الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
ينمو الإنسان نمواً طبيعيًا مطرداً كل يوم بل كل لحظة، ويشمل هذا النمو جوانبه المختلفة من الجسم والعقل والنفس، وقد يكون النمو تقدماً إلى الأفضل في كل هذه الجوانب في المراحل الأولى من العمر، وقد يكون إلى الأسوأ في المراحل المتأخرة من العمر.
ولذلك تجد الإنسان في مراحل عمره الأولى إلى عمر الأربعين سنة تقريباً يتعجل كل مظاهر النمو لكي ينتقل إلى عالم جديد ويكتسب قدرات جديدة، وينتزع اعترافًا جديدًا من الآخرين باقترابه ثم بدخوله بعد ذلك إلى عالم الرجال ودخول البنت إلى عالم النساء.
ورغم اطراد هذا النمو يوميًا إلا أن الإنسان يصعب عليه ملاحظة مظاهر النمو في نفسه أو في الآخرين بهذا المعدل، ولكنه يحتاج إلى نقاط تحول طبيعية أو وضعية لكي يدرك النمو التراكمي الذي تم في الفترة السابقة.
وفي زماننا هذا أصبحت الدراسة المدرسية في مراحلها الثلاث ثم الدراسة الجامعية بعد ذلك مراحل شبه إلزامية لجميع الناس، صار الانتقال من مرحلة دراسية إلى مرحلة دراسية أخرى من أهم ما يشعر الإنسان بالنضج الذي طرأ عليه، وبناء عليه رتب الكثير من الناس عادات وحقوق يكتسبها عقب كل مرحلة.
وكالعادة أضل الشيطان عددًا كبيرًا من الناس فأصبحوا لا يرون إلا شهواتهم المباح منها والمحرم، بل معظمهم يركز على الشهوات المحرمة، وأصبح الطالب الذي ينتقل من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية يسأل أقرانه عن حقوقه المكتسبة في هذه المرحلة، فمنهم من يدله على التدخين على أنه علامة كبر مع أنه علامة صغر للنفس وردة لها إلى عصر الطفولة الأولى التي لا يسكت فيها الطفل إلا بسكاتة "عقيمة" لا تعطيه نفس ما تعطيه إياه الرضاعة ولكنه يقنع بها، وأما "سكاتة الكبار" فهي ليست فقط عديمة النفع، بل شديدة الضرر.
وربما دله بعضهم على معاكسة الفتيات كدليل على الرجولة، وهي أبعد ما تكن عن أخلاق الرجولة والفتوة التي من أهمها الغيرة وحماية الحريم؛ حريمه وحريم غيره، وهكذا...
وتتكرر هذه "النصائح" أو بالمعنى الآخر هذه "الوساوس" عند الانتقال من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية، وربما زاد عليها وساوس أخرى في التمرد على النظام العام سواء في البيت أو في المدرسة، وكأن علامة الكبر هو أن يخرج الإنسان على مجتمعه، بينما علامة النضج الحقيقية أن يتأهل الإنسان ليتبوأ مكانًا في مجتمعه، وأن تناط به إحدى وظائفه، والمفترض أن يكون التعليم الدراسي هو نوع من إعداد الأفراد لكي يصير الواحد منهم متخصصاً في مجال قادرًا على أن يأخذ دوره في جماعته البشرية التي يحيا فيها.
وعند الانتقال من الثانوية إلى الكلية فستجد الإلحاح على كل هذه المعاني بالإضافة إلى التطلع إلى صورة رسمها الاحتلال الأجنبي للجامعة، وبقيت محفورة في ذهن الكثيرين من أبناء المسلمين حتى الآن يتوارثها جيل بعد جيل، إن مجتمع الجامعة في حس الكثيرين هو مجتمع العلاقات المفتوحة بين الجنسين، وإن كانت مصادقة الفتيات في المراحل التعليمية السابقة رغم انتشاره مازال مستهجنًا اجتماعياً.
فالاختلاط بين الجنسين من خلال مجموعة الأصدقاء مقبول إن لم يكن مرغوباً فيه اجتماعياً، ويشترك الشلة الواحدة في اللعب والمزاح، والحل والترحال والذهاب والمجيء، ولا بأس أن تنشأ على هامش الشلة ثنائيات يتم الاعتراف بها من باقي أفراد الشلة، وكأنه أمر طبيعي، ولهذين "المُعجَبَيْن" حقوق على باقي أفراد الشلة هي القبول والمساعدة في تكريس مظاهر الإعجاب على أرض الواقع، وربما انقلبا إلى "حبيبَيْن" فيضجا حينئذ بالدور الرقابي الذي تمارسه الشلة عليهما، فيخرجا عنها إلى عالم آخر من الانحراف المستهجن حتى من المجتمع.
كل هذه التصورات الخاطئة التي تدور حول الشهوات الدنيئة تدور في أذهان الكثيرين، ونحن نقول لك إن كل مرحلة جديدة، وكل نضج جديد، وكل مهارة جيدة يجب أن تمثل لديك عبودية جديدة لله -رب العالمين- مصداقاً لقوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:163).
فاجعل كل مرحلة جديدة في حياتك تقربك من ربك، وفي كل مجتمع جديد ابحث أول ما تبحث عن المسجد وعن رفقة المسجد، وتعاون معهم على البر والتقوى مصداقاً لقوله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(المائدة:2)، واجعل كل تجربة جديدة من حياتك فرصة لزيادة الخير، وبالتالي زيادة نصيبك من الجنة.
وكلما شعرت بنضج جديد فاجعله خطوة نحو تحقيق الغاية التي خلقت من أجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56)، واجعلها درجة من درجات سلم المجد والخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(آل عمران: 110).
أخي الكريم: إذا صحت البدايات صحت النهايات، ففي كل مرحلة جديدة أبصر الطريق جيداً قبل أن تضع قدمك على أول خطوة فيه.