منهج السلف في تفويض الصفات
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
مجلة التوحيد
| المصدر :
www.quranway.net
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، وبعد:
يقتضي القول بالتفويض في معاني الصفات الذي يحلو لمدعي الاتباع لطريقة أهل السنة والجماعة ولما عليه إمام المذهب أبو الحسن الأشعري اعتقاده- ربما لدقة هذا الأمر وعموم البلوى فيه، ولجهل الكثيرين بأهميته، ولكونه على حد قول الإمام الشافعي مما لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر- يقتضي ويستلزم التناقض «مع قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ..﴾ [الزمر/27، 28].
وقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ..﴾ [يوسف/1، 2] فقد أخبر أنه إنما أنزله ليعقلوه وأنه طلب تذكرهم،
وقال أيضاً: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ..﴾ [الحشر/ 21] فحض على تدبره وفقهه وعقله، كما حث على التذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئاً، بل نصوص متعددة تصرح بعموم ذلك مثل قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا..﴾ [محمد/ 24]، وقوله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا..﴾ [النساء/ 82]، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يُتدبر لما تُدبر»(1).
كما يقتضي ويستلزم أن يكون الله قد خاطب عباده بما لا يفهمون معناه، وأن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام بل وجميع الأنبياء والملائكة لا يعلمون معاني آيات الصفات، وأن يكون الأنبياء أنفسهم قد تكلموا بما لا يعقلون، وبُعثوا بتبليغ العباد وتكليفهم بما لا يفهمون، وهذا مستحيل حتى على افتراض صحة القول بجعله من متشابه القرآن لأنه إن جاز وجود المتشابه في القرآن أو حتى سائر كتب الله، فلا يصح وجوده في كلام الأنبياء لكون كلامهم كالشرح لما جاء عن الله، كما يستوجب القول بالتفويض أن يكون الله تعالى قد أنزل نحو مائة آية عبثاً لا تفيد العباد عقيدة ولا ديناً، وهذه كلها لوازم شنيعة بإجماع الأمة، ولذلك لا يعذر باعتقادها والتزامها المقلدون، بل يجب عليهم الإيمان بأن مراد السلف الصالح من تلك العبارات المنع من تأويل الصفات وإلزام الناس أن يعتقدوا بمعانيها اللغوية وأن لا يبحثوا عن كيفيات صفات الله التي دلت الآيات عليها، وأن الكيفيات هي وحدها الممنوع من تتبعها والتي يجب أن تكون من المتشابه دون أصل معناها فإن جميع العباد مكلفون باتباع أصل المعاني المذكورة، وبذلك يمكنهم أن يقصدوا ويتوجهوا إليه سبحانه.
ويستلزم القول بالتفويض في معاني الصفات أيضاً استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرأون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه(2)، وهذا من المحال، كما أنه من المحال أن لا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء وقد قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)،صحيح الجامع وقال فيما صح عنه أيضاَ: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)، ومع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت، ومع قول أبي ذر - رضي الله عنه -: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماُ)، وقول عمر فيما رواه البخاري: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظ ونسيه من نسي).. ثم يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب.
ومن المحال كذلك أن لا يكون بيان هذا الباب الذي يعد خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية قد وقع منه على غاية التمام، كما أنه من المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، أو أن يكون أصحاب هذه القرون الفاضلة غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما امتناع الجهل وعدم العلم فلأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة ووعي وطلب للعلم ونهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همه هو البحث في الإيمان بالله تعالى ومعرفته بأسمائه وصفاته وتحقيق ذلك علماً واعتقاداً، ولا ريب أن القرون المفضلة وأفضلهم الصحابة - رضي الله عنهم - هم أبلغ الناس في حياة القلوب ومحبة الخير وتحقيق العلوم النافعة.. وأما امتناع كتمان الحق وقول غير الصدق فلأن كل عاقل منصف عرف حال الصحابة - رضي الله عنهم- وعرف حرصهم على نشر العلم النافع وتبليغه الأمة، فإنه لن يمكنه أن ينسب إليهم كتمان الحق ولا سيما في أوجب الأمور وهو معرفة الله وأسمائه وصفاته»(3)، وعلى درب الصحابة سار التابعون بإحسان، فقد علموا كذلك أن لو كان أمر الصفات مقصوراً على الإيمان باللفظ المجرد دون فهم لمعناه على النحو الذي يليق بالله لما احتيج لنفي علم الكيفية.
ومن المحاذير التي يقع فيها القائلون بالتفويض في معاني الصفات- ربما دون أن يشعروا بذلك- تزوير حقيقة مذهب السلف في أمر توحيد الله في صفاته وإبطال أحد أصول التشريع الإسلامي من أساسه، وهو الإجماع الذي انعقد عليه السلف والذي ذكرنا له من النصوص ما تقام به الحجة، وهذا يعني بالضرورة تحتم أن تحمل العبارات التي فيها إمرار الصفات على ما ألمعنا، لاستحالة أن يراد بها غير ذلك لما سبق أن نقلناه عنهم ولما فيه أيضاً من خرق للإجماعات الكثيرة التي سبق أن ذكرناها لهم والتي تنص صراحة على أن مذهب السلف هو الإقرار بالصفات والإمرار لكيفياتها، يقول إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وذلك فيما نقله عنه البيهقي في الأسماء والصفات: «والذي أقوله في هذا الخبر- يعني حديث (من تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)- وأشباهه من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم المنقولة على الصحة والاستقامة بالرواة الأثبات العدول، وجوب التسليم والانقياد بتحقيق الطاعة وقطع الريب عن الرسول وعن الصحابة النجباء الذين اختارهم الله تعالى له وزراء وأصفياء وخلفاء وجعلهم السفراء بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم ..
والناس ضربان مقلدون وعلماء، فالذين يقلدون أئمة الدين سبيلهم أن يرجعوا إليهم عند هذه الموارد، والذين منحوا العلم ورزقوا الفهم هم الأنوار المستضاء بهم والأئمة المقتدى بهم، ولا أعلمهم إلا الطائفة السنية»(4).
ومن تيك المحاذير أيضاً مصادمة قول القائلين بالتفويض للنصوص التي تفيد الإثبات، والتشكيك من ثمّ في صفات الله تعالى، وهذا لا يجوز لأن الشك في صفات الله تعالى يؤدي إلى التشكيك بالموصوف. قال الشيخ مرعي المقدسي في كتابه (أقاويل الثقات في الصفات): «ومن المعلوم أنه عليه الصلاة و السلام كان يحضر في مجلسه الشريفُ والعالمُ والجاهلُ والذكي والبليد والأعرابي الجافي، ثم لا يجد شيئاً يعقب تلك النصوص مما يصرفها عن حقائقها لا نصاً ولا ظاهراً كما تأولها بعض هؤلاء المتكلمين، ولم ينقل عنه عليه السلام أنه كان يُحذّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين ونحو ذلك، ولا نقل عنه أن لهذه الصفات معانٍ أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، ولما قال للجارية: (أين الله؟) فقالت: (في السماء)، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه بل أقرها وقال: (اعتقها فإنها مؤمنة)»(5).
وإلى لقاء إن شاء الله.
-----------------
الهوامـــــــش
1- الإكليل ص 45، 46بتصرف.
2- يُنظر مختصر الصواعق ص40، 62وما بعدهما.
3- ينظر الحموية ص5 وفتح رب البرية بتلخيص الحموية لابن عثيمين ص25.
4- الأسماء والصفات للبيهقي ص 615.
5- أقاويل الثقات للمقدسي ص85