سئم أطفالُ مدينةِ الكرز الأزرق كثرةَ أوامر الكبار ونصائحهم التي لا تنتهي أبداً، فذهب وفد منهم برئاسة الطفل
(شقلوب) إلى الملك المحبوب (حسون) وكانَ يحبُّ الأطفالَ والعزف واللعب كثيراً وقفَ شقلوبُ أمام الملك وبعدَ أن حيَّاه قدَّم لـه مزماراً من القصب نفخَ فيه الملك فأصدرَ صوتاً جميلاً جعله يتمايل طرباً ثمَّ قال : - لماذا جئتَ لمقابلتي أنتَ ورفاقُك يا شقلوب؟ -
نريدُ أن نشكوَ لك أيها الملك كثرةَ أوامر الآباء والأمَّهاتِ والأعمامِ والعمَّاتِ والأخوالِ والخالاتِ والجيرانِ والجاراتِ والمعلمين والمعلِّمات . - يكفي.. يكفي يا شقلوب ماذا يأمرونكم؟ ! وهنا ارتفعت أصواتُ الأطفال من كلِّ جانب
.. استيقظوا حانَ وقتُ المدرسة.. اغسلوا وجوهكم وأيديكم جيداً.. اشربوا كأس الحليب.. نظِّفوا أسنانكم.. لا تسرعوا في الطريق.. لا تلعبوا.. انتبهوا للسيَّارات.. وفي المدرسة تتواصلُ الأوامر.. أينَ الوظيفة؟.. لماذا تأخّرتم؟.. احفظوا الدرس جيداً.. لا تركضُوا في الباحة.. مللنا حياتَنا أيها الملك. يبدو أنّ الكبار قد أتوا بنا إلى هذه الدنيا من أجل إلقاء الأوامر والنصائح فقط . صمتَ الملك قليلاً ثمّ تناول ثلاثَ كرزاتٍ شهية وغنَّى بصوت جميل عن طفل يعيشُ في الغابات وأصدقاؤه الشمسُ والطيورُ والغدرانُ والرياح
. وبعد أن أنهى الملك أغنيته كانَتْ عيونُ الأطفال مليئةً بالدموع.. فكَّر الملك قليلاً ثم قال : - اسمعوا.. لديّ فكرة طريفة يا أصدقاء ! - ما هي؟ ! - سأريحُكم من أوامر الكبار أسبوعاً كاملاً.. ما رأيكم؟ -
هذا قليل.. أرحنا منهم شهراً كاملاً -
بل سنةً وأكثر ! صرخ الملك
: - يكفي.. يكفي.. سآخذ غداً جميع الكبار في المدينة إلى جزيرة (الكركي المجنون) وسنبقى هناك حتى تبعثوا لنا رسالة ! صرخ طفل من الوفد
: - لن نرسل لكم أية رسالة ! وصرخَتْ طفلةٌ غاضبة
: - لا تنسَوا أخذَ الصغار الذين يرضَعون الحليب ويبلِّلون ثيابهم . - وخذوا معكم أيضاً كلَّ من لا يستطيع إلاَّ قول بابا.. بابا.. ماما.. ماما -
سئمنا صُراخَهم وبكاءَهم.. سئمْنا حملَهم وتدليلهم .. عزف الملك حسُّون على المزمار قليلاً وتناول كرزتين ثمَّ قال
: - لا بأس أيُّها الأطفال سأفعلُ كلَّ ما تطلبون . في صباحِ اليومِ التالي وقفَ الأطفالُ على شاطئِ البحرِ يودِّعون السفن التي ستحملُ الكبارَ وراضعي الحليب إلى جزيرة
(الكركي المجنون) وقبلَ أن يركبَ الملك حسّون آخرَ سفينة قدَّم للأطفال حمامةً برتقاليّة اللون وقال : - إذا أردتُمْ أن نعودَ سريعاً فأرسلوا إلينا هذه الحمامةَ واسمُها (سجيعة ). صرخَ شقلوبُ وردَّد الأطفال خلفه
: - لا نريدُ هذه الحمامةَ الغبيّة . - ليتَ ثعلباً ينقضُّ عليها وهي نائمة . - ليتَ صقراً يخطفها طعاماً لفراخه ! غضبت سجيعة وطارت نحو غابة السناجب
. ولم تكَدْ السفن تغادر الميناء حتى قفز الأطفال وصرخوا.. هيه.. هيه.. نحنُ أحرار.. نحن أحرار.. ورموا قبعاتهم وكراتهم وحتَّى أحذيتهم في الهواء ثمّ ركضوا على رمال الشاطئ وخلع بعضهم ثيابه وألقى نفسه في مياه البحر كما أخذ آخرون يبنون من الرمل بيوتاً وقصوراً وقلاعاً ويزينونها بالأصداف والحجارةِ الملونةِ وحين سئموا من البحر والرمل أسرعوا إلى الشوارع فلعبوا كما يشاؤون وقذفوا الكراتِ في كلِّ اتجاه غير مبالين بتحطيمِ النوافذِ كما سدَّدوا حجارتَهم نحو العصافيرِ والمصابيح وحين أصبحت الشمس عموديةً فوقَ رؤوسهم قرصَ الجوع بطونَهم فهرعوا إلى بيوتهم فتحوا البرّادات أخرجوا ما فيها من طعامٍ وحلويات والتهموها باردة ثمّ خرجوا ثانية إلى الشوارع وقادهم شقلوب إلى مدينة الألعاب فوجدوها مغلقة، لكنَّهم تسلَّقوا الأبوابَ والأسوار وقفزوا إلى ساحتها ولم يستطيعوا الاستمتاع إلاّ بالأراجيح لأنّ الكبار المسؤولين عن تشغيلِها قد رحلوا إلى الجزيرة مع الراحلين فاقترحَ عليهم شقلوبُ أنْ يذهبوا إلى الحدائق. وهناك ركضوا فوق المروج وداسوا الأحواض وقطفوا الأزهار وألقوا بأنفسهم في البحيرات يطاردون البطّ والإوز.. ولم يدرِ الأطفالُ كيف رحل النهار فجأةً وخيّم الظلام الشديد بهذه السرعة فعادوا إلى بيوتهم بعد أنْ جعلوا المدينةَ أشبه بحاوية قمامةٍ مقلوبة. ولمَّا أرادوا إشعال المصابيح الكهربائية لم تضئ لأن المسؤولين عن توليد الكهرباء كانوا قد رحلوا أيضاً إلى جزيرة (الكركي المجنون). جلسَ الأطفال متعبين جائعين، الخدوشُ والجروح تغطّي وجوههم وأيديهم والتراب والأوساخ تغطِّي شعرهم وثيابهم. استراحوا قليلاً وحين صرخَتْ بطونُهم من الجوع اتَّجهوا إلى البرَّادات فوجدوها فارغة إلا من الماء وبقايا الطعام فنظَّفوها تماماً ولكنَّها لم تسدَّ جوعهم. اشتدَّ الظلام تلك الليلة وهبَّت ريح شديدة فتراكضت العفاريت والأشباح فوق الأسطحة وأمام النوافذ وعلى الأدراج والشرفات وقرعت الأبواب والنوافذ. فأسرع جميع الأطفال إلى أسرَّتهم مبكِّرين وشدُّوا الأغطية فوق أجسادهم ورؤوسِهم وهم يرتعدون خوفاً ورعباً ولم تغمضْ جفونُهم طوال الليل. وحين أطلّ الصباح انسلُّوا من بيوتهم مرهقين شاحبي الوجوه. فجرُّوا أنفسهم إلى الساحة الكبيرة وتشاوروا فيما سوف يفعلون وبعد نقاش قصير ورغم الأصوات القليلة المعارضة فقد قرَّروا إرسال الحمامة (سجيعة) إلى جزيرة (الكركي المجنون) وتفرَّقوا في كلِّ اتجاه يبحثون عن الحمامة وينادونها: يا سجيعة.. يا سجيعة.. أنقذينا يا بديعة.. أنقذينا يا بديعة.. كانت الحمامة نائمة بين أغصان شجرة حور عالية فاستيقظت على أصواتِ الأطفال وهم ينادونها ولكنَّها لم تردّ ووضعَتْ رأسَها تحتَ جناحِها وتابعَتْ نومها. إنَّها ما تزال حانقةً عليهم، عند الضُّحى ارتفعَ بكاءُ الأطفال وصاروا يتوسَّلون إلى الحمامة كي تأتي إليهم فرقَّ قلبها وطارت نحوهم ثم حطَّت فوق شجيرة رمَّان فأحاطوا بها فرحين.. سألتهُم وهي عابسة : - ماذا تريدون منِّي؟ صاح شقلوب وهو يمسح دموعه : - نريدك أن تسافري إلى جزيرة (الكركي المجنون) وتطلبي من الكبار أن يعودوا إلينا . - ولكنَّكم طردتموني وتمنَّيتم موتي ! - نحن آسفون يا سجيعة ونعتذر منك . - اسمعوني جيداً.. لن أذهبَ إلى جزيرة الكركي إلاّ إذا نظَّفتم المدينة من جميع الأوساخ تماماً . - صرخ بعضُ الأطفال محتجّين -
ولكنَّ تنظيفَ المدينةِ صعبٌ جداً يا سجيعة ! - ولماذا لم تفكِّروا بهذا حين وسَّختم المدينة؟ ثم طارت الحمامة ووقفت فوق أحد أسلاك الهاتف وصاحت : - هيه.. ماذا قرَّرتم؟ صرخوا مستسلمين : اذهبي.. اذهبي.. سننظِّف المدينة . - هناك شرط آخر ..! - ما هو؟ -
أريدكم أن تعتذروا من الكبار وتستقبلوهم بفرح وابتسام . - موافقون.. موافقون. أسرعي فقط يا سجيعة . صفَّقت الحمامة بجناحيها ويمَّمت نحو البحر تطير فوق أمواجه الزرقاء
.. واندفع الأطفال بحماس نحو الشوارع والساحات ينظِّفون المدينة ويصلحون ما أتلفوا رغم الجوع والتعب.. وحين مالَت الشمس للغروب عادت المدينة نظيفة أنيقة كما كانت فأسرع الأطفال نحو الشاطئ يرقبون بلهفة عودة أهلهم وقلوبهم تخفق شوقاً لرؤية آبائهم وأمَّهاتهم وإخوتهم وكلِّ الكبار الذين يحبُّونهم.. وبعد انتظار محرق.. لمعت أخيراً أجنحة الحمامة من بعيد قادمة مع الشفق الوردي فألاحوا لها بأيديهم فرحين.. حامَتْ فوق رؤوسهم تبشِّرهم بقدوم السفن.. وما هي إلا ساعة من الزمن حتّى ظهرت أولُ سفينة تشقُّ الأمواج نحو الشاطئ تتبعها بقية السفن وقد سطعَتْ بأنوارِها فوقَ مياه البحر.. رسَتْ السّفن وهبط منها الركّابُ فتدافع الأطفال كالسيل يقبِّلون ويعانقون أهلهم وإخوتهم ويشكون ما حلَّ بهم.. وساد الصمت حين هبط الملك (حسُّون) من السفينة وهو يرتدي ثياباً رياضية وينشد أغنية جميلة عن جزيرة الكركي ثمَّ صعد فوق صخرة قرب الشاطئ وقال : - أيها الأطفال الأعزَّاء لا يمكنُنا الاستغناء عنكم ولا يمكنكم الاستغناء عنَّا.. ولذلك فقد قررت بالتشاور مع الكبار ما يلي : أولاً
: تخفَّض أوامر الكبار إلى النصف هذا العام ..! ثانياً
: يطلب من الأطفال أن يقوموا بما هو ضروري وجميل ونافع لهم ولأوطانهم دون أيِّ أمر.. ما رأيكم؟ صرخ الأطفال جميعاً بحماسة : - موافقون ..! أمسك الملك مزماره وعزف لحناً جميلاً فغنّى الجميع