر رمق ! حيث جيء به ليقتل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله ما لمت نفسى في معاداتك ! ولكن من يغالب الله يُغلب ! ثم قال: أيها الناس لا بأس بأمر الله ! كتاب وقدر، وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل، ثم جلس فضرب عنقه ! وفي بني قريظة أنزل الله عز وجل: { وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }[الأحزاب:25-26]. وكان سعد بن معاذ رضى الله عنه قد دعا ربه يوم أن أصابه السهم قبل رحيل الأحزاب فقال: " اللهم لا تمتنى قبل أن تقر عينى من بني قريظة " فلما أقر الله عينه من بني قريظة، دعا ربه فقال: " الله إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقنى لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينها فاقبضنى إليك " ! فانفجر جرحه وكان قد برأ فلم يلبث أن مات رضي الله عنه ! لقد كان دعا ربه أن يبقيه على قيد الحياة من أجل مواصلة طريق الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم . أكرم بها من أنفس ! تلك التي لا تقر إلا بالإيمان، أكرم بها من أنفس ! تلك التي لا تقر إلا بالجهاد ! بتحمل المسئولية وحمل الأمانة، وما أكثر الذين يتمنون طول الحياة لتقر أعينهم من اللذات والرغبات ! { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }[الحجر:3]، { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }[الفرقان:44] كان سعد بن معاذ في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، ولما حملت جنازته قال المنافقون: ما أخف جنازته ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت تحمله ! وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ! واهتزازه فرحاً واستبشارا وسروراً بقدوم روحه، لقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه كثيراً ويبشره بالجنة على عظيم أعماله، وقد أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال أتعجبون من لين هذه ؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها أو ألين. {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[البينة:8] أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.