الأحكام في السورة بنيت على الرحمة والتيسير والتخفيف ، وقد جاء التصريح بذلك في السورة في ثلاثة مواضع، وهي: 1- قوله تعالى: في آيات القصاص: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة 178] 2- قوله تعالى: في آيات الصيام {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185]. 3- قوله تعالى: في آخر السورة بعد بيان جميع الأحكام والتشريعات، وهو قوله تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ففيه تخفيف عام على الأمة على حسب الطاقة والوسع وهو شامل لجميع أحكام الشريعة، فهو قاعدة من قواعد التشريع. قال ابن عطية في تقرير ذلك:" وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج 78] وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن 16]"([1]). وقد تجلى هذا المحور في أحكام السورة من عدة جوانب: الأول: جانب رعاية التخفيف العام على الأمة، ومن شواهد ذلك: 1- قوله تعالى: في آيات القصاص { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ". 2- قوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ..} إلى قوله تعالى: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} 3- قوله تعالى: { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} وقد كانت العرب تأتي البيوت من ظهورها حال إحرامها. 4- قوله تعالى: في آيات الحج { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وقد كانت العرب تمنع التمتع، وجعل الهدي شكراناً أ, جبراناً، ثم جعل الصيام بدلاً عن الهدي زيادة في الرخصة والرحمة.. 5- قوله تعالى: في آيات الحج { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} . وفيه إباحة التجارة في الحج. 6- قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي اليسير، وهذا رحمة وتيسير. 7- قوله تعالى: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} وهذا فيه تخفيف ورحمة. 8- قوله تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقد كانت اليهود تحرم إتيان المرأة في قبلها من دبرها. 9- قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} في التخفيف في حكم المكاتبة في البيع 10- وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} الثاني: جانب رعاية المحتاج. ومن أمثلة ذلك: 1- قوله تعالى: في آية أصول المحرمات { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 2- قوله تعالى: في آيات الصيام { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقد تكررت مرتين. 3- قوله تعالى: في آيات الحج { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 4- قوله تعالى: في آيات الحج { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} الثالث: جانب رعاية الضعيف. 1- قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فمن رحمته بالضعفاء أمر بإصلاحهم ومخالطتهم، وهذا خلاف ما عليه أهل الكتاب والمشركون 2- قوله تعالى: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من إمرأته ما يشاء. 3- قوله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} وقد كان الرجل في الجاهلية يطلق ما يشاء من غير عدد فحده الله رحمة بالمرأة الضعيفة ومنعاً من ظلمها.. 4- قوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} وهو رحمة بالزوجين حال إرادتهما الرجعة بعد البيتوتة. 5- قوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} رحمة ورعاية بالرضيع الضعيف وحفظاً له 6- قوله تعالى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فجعل التشاور حفظاً ورحمة بالضعيف. 7- قوله تعالى:{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } رحمة بالمرأة المطلقة الضعيفة، وتطييباً لخاطرها. 8- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وهذا رعاية للمرأة المتوفى عنها زوجها في حق السكنى عاماً كاملاً. 9- وقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وهذا رعاية للمرأة المطلقة المتوفى عنها زوجها وهي في عدة الطلاق، حق المتعة، أو المطلقة عموماً. 10- قوله تعالى: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} رعاية للمعسر الضعيف. 11- آيات الصدقة، وهي محض الرحمة بالفقراء. الرابع: جانب التدرج في التشريع. ومثال ذلك: 1- قوله تعالى: في آيات الصيام { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} الآية، وقد كان الصوم أول الإسلام بالتخيير بينه وبين الإطعام حتى نزل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ". 2- قوله تعالى: في آيات الخمر { يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. فهذه الآية هي أول آيات تحريم الخمر وهي في بيان منافعه وإثمه دون تحريمه