كتبه/ محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد كانت هناك إمارات في ساحل الشام لم يتم إجلاء الصليبيين منها بالكلية إلى أن انتهى عهد الأيوبيين وجاء عهد المماليك، فكان للسلطان الظاهر بيبرس والسلطان المنصور قلاوون وابنه خليل دور كبير في القضاء على الصليبيين وإزالة ملكهم عن بلاد الشام بالكلية، ولقد كان هناك دولة للأرمن النصارى جنوب بلاد الأناضول وقد كانوا حلفاء للصليبيين والتتار.
ولقد أدرك الظاهر بيبرس أن أي عمل حربي يقوم ضد الأرمن والصليبيين سيكون محرضا للتتار للقدوم والمشاركة مع النصارى في مواجهته، والتتار لا تزال لهم دولة قوية في الشرق تحت إمرة حاكمهم هولاكو.
ولقد كان هناك طائفة من التتار لا تخضع لهولاكو وهم مغول "القفجاق"، ويسمون القبيلة الذهبية وزعيمهم هو "بركة خان"، وقد اعتنق الإسلام، فاغتنم الظاهر بيبرس هذه الفرصة فكاتب بركة خان وحرضه على قتال هولاكو، فاستجاب لذلك بركة خان وكان مخلصا في إسلامه، فقاتل هولاكو حتى شغله عن المسلمين وأضعفه وفرق جنده، وبهذا أمن بيبرس جانب التتار وتفرغ للصليبيين.
ثم سار السلطان بيبرس من مصر بجيشه إلى الشام في عام أربعة وستين وستمائة قاصدا جهاد الصليبيين، وقد نزل في عين جالوت وبعث عدة جيوش للإغارة على إمارات الصليبيين في الساحل، فأغاروا على عكا وصور وطرابلس وحصن الأكراد، فسبوا وغنموا شيئا كثيرا، ثم نزل الظاهر بيبرس على مدينة "صفد" في الثامن من شهر رمضان، وقد فتحها بعد حصار طويل، وقتل كثيرا من أهلها ثم جعلها معقلا للمسلمين، فوضع فيها الجنود وزودها بالذخائر والأسلحة.
ثم عاد الظاهر إلى دمشق ووجه جيشا لقتال الأرمن، وقد كانوا ناصروا التتار حينما غزوا الشام، واستنجدوا بهم أيضا حينما أراد بيبرس فتح أنطاكية، فوجه بيبرس جيشين بقيادة الأمير قلاوون والأمير المنصور الأيوبي أمير حماة، فالتقوا مع المسلمين عند "دربساك"، وهي قلعة عند أنطاكية، فأنزل المسلمون بالأرمن وحلفاءهم هزيمة كبرى، واستولوا على عدد من بلدانهم المهمة، منها "سيس" عاصمة أرمينية الصغرى.
ورجع المسلمون بغنائم كثيرة وعدد كبير من الأسرى، ومن بينهم ابن "هيثوم" ملك أرمينية الصغرى، ولم يستطع "هيثوم" استرداد ابنه إلا بمقابل تنازله عن مواقع مهمة مثل: "دربساك" التي تتحكم في الطريق بين أرمينية وأنطاكية، ومدن أخرى تتحكم في الطريق بين أرمينية والجزيرة؛ حيث يوجد التتار خلف الأرمن، وبهذا استطاع بيبرس أن يضعف أرمينية جدا، وأن يحصرها بحيث لا تستطيع أن تستنجد بأعدائه ولا أن تنجدهم.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة من عام خمسة وستين وستمائة خرج السلطان الظاهر بيبرس من مصر بجيشه عازما على قصد الشام على حين غفلة، وسار نحو "يافا" فوافته رسل صاحبها في الطريق فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس آلة الحرب في الليل، وسار فصبح "يافا" وأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان فيها من الصليبيين إلى قلعتها فملك السلطان المدينة، وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم بأربعين ألف درهم، فركبوا المراكب إلى "عكا"، وهكذا تم فتح "يافا" وإجلاء الصليبيين منها بهذه السرعة والسهولة.
وبعد أن فتح الظاهر بيبرس "يافا" توجه شمالا يريد فتح "أنطاكية"، وفي طريقه إليها فتح قلعة "الشقيف" وقلعة "الباشورة" وغيرهما، ولما قرب من أنطاكية أمر العسكر ليلا بلبس آلة الحرب، ونزل "أنطاكية" في غرة شهر رمضان، فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها، وزحف عليها ففتحها يوم السبت رابع الشهر، وقد كان أول من فتح "أنطاكية" وقضى على الصليبيين فيها منذ أن استولوا عليها.
وقد استمر الظاهر بيبرس في غزو الصليبيين في ساحل الشام، ومن ذلك ما قام به سنة تسع وستين وستمائة حيث خرج من مصر في ثاني عشر من شهر جمادى الآخرة، وكان معه ولده الأمير السعيد، وقد هاجم عددا من حصون الصليبيين وقلاعهم الحصينة، وفتح منها قلعتي "صافيتا" و"المجدل" وحصن "الأكراد".
ومما يذكر للسلطان الظاهر بيبرس كثرة خروجه للجهاد، حيث كان لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار بعاصمة سلطنته وهو يرى البلاد الإسلامية مهددة من الصليبيين والتتار، وقد بلغت قوة دولته حدا أرهب الأعداء، وجعل بعضهم يحاول الصلح معه فرحمه الله رحمة واسعة.
جهاد السلطان قلاوون وابنه خليل ضد الصليبيين:
تولى السلطان المنصور قلاوون بن عبد الله التركي الحكم سنة ثمان وسبعين وستمائة، وبدأ قتاله للصليبيين سنة أربع وثمانين وستمائة، حيث خرج بجيشه من مصر إلى بلاد الشام، ووصل إلى حصن "المرقب" الذي هو تحت سيطرة الصليبيين، وحاصر أهل ذلك الحصن، ونصب المسلمون المنجنيق ورموا بها الحصن، وهدموا معظم أبراجه، واستمر ذلك ست وثلاثين يوما حيث زحف السلطان بجيشه واستولى على ذلك الحصن، ونزل من فيه من الصليبيين بالأمان على أرواحهم فركبوا وجهز السلطان معهم من أوصلهم إلى "أنطرسوس".
ثم في عام ثمانية وثمانين وستمائة خرج السلطان المنصور قلاوون من الديار المصرية بعساكره لحصار "طرابلس"، ووصل في مستهل شهر ربيع الأول إلى "طرابلس" وحاصرها ونصب عليها المنجنيق وضايق أهلها مضايقة شديدة إلى أن فكها عنوة في يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ربيع الأول، وشمل القتال والأسر سائر من فيها من الصليبيين، وغرق منهم في الماء جماعة كثيرة، كما تم الاستيلاء على عدد من الحصون التابعة لها.
وفي ثالث شهر ربيع الأول سنة تسعين وستمائة سار السلطان خليل بن قلاوون حتى نازل "عكا" في يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر، فاجتمع عنده على "عكا" من الأمم ما لا يُحصى كثرة، وكان المطوعة أكثر من الجند ومن في الخدمة، ونصب عليها المجانيق الكبار والصغار ونقب النقابون في سورها عدة نقوب، وأنجد أهل "عكا" صاحب "قبرص" بنفسه، وفي ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانا عظيمة لم ير مثلها فرحا به.
وأقام عندهم ما يقرب من ثلاثة أيام ثم عاد عندما شهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم، ولم يزل الحصار عليها والجد في أمر قتالها إلى انحلت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم.
فلما كان سحر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس، وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحس عظيم مزعج في حال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف، ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها، وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلامية تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلا القليل.
وكان السلطان خليل بن قلاوون عند منازلته عكا قد جهز جماعة من الجند مقدمهم الأمير علم الدين سنجر الصوابي الجاشنكير إلى "صور"؛ لحفظ الطرق وتعرف الأخبار وأمر بمضايقة "صور"، فبينما هو في ذلك لم يشعر إلا بمراكب المنهزمين من عكا وافت ميناء "صور"، فحال بينها وبين الميناء، فطلب أهل "صور" الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلموا "صور" فأجيبوا إلى ذلك فتسلمها، ثم إن السلطان لما علم بذلك جهز إليها من خربها وهدم أسوارها وأبنيتها.
وبعد هذه الفتوح لم يبق للصليبيين في الشام إلا مدينة "صيدا" و"عتليث" و"أنطرطوس"، وكان السلطان خليل بن قلاوون قد ولى على نيابة الشام علم الدين سنجر الشجاعي، فحاصر مدينة "صيدا" حتى فتحها بالأمان لأهلها يوم السبت خامس عشر رجب من سنة تسعين وستمائة، ثم فتح قلعة "جبيل" وخربها بأمر السلطان ثم فتح "عتليث" بعد شهر.
وأما أهل "أنطرطوس" فإنهم لما بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب فجرد الأمير سيف الدين بلبان الطباخي عسكرا فلما أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة "أرواد" وهي بالقرب منها فندب إليها السعدي بما كان أحضره من مراكب فأخلوها وكان فتح هذه المدن الست في ستة شهور.
وهكذا قام السلطان المنصور قلاوون بمشروع جهادي كبير لاستئصال بقية الصليبيين في الشام، فبدأ بفتح حصن "المرقب" الحربي الذي كان واسعا وفي غاية الأهمية، ثم ثنى بفتح مدينة "طرابلس" التي كانت مشهورة بحصانتها ومناعة أسوارها، ثم ثلث بالعزم على حصار مدينة "عكا" فوافته المنية قبل ذلك فحقق له أمنيته ابنه السلطان خليل الذي خلفه في الحكم، وكانت "عكا" أهم مراكز الصليبيين في ساحل الشام، ثم توج السلطان خليل بن قلاوون أعماله الجهادية بفتح بقية المدن والحصون التي استولى عليها الصليبيين.
وبهذه الفتوحات انتهى وجود الصليبيين في بلاد الإسلام الذي بدأ عام ثمانية وسبعين وأربعمائة واستمر حتى عام تسعين وستمائة للهجرة، وهذا يعني أن احتلال الصليبيين لأجزاء من بلاد المسلمين استمر اثنتي عشرة ومائتي سنة.