حوار الإذعان وسرادق العزاء في مدريد
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد خاطب الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة﴾ [النحل:125]، ولا شك أن هذا خطاب للأمة بأسرها من بعده، ولكن الله لم يترك الناس كل وما يراه في اللغة التي ينبغي أن يخاطب بها الكفار فضلاً عن الموضوع الذي ندعوهم إليه، فبين ذلك بياناً شافياً، لاسيما فيما يتعلق بدعوة أهل الكتاب.
فقال -تعالى-: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]، بل بين الله لنا ما كان في الكتب السابقة قبل التحريف، من ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:5].
وجاءت السنة العملية ببيان ذلك أعظم بيان، تجلى ذلك في مجادلة اليهود، ومباهلة نصارى نجران، وفي رسائله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والرؤساء، والتي كان منها رسالته إلى هرقل التي كان أقصى تلطف فيها أن يصفه بأنه عظيم الروم -وهو أمر صحيح في ذاته- ثم قال: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) متفق عليه
"ينبغي أن نوضح لأهل الكتاب أنهم لا يعرفون الإله الحق؛ لأنهم يؤمنون بإله اتخذ صاحبة وولداً، وأكل وشرب ومشى في الأسواق، مع أنهم أمروا بما أمرنا به من عبادة الإله الواحد" .
وتجلى ذلك في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما أرسله على أهل اليمن، فقال: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلى قَوْمِ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ...) متفق عليه، إلى آخر تلك الوصية التي توضح أننا ينبغي أن نوضح لأهل الكتاب أنهم لا يعرفون الإله الحق؛ لأنهم يؤمنون بإله اتخذ صاحبة وولداً، وأكل وشرب ومشى في الأسواق، مع أنهم أمروا بما أمرنا به من عبادة الإله الواحد الذي أشركوا به.
وقد جعل الله هذه الدعوة هي سبيل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسبيل من اتبعه، فقال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108]، إذن فهذه الدعوة إلى سبيل الله ليست في حاجة إلى تفويض أو إذن من أحد، وإن كان الأمراء والعلماء هم أولى الناس بالقيام بمثل هذه المهام العامة إلا أن الآفة أن كثيراً منهم يتوهم أن معه تفويضاً في أن يفاوض المشركين حول ما ندعوهم إليه وما لا ندعوهم أو بصورة أدق حول ما نبقيه من ديننا وما نمحوه أو على الأقل نكتمه.
وإذا كان هذا الأمر في حد ذاته جرم كبير إلا أنه يزداد خطورة بإصرار هؤلاء على أن ينسبوا نتائج مفاوضاتهم إلى الإسلام، فتكون النتيجة أن يقدم لنا هؤلاء المحاورون إسلاماً آخر غير الذي يعرفه عامة المسلمين فضلاً عن خواصهم، بل ربما وجدت للواحد منهم كلاماً سابقاً على هذه المؤتمرات، بل وأحياناً لاحقاً عليه ينقضه، ويأتي على بنيانه من أساسه.
يقدم لنا هؤلاء إسلاماً يحترم عقائد الآخرين، فإن قيل لهم: إن الله -تعالى- يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:28]، قالوا: وصف المشركين لا يشمل أهل الكتاب!! مع أن الله -تعالى- قال في كتابه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:30-31].
وقال -عز وجل-: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا... ﴾ [المائدة:82]، وقد دخل فيهم من قال الله فيهم: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة:72]، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة:73].
فإن قيل لهم: فإن الله -تعالى- يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة:6]، صاحوا وأجلبوا وتنادوا بالويل والثبور على من سيفسد عليهم جهودهم، وسينسف نتائج حواراتهم.
والتي تعطي تسميتها بـ" الحوار" مدلولاً أولياً وفق ما جرى عليه العرف السياسي المعاصر في استخدام هذه الكلمة أن الأمر لن يشهد دعوة من أي نوع، وإنما سيشهد نوعاً من المساومة على ما ينبغي على كل فريق كتمانه من دينه إن لم يمكن محوه؛ ليُعَدَّ مسالماً للآخرين، وهي توصيات لا يلتزم بها عادة إلا الجانب الإسلامي، وإن كنا نرفضها -وإن التزم بها الجميع- كما رفضها النبي -صلى الله عليه وسلم- من المشركين، وعدد المسلمين يومئذ ليس بالمليارات كما هو الحال اليوم، بل ولا الملايين ولا الآلاف، وإنما آحاد من الناس، ومع ذلك رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض المشركين بأن يعبد آلهتهم عاماً ويعبدون إلهه عاماً، بل استمر في الدعوة إلى التوحيد وذم الشرك.
وإذا كانت الحوارات السياسية أنواعاً منها ما يسمى بحوار الطرشان، والذي تأتي منه جميع الأطراف وهي قاطعة بأنها لن تقدم أي تنازلات، فإن حوار هؤلاء القوم جدير بأن يسمى حوار "الإذعان"، حيث يأتي أحد الأطراف، وقد سلم بكل ما طلب منه من احترام الآخر، بل والذوبان حباً في ذلك الآخر، وإن كان الآخر يدين بعقيدة تغضب الله عليه ابتداءً، ثم يزداد كفراً إلى كفره بالطعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يزداد طغياناً بصده عن سبيل الله، وإنفاقه الأموال لفتنة فقراء المسلمين عن دينهم، لاسيما في البلاد التي تشهد نكبات ومجاعات.
"الآفة أن كثيراً منهم يتوهم أن معهم تفويضاً في أن يفاوضوا المشركين حول ما نبقيه من ديننا وما نمحوه أو على الأقل نكتمه"
ويتجلى الإذعان في قمة صوره في اختيار مكان المؤتمر، ذلك المكان الذي أبيد المسلمون فيه باستخدام وسائل قمع وتعذيب يخجل بعض الأوروبيين من مجرد حكايتها، وما أشبه الصورة بصورة العائلات المتمردة الطاغية في البادية إذا ما قتلت قتيلاً من عائلة مستضعفة، وعلى الرغم من أن عادات البادية ألا تقبل عائلة العزاء في قتيلها حتى تثأر له، أو حتى على الأقل تأخذ ديته، والتي لا يقبل بها إلا لاعتبارات قرابة أو مصاهرة أو عهد أو حلف، إلا أن العائلة الطاغية تستطيع بجبروتها أن تجبر العائلة المستضعفة على قبول العزاء حتى بلا دية.
بقي أن ننصح كل من اغتر برصيده عند العامة سواء كان هذا الرصيد سياسياً أو دعوياً أو غير ذلك أن يتعظ بحال غيره ممن وافقوا على إقامة سرادق عزاء مجانبة لمصائب المسلمين، فتحولت سرادقات العزاء هذه إلى سرادقات عزاء في هؤلاء القوم وهم أحياء. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.