9-أنس الطائعين ووحشة الغاوين

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : ياسر برهامي | المصدر : www.salafvoice.com


9-أنس الطائعين ووحشة الغاوين

كتبه ياسر برهامي

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد،

قول النبي صلى الله عليه وسلم: )وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك).

 

نتابع الكلام عن قوله صلى الله عليه وسلم (لبيك وسعديك)، فأذكر أبياتا رائعة لابن القيم رحمه الله في هذا المقام يقول:

فما كل عين بالحبيب قريرة

ولا كل من نودي يجيب المنادي

 

وقرة العين هنا كناية عن الراحة والسرور والطمأنينة التامة وعدم التطلع إلى ما سوى المحبوب، فليست كل العيون قريرة بالله سبحانه، بل إنه خص بذلك خواص خلقه الذين وجدوا حبه وقربه والطريق الموصل إليه حتى تكون نهاية هذا الطريق بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، فمن قرت عينه بالله إذا وجده فليحمد الله على أجَّل نعمة، ومن أجاب داعي الله فليدرك قدر هذه المنة، فليس كل أحد يجيب المنادي والداعي إلى الله، وأنت أيها المؤمن أجبت ووجدت وتلذذت بالعبادة وذقت طعم الإيمان.

اللهم نسألك مزيد فضلك ورحمتك وحبك ورضوانك ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين

يقول ابن القيم:

ومن لم يجب داعي هداك فخلـِّه

يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا

 

أي من لا يستجيب لداعي الهدى الذي أنت عليه أيها المؤمن المحب فاتركه ولا تنشغل به، فإنها نوعية من البشر لا تنصلح قال تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ)الذاريات54، فبعد تكرار البيان وتوضيح الدعوة إذا كان الإعراض وعدم الإجابة هو النتيجة فاعلم أن الله لا يريد به خيرا فاتركه وانشغل بغيره، لأن هذا الإنسان المريض الميت سوف يجيب كل داع إلى سبيل الغواية ويقبل الباطل ويحبه (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)العنكبوت67، وستجده يمشي خلف كل ضال (وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) نعوذ بالله.

يقول ابن القيم:

وقل للعيون الرُمَّدِ إياكِ أن ترِي

سنا الشمسِ فاستغشِ ظلام الليالي

 

قل للعيون الرَّمِدة التي لا ترى الحقائق العظيمة، حقائق الإيمان، إياكِ أن تري سنا الشمس إياكِ أن تبصري وتري، فالرامد عندما يفتح عينه في الشمس تؤلمه فيظل مغمضا عينيه والعياذ بالله، فهو يشبه الذي لم يرى الحق ولم يجد طعم الإيمان ولا يرى حقائق ما جاءت به الرسل. وقوله: فاستغشِ ظلام الليالي، أي ابقي في الظلام، فالذي لا يرى الحق الذي هو أوضح من نور الشمس وهو دين الله الذي بُعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعينه هي المريضة أي عين قلبه، فلا يبصر الحقيقة، فقل له على سبيل الاستخفاف به أنت لا تصلح لرؤية نور الشمس، نور الحق، إنما يناسبك الحجاب والغطاء والظلام مثل ظلمة الليالي (وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)يونس27

 قال تعالى (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ)النور40 فإذا ركبت سفينة فاخرج بالليل وانظر في ظلمة البحر حتى تعرف هذا المثل، لتعرف كيف أن الكفار في ظلمة عجيبة جدا، والعياذ بالله، لأن البحر ظلمته أشد من ظلمة البر، وبعد ذلك تخيل أن باطن هذا البحر ليس موجا فحسب إنما هناك موج تحته موج آخر والكافر أسفل ذلك والعياذ بالله من ظلمة الكفر، فمعنى فاستغشِ أي تغطَ بظلمة الليل الذي أنت فيه، ليل الكفر والظلم والفسوق والعصيان والنفاق، وهذه درجات من الظلمات متفاوتة في الظلمة، كل معصية لها ظلمة، وكل نفاق له ظلمة، وكل كفر له ظلمة، درجات متفاوتة، فالنفاق الأكبر والكفر الأكبر والفسق الأكبر أشد الظلمات.

يقول ابن القيم:

وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم

ودعها وما اختارت ولا تك جافيا

 

هذه النفوس لم يهبها ولم يهيئها الله عزوجل لحبه، والجمع للتعظيم، هذه النفوس قد تؤذيك وقد تضايقك أو تعتدي عليك فسامح هذه النفوس، قال الله تعالى (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)الجاثية14، المقصود والله أعلم لا تكن متمنيا لهم الضلال والهلاك وتحدث نفسك بالانتقام منهم لنفسك عقوبة لهم على ما ظلموك، يكفيهم عقوبة ما هم فيه من البعد عن الله، فهذه المسامحة والصفح والعفو في الدنيا وعدم الانتقام من أصحاب النفوس التي لم يهبها الله من فضله ولم يهيئها لحبه عز وجل مسامحة مأمور بها، فإنهم مساكين المسكنة المذمومة، هم في شقاء وعذاب، "فلا تك جافيا" أي غليظا عليهم فوق ما هم فيه من العذاب. وليس المقصود بعدم الغلظة في المعاملة، الغلظة التي أمر الله بها عند جهادهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِم)(وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة)، بل هذه الغلظة عليهم رحمة بهم في الحقيقة، ونحن في الحقيقة نغلظ عليهم حتى يرجعوا، ونرحمهم لعلهم يرجعون.

يقول ابن القيم:

وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة

مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا

 

فلو لم يكن من عقاب للكفرة والظلمة - الذين غابوا عن حب الله ومعرفته -  وعبادته على شهواتهم الوقتية المملوءة بالتعب والنقص إلا عقوبة الغياب عن شأن الإجابة والتلبية والإقامة على طاعة الله والمحبة له لكفى بها عقوبة، وحجاب قلوبهم عن الله أقسى عذاب، كما أن حجابهم عن الله يوم القيامة أشد عذابهم قال عز وجل (كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)المطففين15 ولو كان هذا الغائب واعيا عاقلا لأدرك أنه في عقوبة ولكنه لا يدري ولا يعقل ولا يعي.

يقول ابن القيم:

ووالله لو أضحى نصيبك وافرا

رحمت عدوا حاسدا لك قاليا

 

إذا كان نصيبك كبير من الحب سترحم من يكرهك ومن يحسدك، لأنه يحسدك على الإيمان ويكرهك من أجل أنك ملتزم، ستقول يا له من مسكين. لو أصبح نصيبك أيها المؤمن من الإيمان والعبودية التي لله وافرا كبيرا لرحمت أعدائك الحاسدين القالين لك الكارهين اللذين يؤذونك ويحقدون عليك.

رحمة الأعداء المؤذين للمؤمنين، والشفقة عليهم لما هم فيه من الجهل سنة ماضية عن الأنبياء وأتباعهم، قال الخليل عليه السلام(فمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)إبراهيم36، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه حتى أدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، هذه رحمه فهو يرحمهم لأنهم لا يعلمون، وقال عز وجل عن مؤمن آل يس (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)يس27، ماذا يتمنى لهم وهم قتلوه أشنع قتلة، قتلوه دهسا بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه، قتلوه وهو يتمنى أنهم يعرفوا حتى يغفر الله لهم.

تظل هذه الرحمة موجودة والتمني أن يهديهم الله ما لم يموتوا على الكفر، أو يـُعلِم الله نبيه بالوحي أن هذا العدو يموت كافرا، قال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)التوبة114، وذلك حين مات كافرا، وقال موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما على فرعون وجنده(فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)يونس88، فربنا أعلمهم بأن ليس هناك فائدة من هؤلاء وأنهم لن يؤمنوا فدعوا عليهم ، كما قال تعالى عن نوح عليه السلام (رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)نوح26، فلا تعارض بحمد الله، فالأولى للمؤمن طالما بقي عدوه حيا أن لا يتمنى هلاكه على الكفر، وأن لا يدعو عليه بذلك، بل يرحمه لما هو فيه من العذاب،  عذاب الحسد لأهل الإيمان، فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان 

لله در الحسد ما أعدله      بدأ بصاحبه فقتله

فإن الحسد قاتل لسعادة الإنسان وحياة قلبه، ومانع من الإيمان. والكافر في عذاب الحسد وفي عذاب كراهية الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعذاب حب الباطل، يؤدي به لكرهه لنفسه، فالإنسان عندما يكره الحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم تكرهه نفسه ويكره نفسه، قال الله عز وجل(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)غافر10، فهم من حين دعوا للإيمان فكفروا ونفوسهم تكرههم وهم يكرهون أنفسهم، ويبشرون بأن مقت الله لكم أشد من مقتكم لأنفسكم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أبغض عبدا نادى جبريل: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض) وقال تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)الدخان29، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما الكافر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فلو كان نصيبك أيها المؤمن من الإيمان وفيرا كبيرا لنظرت لمن آذاك في الله بعين الإشفاق، إذ هو المحروم من أعظم نعيم الدنيا والآخرة، شقي في الدارين، وأنت مـَّن الله عليك بأعظم عطاء، فارحم من حسدك، واعفو عن من ظلمك، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، فإنك بذلك تأخذ أضعاف أضعاف ما أعطيت.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.