الدين القيم - الحلقة 18

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : الدكتور محمد هداية | المصدر : www.islamiyyat.com

الحلقة 18:
وقفنا في اللقاء السابق عند ما حدث لإبراهيم u ساعة ألقوه في النار وقلنا أن الله تبارك وتعالى بقدرته أن يعطّل اشتعال النار لكنه لو حدث ذلك لقالوا لولا اشتعلت لحرقناه فقدرة الله تبارك وتعالى فاقت التصور في أن تبقى النار مشتعلة لكن يعطل الله تبارك وتعالى قانون الاشتعال وتلخص ذلك بقوله تعالى (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) ولو تدبرنا هذا الأمر للفتت الأنظار كلمة (وسلاماً) ذلك أن قوله تعالى يا نار كوني برداً فقط لتجمد إبراهيم u لكن انظروا إلى توقيع الإله الحق في استخدام الألفاظ حتى تفهم كنه شأن الله تبارك وتعالى. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فلو قال الله تعالى للنار كوني برداً على إبراهيم لتجمد إبراهيم u لكن أولاً يعطل قانون اشتعال النار فلا تحرق ثم يضيف (وسلاماً) على البرد حتى ينجو إبراهيم u من النار ومن البرد على حد سواء (وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم). مسألة كهذه لا بد أن تدار على مدار فهمك لقول الحق تبارك وتعالى (وله المثل الأعلى في السموات والأرض) ذلك أنه (ليس كمثله شيء) هذه كلمة يجب أن تكون في أذهاننا ونحن نوقع عن الله تبارك وتعالى أي توقيع لغوي في القرآن. الله تبارك وتعالى يقول (وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) في الحلقات السابقة أخذنا إضافة الصفة لله تبارك وتعالى على الكلام الذي في الآيات قبلها وكانت معنا وهو اللطيف الخبير بعد قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) اللطيف تناسب لا تدركه الأبصار والخبير تناسب وهو يدرك الأبصار. واليوم معنا صفتان لله تبارك وتعالى (وهو العزيز الحكيم) العزيز هو الذي لا يُغالب فلا يُغلب والحكيم الذي يدير شؤون خلقه بالحكمة المطلقة يفقر هذا ويغني ذاك ويغني هذا بعد الفقر أو يبقيه على مراده أو يفقر ذاك أو يظل على غناه فهو سبحانه وتعالى الحكيم. فإذا أصابك مكروه أو أصابك محمود يجب أن تأخذ هذه الإصابة بالخير أو بالشر على حد سواء على أنه الحكيم وإذا أخذت الحكيم فلا بد أن تأخذ أنه العزيز لذلك (وهو العزيز الحكيم) العزيز الذي يغالب وبالتالي استحالة أن يُغلَب فمن الذي يستطيع أن يغالبه سبحانه والحكيم الذي يدير شؤون خلقه على مراده بحكمة إياك أن تقول أفقرني الله تبارك وتعالى وإياك أن تقول أغناني الله تبارك وتعالى وفي مسألة الفقر والغني بالذات لنا توقيع في القرآن حتى نفهم مراد الله تبارك وتعالى فيها، إسمعوا إلى قول الحق تبارك وتعالى (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) الفجر) هذا منطق وذاك منطق والله تعالى يرد على الاثنين (كلا) فهل (كلا) تجيب عن منطق هذا الفقير وهذا الغني؟ إسمعوا إلى الآية واسمعوا إلى الرد بعد أن تتدبروه (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) يعني الإنسان الذي أكرمه الله تبارك وتعالى من وجهة نظره هو بالمال ظن أن الله لن يحاسبه لأنه أكرمه والإنسان الذي أفقره الله تبارك وتعالى فأبعد عنه المال ظن أن الله تبارك وتعالى لن يحاسبه لأنه أفقره هذا من وجهة نظر الإنسان (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وما دام أكرمني فلن يحاسبني لأني فوق السؤال، (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) وما دام أهانني لن يحاسبني لأنه لم يعطيني شيئاً ليحاسبني عليه. لم تقل الآية فأما الإنسان إذا ما أعطاه ولكن قال (إذا ما ابتلاه) فالمال ابتلاء والفقر ابتلاء، الثراء ابتلاء والفقر ابتلاء (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) فالابتلاء والفتنة واجبة على كل إنسان بالمال أو بعدمه، بالغنى أوبالفقر ولذلك إذا تدبرت الآية يجب أن تأخذ كلمة إبتلاء (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) الفجر) القول خاطئ في الحالتين والإجابة في الحالتين (كلا) و(كلا) في اللغة العربية للزجر والردع كأني بالله تبارك وتعالى يقول لا المال دليل الإكرام ولا الفقر دليل الإهانة إنما حلّ القضية (إنما أكرمكم عند الله أتقاكم) لا المالد يدل على إكرام الله ولا الفقر يدل على الإهانة وإنما هذا وذاك إبتلاء والقاعدة القرآنية باقية إلى يوم الدين (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي الذي نجح في ابتلاء المال والذي نجح في ابتلاء الفقر، هذا هو ابتلاء محض لذا الإجابة على القولين (كلا) فإذا أعطاك الله المال فاعلم أن هذا عن عزة وحكمة (وهو العزيز الحكيم) وإذا منع عنك المال وأفقرك فاعلم أنه العزيز الحكيم، إذا أعطاك بحكمة وإذا منع عنك بحكمة فانجح في الامتحان وانجح في الاثنين فكم من ثري أفقره الله في لحظة وإن حدث هذا فلحكمة وقد يكون ابتلاء آخر فوق الابتلاء وقد يكون هذا تصعيد للدرجات والله تعالى يريد أن يمحصك لذا قوله تعالى (أفحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) أين الامتحان؟ أين الابتلاء؟ يمتحننا لتكون حجة علينا كما يمتحن الأستاذ تلميذه مع علمه بأنه سينجح لكن ورقة الامتحان تكون شاهدة عليه. هكذا هو الابتلاء الابتلاء في الدنيا رغم علم الله تعالى ليقيم الحجة علينا يوم القيامة ولذلك (فأما الإنسان وأما الإنسان) هذا ابتلاه بالمال وهذا ابتلاه بالفقر ويجب أن نعلم عن الاثنين عن حكمة (وهو العزيز الحكيم) كل آية يجب أن نأخذها على مراد الله تعالى فيها لا على فهمنا نحن، لا بد أن تبحث وتفكر وتناقش وتتدبر حتى نصل إلى مراد الله تبارك وتعالى فينا ولذلك إذا استمعنا قول الحق تبارك وتعالى (وهو العزيز الحكيم) بعد الآية التي معنا في مسألة بداية الخلق وإعادته والبعث والموت والرجوع إلى الله بين الآية 11 و27 من سورة الروم يجب أن نفهم معنى (العزيز الحكيم) ولذلك هناك آية في سورة الرحمن (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) كلمة يوم في هذه الآية بعيد عن فهمنا نحن لهذه الكلمة.
( كل يوم هو في شأن) إياك أن تظن أن اليوم هنا يعني 24 ساعة لكن هذه الكلمة سماها علماء اللغة والذين درسوا مسألة التوقيت سموه يوم الآن في حق الله تبارك وتعالى كأنها أقل من اللحظة، كل يوم هو في شأن يعني كل آن، والوقت الآن وقت وهمي بالنسبة لله تبارك وتعالى يعني لما نقول نحن الآن لكن الآن في حق الذي يقول للشيء كن فيكون لا تتحقق وقت الآن وقت وهمي بالنسبة لله تبارك وتعالى، يجب أن نفهم شأن الله أنه ليس كمثله شيء نحن نأخذ المثل علينا نحن ولهذا الآية التي معنا (وله المثل الأعلى في السموات والأرض) والمسألة بالنسبة للإله الحق ليس عالي وأعلى وإنما هو سبحانه مثله أعلى دائماً لأنه أحياناً يعطينا الله تبارك وتعالى الآية حتى نفهمها بمفهومنا نحن كما في قوله تعالى (وهو أهون عليه) نحن نفهمها بمفهومنا نحن أن البداية أصعب من التكرار لكن بالنسبة لله فإنما هو أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فالمسألة أهون وأعلى من فهمنا نحن أما مثل الله تبارك وتعالى فهو أعلى دائماً بل إنه يدار أيضاً على مدار قوله سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء) عندما نتكلم في الذات الإلهية يجب أن نفهم أنه ليس كمثله شيء. ولذلك بعد أن قال تعالى (وله المثل الأعلى في السموات والأرض) قال (وهو العزيز الحكيم) العزيز الغالب الذي لا يُغالب فيغلب والحكيم الذي يدير شؤون خلقه بحكمة فائقة يضع الأمر في نصابه أي لو كنت واعياً وتصيبك مصيبة عليك تصبر وتحمد، الصبر لا بد له من حلقة خاصة به لكن الصبر في مفهوم أهل الاعتقاد الصحيح يبدأ حيث ينتهي، تجد من هو لديه مشكلة وتجده صابراً شهوراً ثم في لحظة يقول أنا صبرت بما فيه الكفاية بهكذا ضيّع كل الأيام اليت صبرها ولذلك لا أجر له، إياك أن ينتهي عند الصبر فإذا أردنا أن نفهم هذه المسألة نذهب إلى قصة يعقوب u عندما عاد أبناؤه بدون يوسف وجاؤوا بالقميص الذي عليه الدم الكذب قال (بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل) لو انتبهنا لآيات الدين القيم التي نتناولها (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) يجب أن تعمل حسابك أن مسألة الصبر عندك بإقامة الوجه للدين القيم يجب أن تبقى مستمرة عندك حتى موتك وإلا ستضيع نفسك ويمكن أن تضيع نفسك بكلمة ولذلك هذا ابتلاء ليعقوب u وابتلاء عالي جداً لكنه نبي والنبي إذا كان ذكره في القرآن فإنما لنتعلم نحن منه. (فصبر جميل) ليس بقدرتي أنا وإنما (والله المستعان على ما تصفون) إذن الصبر قد تفعله أنت لكن الصبر الجميل لا بد أن تستعين فيه بالله تعالى فإذا حصلت لك أي حادثة أي مسألة فيها اهتزاز أو اضطراب عقيدة من موت عزيز عد إلى قول الرسول r " إذا مات العزيز أو الحبيب أو الولد وصبر الإنسان لا جزاء له إلا الجنة" بل إن الله تبارك وتعالى يكافئك إذا صبرت بيتاً في الجنة يسمى بيت الحمد (فصبر جميل) هو الصبر الذي لا شكوى معه فلا تقل أنا صابر، لماذا يا رب؟ يجب أن نفهم أنه لا يُسأل عما يفعل فيعقوب u قال (والله المستعان على ما تصفون) فاستعانتك بالله تهون عليك أموراً كثيرة ولذلك (الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إله راجعون) يعني أنا كلي لله فما يفعل بي الله تبارك وتعالى فهذا من شأنه وإنا إليه راجعون حتى تكون المكافأة إذا صبرنا وتحملنا ولذلك (وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) بعزته سلِّم إليه لأنه لو لم يعجبك ما قضى به الله فافعل ما تشاء لأنه العزيز فماذا ستفعل؟ سلِّم له الأمر. بعض الأمثال الشعبية يقول: إن صبرتم أجرتم وأمر الله نافذ وإن ما صبرتم كفرتم وأمر الله نافذ فهو نافذ في الحالتين لأنه أمر العزيز سبحانه الذي لا يُغالب حتى يُغلب فكن واعياً وسلِّم له بالأمر والله تعالى له إرادة وأنت لك إرادة فهل تقارن إرادتك بإرادته هو؟ مستحيل، إرادتك أنت جاءت عن شهوة وأهواء (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) سلِّم الأمر لله تبارك وتعالى وارض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس في الدنيا وفي الآخرة لأن الدنيا عرض زائل مهما طالت بالإنسان ثم سيموت وما دام الموت سيأتي لا تضيع صلاة ولا تضيع صيام ولا تضيع تقوى وإنما اعمل واشتغل لأن الموت آتي واعلم أن كل ما يحصل لك في الدنيا يحصل على مراد العزيز الذي لا يرد قضاؤه الحكيم الذي فعل هذا الأمر بحكمة وكم من الأمور تحدث لنا نرفضها في بدايتها لكن بعد فترة نقول سبحان الله أن الأمر حصل هكذا والآن عرفت الخير فيه لكنه هو العزيز الحكيم فسلِّم له الأمر وساعة تسلِّم الأمر لله تبارك وتعالى سلِّمه على أنه (وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم). أسأل الله تبارك وتعالى أنت يعلمنا كيف نصبر على ابتلائه وكيف نتقي فننجح في هذا الابتلاء لتكون لنا المكافأة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أسأل الله تعالى أن نكون منهم إن شاء الله