كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن العمرة واجبة في العمر مرة على الصحيح من أقوال أهل العلم، لقول الله -تعالى-: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(البقرة:196)، كما أن الحج فريضة الإسلام واجب أيضًا في العمر مرة.
والمتابعة بينهما من أعظم الأعمال وأفضل القربات، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني.
فالمتابع بين الحج والعمرة يعطيه الله -تعالى- أمرين عظيمين:
1- نفي الفقر عنه.
2- ونفي الذنوب عنه -أي: الصغائر رحمة من الله تعالى-.
وينبغي لمن أكرمه الله -تعالى- بهذه العبادة العظيمة أن يشهد المشاهد الإيمانية الخاصة بها، وأن ينتبه لبعض المخالفات التي وقع فيها كثير من المسلمين، لتقع عبادته على الوجه الصحيح الذي يحبه الله -تعالى- ويرضاه.
المشهد الأول:
أن تشهد فضل الله -تعالى- عليك، إذ اختارك من بين الملايين لزيارة بيته الحرام، ولزيارة المسجد النبوي الشريف، فهذه منة ونعمة تفتقد إلى شكر، فالواجب عليك أن تنشغل بشكر مولاك، والاجتهاد في طاعته -سبحانه-.
المشهد الثاني:
أن يشهد العبد مشهد التوكل على الله -تعالى-، وإظهار الافتقار إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، والتوكل هو اعتماد القلب على الله -تعالى-، وتفويض الأمر إليه ليقينه بغنى الله -تعالى-، وأنه كافي من لجأ إليه، وحسب من توكل عليه، فمن استنصر به نصره، ومن دعاه أجابه، ومن انقطع إليه تولاه وحفظه، وأنه نعم المخلف، الذي يخلف على عبده نفقته فـ (ما نقص مال عبد من صدقة) رواه الترمذي، وصححه الألباني. فما تنقص النفقة التي تنفقها العبد في طاعة الله، بل الله يزكيها وينميها لعبده؛ لأنه جواد كريم (ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(الطلاق:3)، فيتوكل العبد على ربه -تعالى- في أن يخلف عليه نفقته؛ لأن الله الكريم قد جرت عادته بذلك.
المشهد الثالث:
أن يشهد العبد بقلبه مشهد الامتثال والانقياد لله رب العالمين، فقد قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب:36), فلا اختيار للعبد، ولا رأي، ولا استحسان مع أمر الله -تعالى-، ومع أمر رسول -صلى الله عليه وسلم-، إنما هو التسليم والاستسلام، والانقياد التام لله رب العالمين.
وقال الله -تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(النور:51). أن يقولوا: سمعنا بآذاننا وأطعنا بجوارحنا، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي: الفائزون.
ويقول -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(البقرة:143). أي: علمًا يظهر لنا نحاسبكم عليه، ولنعلم من الطائع ومن العاصي! فكلٌ ممتحن ومختبر (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي: هذا ثقيل إلا على النفوس المؤمنة التي آمنت وأيقنت واتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به من ربه -تعالى-.
فالأمر له والملك له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والواجب على العبد أن يدور مع أمر ربه حيث دار.
والغاية من جميع التكاليف الشرعية هو أن يرى من العبد امتثاله وانقياده، قال الله -سبحانه وتعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة:177).
فليس الأمر في توجهكم ناحية الكعبة أو ناحية بيت المقدس، إنما الأمر أن يرى امتثالكم، فحيثما وجهنا توجهنا، ولو وجهنا في اليوم مرات متعددة توجهنا امتثالاً لأمره -تعالى-، فهذا هو شأن المؤمن! فهو يصلي، ويتوجه إلى الكعبة، ويطوف بها، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق رأسه أو يقصره مشاهدًا امتثاله لأمر الله -تعالى-، يقول: يا رب العالمين، أنا ممتثل أمرك، أمرتني أن أطوف بالبيت، وأن أسعى بين الصفا والمروة وغيره من المناسك فأنا بين يديك وطوع أمرك.
لما قبـَّل عمر -رضي الله عنه- الحجر الأسود قال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وعندما يحلق شعر رأسه أو يقصره يقول بقلبه: يا رب، أحلق رأسي امتثالاً لأمرك، وذلاً وخضوعًا لك، لأن الشعر زينة، وحلق الزينة نوع من الذل، فأنا أحلقه لك أنت ذلاً وخضوعًا لا لغيرك.
المشهد الرابع:
أن يشهد العبد مشهد إقامة الذكر لله -تعالى-. لماذا؟؟
لأنهم كانوا في الجاهلية إذا حجوا إلى البيت قالوا في تلبيتهم: "إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، لكل قبيلة صنمهم الذي يعبدونه من دون الله، فكانوا يصرفون الذكر له لا لله -تعالى-!
فالعبد المؤمن في جميع مناسكه يستحضر هذا المشهد، إقامة الذكر لله وحده لا لغيره، ولذلك شملت كلمة التلبية جميع أنواع التوحيد والثناء على الله -تعالى-: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
أي: إجابة لك بعد إجابة، فأنا يا رب ألبي نداءك: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(الحج:27)، آتي بيتك من شقة بعيدة، إقامة للذكر لك وحدك لا لغيرك.