لما كان التأثير يتم بمقدار عـظـمـة المؤثر ظهر تأثير تفسير القرآن في بناء الإنسان وشخصيته قوياً وكاملاً، ويصعب علينا حـصـر جميع جوانب التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، وسأقتصر على بعض الجــوانـب. وأقـــــول: إن الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقه فيه يرقق إحساس الطالب ويقوي شعوره، وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يجعله يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم. ومــن مبتكرات القرآن في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، وجـعـل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بغيره ظناً بنفسه، وجعل لمز غـيـره لمزاً لنفسه، وجعل السلام على غيره سلاماً على نفسه، وكل ذلك أراده القرآن في تعبيراته. قال ـ تـعـالـى ـ في سياق أخبار بني إسرائيل: ((وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَـكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة: 84، 85]. فـجـعــل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر ذاته. قال القرطبي: (ولما كانت ملـتهـم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها)(1). قال الشيخ ابن عاشور: (وليس الـمـراد النـهـي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه، أو يخرج نفسه من داره؛ لأن مثل هذا مما يزع المرء عـنـــه وازعه الطبعي.. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره)(2). ومـثــــل هذا السياق قوله ـ تعالى ـ: ((فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54]. ومعناه: فليقتل بعضكم بـعـضــــاً بــــأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله نفسه. قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل)(3). وقــــال الله ـ تعالى ـ في سياق هذا المعنى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] أي لا يقتل بعضـكـــم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن الـمـــراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه)(4). قال الحافظ ابـــن كثير: (وهو الأشبه بالصواب)(5)، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين، فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه)(6) وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة)(7). وقد بين الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وقال: ((...كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَـتَـــلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة: 32]. ومن تعبيرات القرآن بالنفــس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة: 105]. نقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ((عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ)) ويـعـنـي علـيـكـم أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعـظ بعضكم بعضاً، ويرغّب بعضكم بـعـضـــــاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات)(8)؛ لأن المؤمنين إخوة في الدين. ومـــن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قال ـ تعالى ـ: ((فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِـكُــــــمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) [النور: 61]. والمعنى: فليسلّم بعضكم على بعض، وهــم أهـــل البيـوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منـكــم فـي الدين، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم، وقد أنكر الشيخ ابن عاشور عـلـى من فهم من الآية أن الداخل يسلم على نفسه، فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ، وأهملوا دقيقته؛ فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب)(9). أقول: وهو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض)(10). ومن تعبيرات القرآن بالنـفـــس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) [الحجرات: 11]. والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه وإنما اللاّمز يلمز غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزل البعض الملموز منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها. ومن تعبيرات القرآن عن الـغـيـر بالـنـفــس قوله ـ تعالى ـ: ((لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً)) [النور: 12]. الـمــراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة؛ فهلاّ وقت أن سمعتم حديث الإفك هذا ظنـنـتـم بأنفسكم أي بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاً؛ إذ لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هــذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبــة والمودة والإخاء والإحساس الصادق، حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه(11). قــــــال الرّازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم)(12). فهذا الأسلوب القرآنــي وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة ويحدث في النفس أثراً وإحساساً يبـعـثـها على الامتثال؛ فالطالب الذي يربى على هذه المعاني وهذه الدقائق القرآنية، لا شك أنها تؤثر فيه وتغرس فيه هذا الإحساس وهذا الشعور. ومن تـدبــر هـــذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين، ودمه دم الآخرين، وظن السوء بهم ظن بنفسه، والسلام عليهم سلام على نفسه، وعيبهم عيب لنفسه. لا فرق في المحافظة عـلـى الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه، وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [النساء: 1]. وقــــال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحــــــد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وكل هذه المعاني وإن كـانـت كامنة في القرآن فإن التفسير يكشفها ويجليها. إن الاشتغال بفهم القرآن والتفقه فيه يكون سبباً للطمأنينة والسكينة ويحصل لصاحبه عز الدنيا وسعادة الآخرة؛ كما أخبر بذلك المعلم الأول صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويـتـدارســـونـــه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده)(13). وقد دلت التجارب العملية على ذلك؛ فهذا الرازي ينقل لنا تجاربه فيقول: (وأنا نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم)(14) يعني تفسير القرآن. وقد نقل هذا النص رشيد رضا، ثم قال مبيناً كلامه: (أي: علم القرآن بتفسيره؛ فليعتبر بهذا من يضيعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها، ويرجعوا إلى كتاب الله، ويطلبوا السعادة من فيضه دون غيره. ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا إلى تفسيره)(15). ونقله الشيخ الطاهر بن عاشور في تحريره(16)، ومصداق ذلك في كتاب الله: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)) [الأنعام: 155]. وقد أدرك هذه السعادة الغامرة الإمام القرطبي فعزم واستفرغ قوته ورأى أن يشتغل بالتفسير مدى العمر ـ رحمه الله تعالى ـ(17). وإن بعض العلماء الذين برزوا في الدعوة إلى الله، وقاموا بنهضة شاملة وإصلاح عامّ اعتمدوا في دعوتهم ـ بعد الله ـ على دروس التفسير، فأثمرت دعوتهم ونالت قبولاً، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات، وأحدثت دعوتهم تغييراً إصلاحياً في العقيدة والسلوك، وانتشرت في الشرق والغرب. وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرّزين الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ت 1376هـ. وقد اعتمد في دعوته في نشر التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه وبرع فيه؛ فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، و(تيسير اللطيف المنان فـي خلاصـة القرآن)، و(القـواعد الحسان لتفسـير القـرآن)(18). وإذا انتقلنا غرباً إلى مصر فإننا نجد محمد عبده يعتمد في دروسه على التفسير(19)، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروساً في التفسير، ويعلل لذلك بقوله: (إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء) ثم واصل بعده رشيد رضا إلى أن حان أجله دون إكمال التفسير ـ رحم الله الجميع ـ. وإذا انتقلنا إلى تونس غرباً وجدنا الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيراً كاملاً سماه: (التحرير والتنوير)، فحرر الناس من الجهل والظلمات ونوّر به البلاد التونسية. وإذا انتقلنا قليلاً إلى الغرب في الجزائر فإننا نجد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قد اقتصر عليه في دعوته الإصلاحية الشاملة ابتداءً بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار؛ فقد عكف على تفسير القرآن إلى أن ختمه في ثلاث وعشرين سنة على مدة التنزيل ولم يختم التفسير رواية ودراية في الجزائر غيره منذ أن ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة فتعلم الناس منه كلّ شيء(20). وإذا عرّجنا جنوباً إلى بلاد شنقيط وجدنا الإمام محمد الأمين الشنقيطي يفسر القرآن بالقرآن ويسميه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). فهؤلاء الأئمة ـ رحمهم الله ـ كانوا مجاهدين بالقرآن: بتفسيره وبيانه والتفقه فيه، وقد سمّى القرآن ذلك جهاداً كبيراً فقال: ((وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)) [الفرقان: 52] أي بالقرآن كما ذكره ابن عباس، وفي هذا منقبة عظيمة لمن يدعو إلى الله ـ تعالى ـ بالقرآن العظيم وتفسيره وتوضيحه للناس فهو مجاهد(21) اقتداءً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمره الله أن ينذر قومه بالوحي: ((قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء: 45] وقال: ((وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)) [الأنعام: 19] فكل من أنذر الناس بغير هذا الوحي فهـو مخطئ. من ثمرات التفسير: من أهم ما يثمره تفسير القرآن والتفقه فيه في شخصية الطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطلب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه كما رتبه الله في قوله: ((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ)) لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلاً، وينتفي. وما وُجِدَ التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التعليم، وهو التلاوة والتفسير والحكمة والتزكية؛ كما جاء في قوله ـ تعالى ـ: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)) [البقرة: 129]. فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن الكريم نعلّم الطلاب التعصب والتقليد من حيث لا ندري؛ ولذلك نجد كتب التفسير تختلف اختلافاً كبيراً؛ نظراً لكون أصحابها دخلوا باب التفسير بعدما تشبعوا بأفكار ومذاهب ظهرت آثارها في تفسيرهم، في حين أن الذي دخل إلى التفسير كما دخله الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى آثارهم ظهرت آثار التفسير فيهم؛ فالسلف تأثروا بتفسير القرآن، وأثّر التفسير فيهم، والخلف أثروا في التفسير، ولم يتأثروا به. فظاهرة التعصب والتقليد لا تُمحى إلا بتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه؛ لأن النظر في القرآن نفسه وفي ألفاظه بالذات يجعل الطالب يأخذ الحكم الذي تدل عليه الآية دلالة قطعية أو الحكم الأقرب إلى نص الآية إن اختلفت فيها أنظار العلماء. وفي دروس التفسير والتفقه في القرآن يتعلم الطالب الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد. ومما يدل على استقلال شخصية طالب علم التفسير والتفقه في القرآن ما لاحظته عند ابن العربي مع أنه كثيراً ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من كتابه: (أحكام القرآن) على عدم التعصب وعلى ترجيح مذهب المخالفين لمذهبه مبيناً الوجه والسبب، فقال عند قوله ـ تعالى ـ: ((كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)) [الأنعام: 141] قال: قال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات) ثم تعرّض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه فقال: (أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق)(22). قال القرطبي: (وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه)(23). هذا هو حال من يطلب فقه القرآن لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل القرآن مرآته؛ فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبو حنيفة وابن العربي ـ رحم الله الجميع ـ فما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد. والطالب الذي يتعلم على هذا النمط في التفسير والتفقه في القرآن تكتسب شخصيته اتزاناً واعتدالاً وتكاملاً ولا ينحاز ولا يميل؛ لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه واحدٌ، فلا يطغى عليه جانب دون جانب؛ فهو عند آيات الأسماء والصفات يتعلم أسماء الله وصفاته بلا تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك، ولا شك، وإذا مر على البر والإحسان تعلم ذلك، وتطبع به وعمل به، وإذا مر على الآيات التي يذكر فيها أخبار الأمم السابقة وأحوالهم وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها. وإذا مر على الآيات التي تدعو إلى التفكر والتأمل والاعتبار لمخلوقات الله الكونية تعلم طرق التدبر والتفكر، فتنمو فيه ملكة التفكير السليم والنظر السدىد والتصور الصحيح، فينعكس ذلك على سلوكه؛ لأن سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، وأفعالُه ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات. ومن جهة أخرى؛ فإن الطالب الذي يتفقه في القرآن يمر على جميع الآيات القرآنية فيتكامل الموضوع لديه؛ لأن موضوع الآيات ومقاصدها ليست منسوقة في موضع واحد، وليست الآيات في سياق واحد؛ فتجد أن الآية أو الآيات مفصولة عن الأولى بجملة من الآيات، وهي في الموضوع نفسه، وقد تكون ناسخة، وقد تكون منسوخة، وقد تكون بياناً وتفسيراً، وقد تكون قيداً، وقد تكون إجابة عن شبهة؛ والأمثلة على هذا النمط كثيرة، منها قوله ـ تعالى ـ: ((قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ)) [ص: 65] هي جواب لقول كفار قريش في صدر السورة: ((وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) [ص: 4]، وقوله ـ عز وجل ـ في آخر السورة: ((وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ(65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ)) [ص: 65، 66]، هي جواب لقولهم في صدر السورة: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً)) [ص: 5]، وقوله ـ جل وعلا ـ في آخر السورة: ((قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)) [ص: 67، 68]، هو جواب وتفنيد لقولهم في صدر السورة: ((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ)) [ص: 7]، هذا ما وقع في السورة الواحدة نفسها، وبين إثارة الشبهة والجواب عنها أكثر من ستين آية. أما ما وقع الجواب عنه في غير السورة التي وردت فيها الشبهة فكثير، ومنه قوله ـ تعالى ـ: ((ن) وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)) [القلم: 1، 2]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)) [التكوير: 22]، فمثل هذه الآيات أجوبة تفند زعمهم الباطل كما حكاه القرآن: ((يَا أَيُّهَا الَذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ)) [الحجر: 6]. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن القرآن كالسورة الواحدة، وحينئذ يتكامل الموضوع لدى الطالب ويؤثر في بنائه العلمي والنفسي. والله أعلم. التفسير ووحدة المسلمين: ومن أهم ما يثمره الاشتغال بالتفقه في القرآن وعلومه وتفسيره الوحدة بين جميع المسلمين: وحدة في الإحساس والشعور، ووحدة في الوجدان والتفكير، ووحدة في السلوك والعمل، فتتقارب النفوس وتستقيم وتتحد نوازعها ومشاربها وتصوراتها لصدورها عن أصل واحد ونبع واحد وهو التفقه في القرآن وعلومه فيزدادون صلة ووداً ومحبة. التفسير وبناء الشخصية السّويّة: ولذلك كان أهل القرون الفاضلة إخوة متماسكين، ولم يكن بينهم هذا التباعد وهذا الجفاء وهذا الانفصال الذي نراه اليوم بين طلبة العلم من جهة وبينهم وبين أساتذتهم من جهة أخرى. تفسير القرآن وفهمه يساهم مساهمة فعالة ترى آثارها بادية في بناء الشخصية السوية المعتدلة؛ لأن القرآن يتضمن علوماً كثيرة ومنوعة ومكررة بمختلف الأساليب، وكل واحد منها يغذي جانباً من جوانب الشخصية مع المحافظة على التوازن والتكامل؛ لأن نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان نظرة شاملة تغطي جميع مجالات حياة الإنسان. ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة حث عليها الشرع، وقررها القرآن ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 143] وكان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها. وقد تُحْدث دراسةُ العلوم الإسلامية المفصولة عن القرآن الكريم انفصالاً في بعض جوانب الشخصية؛ فقد يتعلق بعضهم بالفقه فقط، والآخر بالحديث، وبعضهم بالعقيدة، ولكن هذه العلوم هي بعض مما تضمنه القرآن وهي جزء من التفسير. وقد يكون الاقتصار عليها مؤدياً بصاحبه إلى الميل والشطط والغلو والتعصب، وقد حصل شيء من هذا؛ وكل ما نراه من فروق واضحة بين الطلبة يرجع إلى الاختلاف بينهم في تخصصات مفصولة من القرآن، وإن كانت تعتمد على القرآن؛ فالفصل وحده كاف لإحداث هذا، ثم لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن هذه الآية في الأحكام، وهذه في العقيدة. وإذا كان أولها في الأحكام وآخرها في العقيدة فماذا يفعل؟ ولذلك لم تنضبط آيات الأحكام عند العلماء، وكان من الموفقين في ذلك الإمام القرطبي؛ إذ سمى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن)، وفسر القرآن كله ولم يستغن عن بعضه، ولم يستطع أن يسلخ منه هذه الأحكام. كما فعل أبو بكر الجصاص وابن العربي، فإن الفصل وحده كاف لإسقاط بعض المعاني، والربط وحده يتضمن أحكاماً. قال الرازي: (إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط). فالذي يقضي على مظاهر الانحراف والغلو والشذوذ هو الاشتغال بالقرآن فهماً وتفسيراً وتفقهاً. ومما يؤخذ على من يقتصر على موضوع واحد ومادة واحدة أو تخصص واحد أنه ينعزل وينغلق على ما حبس نفسه فيه، وانزوت شخصيته في دائرة ضيقة من علوم الإسلام؛ وبذلك تنحصر علاقته بالأمة في أشخاص معدودين، وتتقلص مودته إلى العدد القليل من الناس، ولم تكن له مشاركة ولا مساهمة عفوية مع الآخرين، فقد بتر نفسه من جميع بقية فروع المعرفة وعلوم التنزيل التي حواها كتاب الله. تفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه يصل أصحابه بأصحاب التخصصات العلمية الأخرى، ويرتبط بجميع أصناف الناس وطبقاتهم، ويطمئنون للأخذ عنه والاستماع إليه؛ لأنه لا يعلم فناً معيناً بعينه، ويستطيع أن ينشر عقيدة التوحيد على أوسع نطاق من خلال دروس التفسير. وانفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين ولا من شأن عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ؛ فلا بد من ربط كل هذه العلوم وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم، ولا يحقق هذه الغاية إلا تفسير القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية التربية والتعليم من جميع النواحي. ولم يكن للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كتاب يدرسونه، وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في مجالسهم يتذاكرون إلا ذلك، فخلف من بعدهم قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية. قال الشيخ عبد الرحمن النحلاوي: (فانفصال المواد الدراسية ليس من طبيعة الثقافة الإسلامية، ولا من شأن التربية الإسلامية التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي انبثقت عنه ما تزال وظيفتها توضيح الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها فلا بد من ربط كل هذه العلوم بهدف التربية الإسلامية). إن فصل المواد الدراسية من القرآن والسنة بمرور الزمن قد يُنسي ربطها به، ويتقرر في أذهان الناس استقلالها، وحينئذ يدخلها اجتهادهم واستحسانهم بالتغيير والتبديل والإضافة. ومن السمات البارزة عند بعض أهل الفرق أنهم لا يفسرون القرآن كله، ولا يتبعونه آية آية؛ لأنهم إن فعلوا فإنهم يصطدمون بالآيات المحكمات التي تناقض مذهبهم وهواهم، فيسلكون مسلك الانتقاء والاختيار، ومن فسر القرآن كله منهم كالزمخشري من المعتزلة والطبرسي من الشيعة وغيرهم، فإنهم يوجهون الآيات التي تصادم مذهبهم بالتأويل ويسلكون في سبيل ذلك كل مسلك انتصاراً لمعتقداتهم؛ فهم من باب قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: ((إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) [الأنعام: 159]. قرأ الجمهور: ((فَرَّقُوا دِينَهُمْ)) من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد، وجعله فرقاً وأبعاضاً، وقرأ حمزة والكسائي: [فارقوا] من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته؛ لأنه واحد لا يتجزأ، ومن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل. والدين لا يتجزأ، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض)) [البقرة: 85] وقال: ((كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِـينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر: 90، 91]، وقال: ((إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [النساء: 150]. قال محمد حسين الذهبي: (إن الباطنية لا يفسرون القرآن كله؛ لأنهم يصدمون بآيات محكمات تردّ مذهبهم). وقال في بيان موقف الخوارج من التفسير: (لا يأخذون من القرآن إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها. وما رأوه يصادم مذهبهم حاولوا التخلص منه بصرفه وتأويله). وقد لجأ بعضهم إلى المتشابه لغرض نصرة المذهب الفاسد كما نص على ذلك القرآن المجيد فقال: ((فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ)). [آل عمران: 7]. وأهل الزيغ والضلال يفزعون إلى المتشابه الذي بواسطته يمكنهم أن يلبّسوا به، ويصرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها، وما دخلت البدع في دين الله إلا بسبب التعلق ببعـض الآيات وإهمال الآيات الأخـرى أو سوء فهم لها. فالمعتزلة تعلقوا بقوله ـ تعالى ـ: ((فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) [الكهف: 29] وأثبتوا حرية الإنسان، وقالوا: إنه خالق لأفعاله، ونفوا صفة الكلام لله رب العالمين، وتعلقوا بقراءة شاذة ((وكلَّم اللهّ موسى تكليماً)) فجعلوا موسى هو الفاعل المتكلم، وأغمضوا أعينهم عن القراءة المجمع عليها: ((وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) [الأعراف: 143]. ويقابلهم الجبرية فتعلقوا بقوله: ((وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان: 30] ونفوا نسبة الأفعال إلى من صدرت عنه، وقالوا: (الإنسان مجبور وعطلوا الأمر والنهي). والكرامية لم ينظروا في باب الإيمان إلا في قوله ـ تعالى ـ: ((فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا)) [المائدة: 85]،. وقالوا: (الإيمان قول باللسان فقط دون تصديق ولا عمل). قال القرطبي: (وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة). وهكذا حال من تعلق ببعض الكتاب دون بعض، وهو انحراف خطير في الفكر وشذوذ في التفكير واعتلال في الشخصية أوجبه الاقتصار على بعض الآيات دون بعض. قال رشيد رضا: (وفهم القرآن لا يكون صحيحاً إلا بالجمع بين الآيات المتقابلة في الموضوع الواحد الذي يختلف التعبير فيه). وإزاء هذا وذاك وفق الله المنتسبين لأهل السنة والجماعة في تفسير القرآن بالشمولية والاستيعاب لجميع الآيات القرآنية كلها، ولا يقتصرون على بعضها للاستفادة منها، ومن ثم؛ لم يكن عندهم هذا الشطط وهذا الانحراف وهذا الشذوذ. فالتفسير وفهم القرآن وحده هو الذي يقضي على ظاهرة التفرق والتحزيب والانتماء إلى فكر معين وتخصص معين؛ فمدرسة التفسير تذوب فيها جميع الفوارق. فإني أتصور الطالب وأتخيله عبداً يملكه شركاء مختلفون وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، وعليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أوامرهم المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه، وهذا واضح جلي في طلاب الجامعات التي لا تلتزم بمنهج القرآن. وأتصوره وأتخيله عبداً يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به وهو مستريح مطمئن مستقر على نهج واحد، وهذا واضح جلي في طلاب الجامعات التي تلتزم بمنهج القرآن الكريم. ولا شك أن الذي يتلقى علومه وفقهه من القرآن الكريم ـ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفسير ـ يخضع لهذه المادة ويتعلم منها، فتربطه بالقرآن، فينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ووضوح الطريق، فينشأ سوي الشخصية متزناً معتدلاً. والذي يتعلم هذه العلوم منفصلة عن القرآن ومن أشخاص مختلفين، فإنه يتأثر بذلك؛ لأن كل أستاذ يلقنه غير الذي يلقنه الآخر، وكل منهم يريده أن يكون على طريقته ومنهجه، فينعكس ذلك على شخصيته، فيتشتت ذهنه، وربما يحدث فيه شذوذاً عن الجادة، لذا يتأكد على رجال التربية والتعليم أن يكثفوا مقررات التفسير. ولم أرَ علاجاً أنفع لهذه الأمة كـفـهم القرآن وبيانه وتفسيره، وإن الأمة اليوم تحفظ القرآن وتردده صباح مساء، ولكن لا تفهمــه؛ فبينه وبينهم غيوم كثيفة وحجب وعوائق من أهمها وأشدها كثافة: ضعفهم في علوم اللـغــــة العربية التي نزل بها القرآن الكريم؛ فكيف يدعو الداعي الناس إلى الشريعة الإسلامية، وهـم لا يفهمونها ولا يفهمون مصدرها؟ ولو فهموا ما في القرآن من الأحكام والحكم وما فيه من الأســــرار واللطائف لتملكهم القرآن وجرهم إليه جراً كما جر بعض كفار قريش إلى الاستماع إليه في الليالي المظلمة، وكانوا يدفعون تأثيراتـه باللغـو: ((وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)) [فصلت: 26] فكانـوا مغلوبـين. المطلوب منا أن نفسر القرآن ونوضحه ونبينه فقط، وفي ضمنه نتعلم الأحكام والحكم والفقه والعقائد والأخلاق وكل شيء مما يحتاجه الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة. وبـيــــان القرآن وفهمه هو الكفيل ـ بإذن الله ـ لهداية هذه الأمة الحائرة، وجميع أصناف الناس عـلـــى مختلف مشاربهم يجدون في علم التفسير ما يروي الظمأ ويشبع الرغبة، وما يعدّل السلوك، وما ينظّم الغرائز والدوافع، ويقوّي الإيمان، ويصحح الاتجاه. والطريقة الوحـيـــدة التي يستطيع بها الأستاذ أن يبلغ منهج القرآن كاملاً غير منقوص هو علم التفسير؛ فليمتط من أراد الرشد سفينة التفسير؛ ليتعلم ما يسعده في دنياه وآخرته. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
(1) الجامع للقرطبي، 2/19. (2) التحرير والتنوير، 1/585. (3) الجامع للقرطبي، 1/376. (4) الجامع للقرطبي، 3/136. (5) تفسير ابن كثير، 1/524. (6) التحرير والتنوير، 18/376. (7) تفسير ابن كثير، 1/129. (8) تفسير الرازي، 6/118. (9) التحرير والتنوير، 18/376. (10) تفسير ابن كثير، 3/336. (11) الجامع للقرطبي، 6/186. (12) تفسير الرازي، 12/178.