أبحاث علمية جديدة حول المرض الذي يسبب الآلام للملايين الاهتمام الطبي بالعلاقة بين الصداع النصفي migraine وبين احتمالات الإصابة بتداعيات أمراض شرايين القلب أو الدماغ يأخذ اليوم بعداً أكثر جدية. وأحد الأمثلة على هذا، احتواء عدد أغسطس من مجلة ألم الرأس العلمية البريطانية Cephalalgia، لسان حال المجمع الدولي للصداع International Headache Society (IHS)، على أكثر من أربعة بحوث ودراسات مراجعة حول ما هو معلوم حتى اليوم عن العلاقة فيما بينهما. ولئن كان الباحثون يتساءلون منذ فترة طويلة، لماذا لا يزال من الخفي على الأطباء توقع احتمالات وجود أي أمراض في شرايين الدماغ أسوة بتوقعهم ذلك في أمراض شرايين القلب، فإن البدء الطبي بالنظر إلى بعض مظاهر أعراض الجهاز العصبي في الدماغ يُمكن أن يُؤدي إلى فهم أفضل للوسائل الممكنة في التوقع المنشود، وبالتالي تحسين فاعلية وسائل الوقاية والمعالجة. وعلى سبيل المثال، فإن شكوى الإنسان من ألم في الصدر أو ضيق في التنفس أو خفقان القلب، هي علامات على احتمال أن يكون ثمة مرض في الشرايين التاجية، ما قد يكون سبباً في حصول النوبة القلبية أو ما يُعرف بالجلطة القلبية. لكن هذه الأمور نفتقد معرفة وتحديد مثلها في حال السكتة الدماغية، حيث إنها تقع دوماً بشكل مفاجئ لنا كأطباء أو مرضى
ومما يبدو مطروحاً بشكل جاد هو أنه من غير المتوقع أن لا تكون هناك علامات منذرة كأعراض تظهر بشكل مسبق على المريض، وربما بصفة متكررة، لتشير ولو بقدر ضئيل من الدلالة إلى أن ثمة مرضاً ما في الشرايين الدماغية يرفع من احتمال تسببه بالسكتة الدماغية. بيد أن الإشكالية الطبية العلمية حتى اليوم : ما هي هذه العلامات أو الأعراض؟
* اهتمام بالصداع النصفي ومن بين الأعراض المتعددة لأمراض أو اضطرابات أو خلل أداء أجزاء الجهاز العصبي المركزي لوظائفها، يبدو أن الصداع، خاصة الصداع النصفي أو ما يُعرف بالشقيقة، يحتل مكانة في احتمال أن تكون الشكوى منه مقدمة أو علامة على وجود أمراض في الشرايين الدماغية، وهي التي قد تتسبب بالسكتة الدماغية كأحد تداعيات حالات نقص أو انقطاع تزويد مناطق من الدماغ بالدم المحمل بالأوكسجين، أو ما تُدعى حالات إسكيميا الدماغ.
ويقول الدكتور توبياس كيرث، من قسم الشيخوخة في مستشفى النساء ببوسطن بالولايات المتحدة، في مقدمة بحث المراجعة المنشور له في عدد أغسطس من “مجلة ألم الرأس” تحت عنوان الصداع النصفي وأحداث الإسكيميا الوعائية ischaemic vascular events : إن الربط فيما بينهما مطروح للنقاش العلمي منذ سنوات. والآليات المرضية الفسيولوجية لظهور حالة الشقيقة معروفة اليوم بتفصيل واسع نتيجة للدراسات المستفيضة حولها. وعلى وجه الخصوص معلوم أن اضطرابات الأداء التي تعتري خلايا الدماغ والشرايين تشكل عنصراً مهماً وحاسماً في ظهور هذه الحالة.
وكان الهدف من دراسته هو مناقشة الآليات البيولوجية الحيوية المحتملة وعرض الأدلة العلمية التي تربط فيما بين الصداع النصفي وحالات السكتة الدماغية الناجمة عن الإسكيميا. وكذلك فيما بينها وبين حالات تداعيات وجود أمراض في شرايين القلب تُؤدي إلى إسكيميا في أجزاء من عضلة القلب. وحتى مع اعتبار أن أمراض الشرايين في الجسم غالباً لا تقتصر على شرايين أعضاء دون أخرى، فإن ثبوت قوة الارتباط فيما بين الشقيقة وبين السكتة الدماغية الإسكيمية، مع عدم وجود ذلك الرابط القوي بين الشقيقة وتداعيات أمراض شرايين القلب، يقول لنا شيئين مهمين:
الأول: هو أن الشقيقة قد تكون علامة خاصة باحتمالات ما قد يُؤذي الدماغ دون ما قد يُؤذي القلب، مثلها في ذلك اعتبار الشكوى من ألم الصدر دلالة على ارتفاع احتمالات وجود مرض في شرايين القلب دون شرايين الدماغ.
الثاني: أن الذكاء الطبي هو في كيفية استغلال هذا ليس فقط في الإخبار المجرد لمرضى الشقيقة بوجوب الاهتمام بصحة شرايينهم لوقاية أدمغتهم، بل في إنتاج وسيلة لفحص حال شرايين الدماغ لدى عامة الناس عبر اختبار لتحفيز حصول هذا النوع من الصداع مثلاً، أي أشبه باستخدام اختبار جهد القلب في التسبب بألم في الصدر وتغيرات في تخطيط القلب لدى منْ لديهم أمراض في الشرايين التاجية دون بقية الناس السليمين.
* السكتة الدماغية والشقيقة والصداع النصفي يُعتبر أحد الاضطرابات العصبية الوعائية neurovascular الشائعة جداً. وخلال السنوات القليلة الماضية تكونت مجموعة من الدراسات الطبية التي ربطت فيما بين نوبة الصداع النصفي، خاصة النوع المصاحب له حالة الإحساس المسبق بقرب حصول النوبة aura، وبين حالات السكتة الدماغية الناجمة عن الإسكيميا.
وكانت دراسة تحليلية، نُشرت عام 2004 ، قد قامت بمراجعة نتائج 11 دراسة سابقة حول هذا الشأن. ودلت في خلاصتها على ارتفاع خطورة الإصابة بالسكتة الدماغية لدى منْ يُعانون من الصداع النصفي، سواءً كان مصحوباً بالإحساس المسبق بقرب حصول نوبة الصداع أو لم يكن.
وبعد صدورها، صدرت دراستان كبيرتان من نوع الاستشراف المستقبلي prospective في البحث. الأولى شملت حوالي 40 ألف امرأة من اللواتي تجاوزن سن 45 سنة وكن أصحاء، وتمت متابعتهن لمدة تسع سنوات. وتبين أن النساء اللواتي يُعانين من الصداع النصفي المصحوب بإحساس مسبق لديهن خطورة بمقدار 1.7 ضعف للإصابة بالسكتة الدماغية الإسكيمية. وأن الخطورة ترتفع بينهن إلى حد 2.25 ضعف فيما بين منْ أعمارهن تتراوح من 45 إلى 55 سنة. أما لدى النساء الأكبر من هذه السن فلا تُوجد دلائل على ارتفاع الخطورة فيما بين المُصابات بالصداع النصفي. كما أنه لا تُوجد خطورة أعلى من الطبيعي للإصابة بالسكتة الدماغية الإسكيمية فيما بين منْ يُعاني من نوبات الصداع النصفي غير المصحوبة بالإحساس المسبق.
وشملت الدراسة الثانية أكثر من 12 ألف رجل وامرأة ممن هم فوق سن 55 سنة. وقارنت فيما بين منْ يشكون من الشقيقة أومن أنواع أخرى من الصداع. وتبين أن مرضى الشقيقة بالذات ترتفع فيما بينهم خطورة الإصابة بالسكتة الدماغية الإسكيمية بمقدار 1.8 ضعف. أما حينما شملت المقارنة فقط من يُعانون من الصداع المصحوب بالإحساس المسبق، فإن الخطورة ارتفعت إلى 2.9ضعف. وأكدت نفس ما قالته الدراسة السابقة من أن عدم وجود حالة الإحساس المسبق بنوبة الصداع النصفي لا يرفع من احتمالات الخطورة بالنسبة للسكتة الدماغية الإسكيمية.
وقال الدكتور كيرث عند مراجعة مجمل الدراسات حول تأثير عوامل الخطورة الأخرى للإصابة بالسكتة الدماغية الإسكيمية في حال الشكوى من الشقيقة أيضاً، إن الخطورة تتضاعف ثلاث مرات حال التدخين، وأربع مرات حال تناول حبوب منع الحمل، وأكثر من ذلك حال اجتماع التدخين وتناول حبوب منع الحمل والصداع النصفي.
* شرايين القلب والشقيقة ولا يزال هناك غموض يلف تلك العلاقة المفترضة بين الإصابة بالشقيقة واحتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب. ومن مجمل ما يُقال في الأوساط الطبية والدراسات والبحوث فإن العلاقة فيما يبدو ليست في مثل القوة التي بين السكتة الدماغية والصداع النصفي، لكن ثمة من يعتقد العكس ويُراهن عليه.
وكانت ثلاث دراسات من إسبانيا وأستراليا وفنلندا قد قالت بأن ثمة علاقة بين الصداع النصفي ووجود أمراض في شرايين القلب، سواء كانت جلطة قلبية أو تغيرات غير طبيعية في رسم تخطيط القلب أو الشكوى من ألم الذبحة الصدرية. في حين أن دراسات من مناطق أخرى من العالم لم تجد هذا الارتباط فيما بينهما.
لكن في السنوات القليلة الماضية صدرت دراستان من الولايات المتحدة زادتا الأمور تعقيداً في فهم تلك العلاقة بين الشقيقة وأمراض شرايين القلب. وملخص ما قالته “دراسة صحة النساء” أن ثمة ما يُؤكد خطورة الإصابة بأمراض شرايين القلب لدى النساء اللواتي يُعانين من الصداع النصفي، وبالذات منه النوع المصحوب بإحساس مسبق بالنوبة. وأنها تبدو واضحة بعد عشر سنوات من المتابعة، ما يعني أن ثمة حالة مرضية في شرايين القلب تُبنى مع الوقت لديهن. أما النساء اللواتي لديهن صداع نصفي غير مصحوب بالإحساس المسبق فلا خطورة على قلوبهن. أما بالنسبة للرجال، فملخص ما قالته “دراسة صحة الأطباء” التي شملت حوالي 20 ألف طبيب من الأصحاء، هو أن خطورة الإصابة بالجلطة القلبية فقط، دون غيرها من تداعيات أمراض شرايين القلب، ترتفع بنسبة 42% لدى منْ هم يُعانون من الصداع النصفي مقارنة ببقية الرجال.
* الصداع النصفي.. إزعاج إلى حد العذاب
* الصداع النصفي، أو الشقيقة، شائع بدرجة نسبية لدى النساء مقارنة بالرجال، حيث يُعاني من نوباته حوالي 17% من النساء، في حين يُصيب 6% من الرجال. وفي بعض حالاته، يسبق حصول نوبة الصداع شعور بعلامات تحذيرية، مثل وميض ووهج ضوئي، أو بقع مظلمة عمياء في مجال البصر، أو حتى وخز في أحد اليدين أو الرجلين. كما أنه قد يكون مصحوباً بأعراض أخرى، كالغثيان أو القيء أو الحساسية المفرطة من الضوء أو الصوت مهما كانت شدة أو حدة أياً منهما.
وألم نوبات الصداع النصفي يُمكن أن يبلغ من الشدة ما يصفه المعانون منه بالعذاب. كما يُمكنه أن يُعيق الإنسان عن أداء حتى أبسط الأعمال لبضع ساعات أو بضعة أيام متواصلة. وبالرغم من عدم توصل الطب إلى علاج يشفي من نوباته، إلا أن طرق معالجته وتخفيف حدة المعاناة منه تطورت بشكل كبير جداً خلال السنوات القليلة الماضية.
وصفات النوبة النموذجية الشائعة من الشقيقة تشمل كل أو بعض العناصر الآتية:
- ألم متوسط أو شديد، قد يطول فقط أحد جانبي الرأس أو كليهما.
- ألم الرأس من النوعية النابضة.
- ألم يزداد سوءاً مع ممارسة أي أنواع النشاط البدني.
- ألم يحرم من القدرة على ممارسة الأنشطة اليومية الطبيعية.
- غثيان مع أو من دون قيء.
- حساسية مفرطة للضوء أو الصوت.
وعادة ما تستمر نوبة الصداع، في حال عدم معالجتها، ليومين. ويختلف الناس في شدة الألم ونوبات تكراره. وكذل الحال لدى الإنسان نفسه، إذْ تتفاوت شدة الألم من نوبة لأخرى، كما قد تختلف الأعراض المُصاحبة، وقد تتكرر نوباته عدة مرات في الشهر أو لا تحصل إلا في السنة مرة واحدة.
والشعور المسبق باقتراب حصول نوبة الصداع، أو ما يُسمى بـ “الأورا”aura ، قد يستمر ما بين 15 إلى 30 دقيقة قبل بدء الصداع، وقد يستمر حتى مع الصداع. وتشمل عناصره رؤية وهج أو وميض من الضوء المتألق، أو رؤية زغللة بصرية من خطوط متعرجة “زيغ زاغ” في مجال الرؤية البصرية، أو الشعور ببقع مظلمة عمياء تنتشر وتتحرك ببطء في المجال البصري، أو الشعور بوخز خفيف كالذي للدبوس أو الإبرة في إحدى اليدين أو الرجلين. وفي حالات نادرة، يظهر ضعف في العضلات أو اضطرابات في اللغة أو الكلام. وسواء شعر المرء بتلك العلامات التحذيرية أم لا، فإن نوبات الصداع قد يسبقها شعور بالبهجة والنشاط المفرط أو الرغبة في تناول الحلويات أو العطش أو النعاس أو التوتر أو الاكتئاب.
* مثيرات نوبات الشقيقة قد لا نتنبه لها
* ثمة عدة عوامل قد تحفز وتثير ظهور نوبات الصداع النصفي. وهي ما تشمل:
- تغيرات هرمونية: وبالرغم من عدم إدراك الطب بالضبط للعلاقة القائمة بين الهرمونات والتغيرات في منسوبها مع حالات الصداع، إلا أن تقلبات وتذبذبات مستوى الإستروجين، الهرمون الأنثوي، بالذات قد تحفز ظهور نوبات الصداع تلك لدى النساء. وكثيراً ما يشكو هؤلاء النسوة من الشقيقة قبل أو أثناء بدء الحيض، وهو ما يتزامن مع هبوط مستوى ذلك الهرمون. كما أنه قد يحصل أثناء الحمل أو فترات سن اليأس أو أن تعمل حبوب منع الحمل المحتوية على الهرمونات الأنثوية على إثارة ظهور نوبات الصداع تلك.
-التغذية: وتعمل بعض أنواع الأطعمة كمحفزات لظهور نوبات الشقيقة لدى كثير من المرضى، مثل تناول المشروبات الكحولية، خاصة البيرة أو النبيذ، والجبن المعتق، والشوكولاته والأطعمة المخللة أو نوع أسبرتام من المحليات الصناعية، أو كثرة تناول الكافيين، أو بعض مكونات الأطعمة الآسيوية أو المعلبات أو غيرها. كما أن إهمال تناول بعض الوجبات والجوع والصيام قد يُثيرها كذلك. كذلك الحال أيضاً مع التدخين.
- التوتر والإجهاد: العمل بشكل مفرط طوال أيام الأسبوع ثم الراحة المفاجئة أثناء عطلات نهاية الأسبوع قد تثير الصداع النصفي.
- المثيرات المحسوسة: مثل الأضواء الوهاجة أو ضوء الشمس الساطع أو الروائح غير المعتادة، حتى لو كانت زكية ومحببة مثل العطور أو الزهور، أو الروائح النفاذة النتنة أو غير المحببة مثل روائح دهان الجدران أو الخشب أو القمامة أو حتى تدخين الغير.
- تغير وتيرة النوم والاستيقاظ: أي، إما عدم النوم أو النوم لأوقات طويلة أو الاستيقاظ المبكر أو المتأخر، كله بخلاف المعتاد، قد يثير الشقيقة لدى البعض.
- فرط النشاط البدني أو العاطفي: سواء في ممارسة الرياضة البدنية ذات الطبيعية التنافسية، أو تكرار أو الإجهاد في ممارسة العملية الجنسية.
-التغيرات البيئية: مثل التغيرات المناخية أو في تقلبات الطقس أو الوجود في مناطق مرتفعة أو منخفضة أو تغير الوقت أو السفر لساعات عدة بالطائرة أو غيرها.
د. ياسر متولى