برُّ الوالدين
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
. سليمان بن حمد العودة
| المصدر :
www.islamlight.net
فهذا حديث أسوقه للأبناء، مذكّراً بحقوق الشيوخ والآباء، ومنبّهاً لضرورة برّهم والإحسان إليهم، وتلك عبادة غفل عنها بعض الناس واستخف بأمرها كثير من الشباب، ولم يسلم من هذا التّقصير الخيرون، والعقلاء الطيبون.
إنّ أمّك حملتك في أحشائها وهناً على وهن، حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً، وقد غذتك بصحتها؛ فهي تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، وأنت في فؤادها يقظان صغيراً كنت أم كبيراً، تتخذ من حجرها لك بيتاً، وطالما أماطت عنك الأذى ولم تضق بذاك ذرعاً.
فهي أم الصبر، وجبل الشوق، وعنوان التضحية، ورمز الحنين، ومربط السلوى والشكوى.
وأبوك على المنوال نفسه، يكد لأجلك، ويسعى يجوب الفيافي، يتحمل الأخطار بحثاً عن لقمه عيشٍ يدفع بها الجوع عنك، يحميك من صنوف الأذى، ويتعهدك بالحنان والتربية، فهو الخادم المشغول، والمكافح المغمور.
وربما اخترمته ريب المنون وهو برحله الجهاد من اجل البنين والبنات!.
هذان الأبوان هم اللذان قال الله بحقهما: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وقرن حقه بحقهما، فقال سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وأمر بالشكر له ولهما: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
وهما اللذان كانت الوصية الإلهية بالإحسان إليهما: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً) (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً).
بل أمر بمصاحبتهما بالمعروف في الدنيا، وأن كانا كافرين (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا).
والجهاد فيهما مقدم على جهاد القتال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". [متفق عليه].
وإيناسهما وإدخال السرور مقدّمٌ على الهجرة: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ! فَقَالَ: ارْجِعْ عَلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا". [رواه أبو داوود بسند صحيح].
وأذا كان هذا في عظائم الأمور فلا تسل عما دون ذلك.
إنّ البر بالوالدين وفاء وتوبة، وهو طريق الجنة: عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوْ احْفَظْهُ". [رواه احمد والترمذي وصححه، وابن ماجة، وابن حبان والحاكم وصححه].
والمعنى كما قال العلماء: أي خير أبواب الجنة.
ولنتأمل جيداً في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ". [رواه مسلم].
فهل غاب عنّا أن رضا الرب في رضاهما، وأن سخطه سبحانه في سخطهما؟!. أم نسينا أن دعوتهما للولد لا تُرد؟! وان في صلتهما بسط الرزق والزيادة في العمر؟! ففي الحديث: "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". [رواه البخاري].
وهل هناك أقرب من الوالدين وأحق منهما بالصلة؟!.
ومن آثار بر الوالدين: أنه سبب لكشف الشدائد والكربات بأمر الله، ففي قصة الثلاثة الذين آواهم المطر إلى غار في الجبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، ولم يستطيعوا الخروج منه حتى دعوا الله بصالح إعمالهم.
فهل علمت أن أحد هؤلاء كان باراً بوالديه؟! وأنه توسّل لله تعالى بذلك ففرج عنهم.
وأمر البر من سمات الأخيار من الأنبياء والصالحين، فيحيى عليه السلام قال عنه مولاه: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) وعيسى عليه السلام قال تعالى يحكي عن صنيعه بوالدته: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).
ولنتأمل نموذجاً آخر من البر والإحسان، ففي قصة موسى عليه السلام (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
فهاتان الفتاتان العفيفتان الحييتان كانتا أسوة صالحة في البر بالوالد، ولذا كان حقاً على الفتيان اللا يقلو عنهن براً وحياءاً وإحساناً.
ومن مدرسه النبوة يبرز لنا الحارث بن النعمان الأنصاري البدري - رضي الله عنه - نموذج للبر يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بصفن المكافاءة ويراه في الجنة على بره وهو بعدُ بالدنيا، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟! قَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ. وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ". [رواه احمد وسنده صحيح].
ومن جيل التابعين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل آخر من البررة: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ... ". [أخرجه مسلم].
وإن البرّ يكون بالقول وطيب الكلام وخفض الجناح رحمةً وتقديراً، والدعاء لهما إحياءاً وأمواتاً، وسدّ حوائجهما، ومؤانستهما.
سئل أحد الفضلاء: "ما بر الوالدين؟! قال: أن تبذل لهما ما ملكت وتطيعهما في ما أمراك ما لم يكن معصية.
قيل: فما العقوق؟! قال: أن تزجرهما وتشتمهما. ثم قال: أما علمت أن نظرك في وجه والديك عباده؟! فكيف بالبر بهما؟!"
وقال أبو هريرة رضي الله عنه لرجل وهو يعظه ببر أبيه: "لا تمشِ إمام أبيك ولا تجلس قبله ولا تدعوه باسمه وقال قاروه من السنة إنا يوقر أربعة العالم وذو ألشيبه والسلطان والوالد ومن الجفاة إنا يدعو الرجل والده باسمه.
إنّ البر بالوالدين يستمر في حياتهما وبعد مماتهما، ويستفيد الأموات من دعوات الإحياء واستغفارهم، وقد ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن "ترفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي ربي، أي شيء هذه؟! فيقال: ولدك استغفر لك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً).
وإذا كان البر عنوان للوفاء ودليلاً على العقل والمروءة والكرم، وطريقاً للسعادة في الدنيا والآخرة، فإنّ العقوق نكران للجميل، وهو دليل على تناقص المروءة وخسة الطبع، وهو انتكاس للفطرة السوية وطريقه للشقوة في الدنيا، والهاوية في الأخرى.
ألا يكفي في التحريم من عقوق الوالدين أنّه من أكبر الكبائر، وأنه رديف للشرك لله؟! فالصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ". [الحديث متفق عليه].
فيا أيها المخبول، يا أيها المخبول، لماذا حينما كبرت واحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟!
لماذا قدمت غيرهما في الإحسان وقابلت جميلهما بالنسيان؟!.
أَمَا علمت أن في بقائهما سعادتك؟! وفي برهما تتنزل البركات عليك؟!.
إنّك مخبول حقاً أن لم تنل رضا ربك برضاهما وتدخل الجنة بسبب برهما.
أنسيت أيام الصبا؟! أم غرتك الدنيا؟!.
وهل في مخيلتك أنك لم تمر بمرحله الضعف والطفولة؟! أم تراجعت الشباب والفتوه وغرك التعليم والثقافة وضننت المال والجاه مؤهلين للترفع وداعيين للتأفف والتبرم؟!.
قل لي بربك: ماذا تراك ستصنع وبأي نوع من المعروف تتابع لو قُدّر أن إنساناً وجدك في خِلفة من الأراضي مجرّد من الثياب، بل ومن الطعام والشراب، قد آلمتك الغربة، وأوحشتك الطفولة، وأنت أضعف من أن تجلب لنفسك سبباً للحياة، وأهون من أن تدفع عنك الممات؟!.
تخيّل وأنت في تلك الحال لا تملك إلا البكاء، فهدى الله إليك من أشفق عليك، وأنزل رحمته في قلبه لك، فكساك بعد العري، وأطعمك وأسقاك حتى الممات، وهيأ لك السكنى لتتقي به من حر الهواجر، وتتقي به من زمهرير الشتاء، وما زال هكذا يحوطك بالرعاية، ويدفع عنك كل مكروه يستطيع دفعة، حتى اشتد ساعدك واكتملت قوتك.
أتراك تقابل الإحسان بالإجابة؟! أم تتقدم في أداء الواجب إذا جاء وقته؟!.
إنني اترك فرصه التفكير لتختار لنفسك ما تشاء من إجابة.
إنّ المتأمل في أسباب العقوق يجدها نتيجة جهل أو اغترار بمال أو جاه، أو بسبب سوء خلق و دناءة طبع، أو بسبب طاعة الزوجة والأبناء، وربما وجدت في قائمه العاقين سفيهاً لم يعرف للوالدين حقهما، أو شيخاً أنسته السنين فظلهما وأعجبه عقله واكتمال قوته ومعرفته في مقابل ضعفهما وغياب كثير من الأمور عن مدركاتهما، أو فقيراً ضاقت عليه الأرض بما رحبت فراح ينسب لهما أسباب فقره وقلقه، وينزل بهما جام غضبه، وربما كان سرّ فقره وقلقه عقوقه وعصيانه،
وقد تجد غنياً ضنّ بماله وضاق ذرعاً بمطالب والديه، وإن كانت يسيرة، وفي الحديث: "وأطع والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما". [رواه ابن ماجه والحاكم وغيرهما بسند حسن].
وقد تجد في القائمة متعلّماً في صوره جاهل، ساقه ما وصل إليه من علم على التعالي، ودفعه ما حصل عليه من شهادات إلى الغرور والتباهي، فضنّ على والديه، فتحدث إليهما حديث العالم إلى الجاهل، ونظر إليهما نظره احتقار ودونيةٍ فلا يستطيب الحديث معهما، وربما تأفّف أو كره شيئاًَ من أحاديثهما. والمثلة في ذلك تطول.
ثم أنّ التوبة تجب ما قبلها لمن فرّط في حق والديه، فمن فرط فليستغفر وليبدل الإساءة بالإحسان، إن كان والداه أو احدهما على قيد الحياة، فالفرصة أمامه.
وأمّا إن كانا قد فارقا الدنيا ففضل الله ورحمته قد وسعت كل شيء، فيمكن للعبد أن يعوّض، ويتجاوز تقصيره وتفريطه، وذلك بكثرة الدعاء والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، وصله من كانا يفضلان صلته بالدنيا: رُوي عن عبد العزيز ابن أبى مروان أنه قال: "إذا كان الرجل باراً بوالديه في حياتهما، ثم لم يفِ بعد موتهما بذنوبهما، ولم يقضِ ديونهما، كُتب عند الله عاقّاً وإذا كان يبرهما في حياتهما ثم أوفى بدفنهما وقضى ديونهما كتب عند الله باراً".
جعلني الله وإياكم من البررة الأتقياء، وجنبنا مسالك الأشقياء والسفهاء.