قد لا يُؤمن كثير من متوسطي العمر، أي الذين في الخمسينات أو الستينات، أن بإمكانهم خفض خطورة إصابتهم بأمراض شرايين القلب، ولسان حالهم آنذاك عبارات من نوعية «للسن أحكام»، والتعجب بالقول «وهل يُصلح العطار ما أفسد الدهر»، إلى آخر ما تفتقت به قريحة الأدباء والشعراء في هذا المضمار المتشائم.
لكن ثمة من يعتقد خلاف ذلك، وتحديداً يقول إن من هم في الخمسينات أو الستينات بإمكانهم خفض احتمالات إصابتهم بأمراض شرايين القلب، بل وخفض احتمالات وفاتهم بسببها! والسؤال : هل بإمكان إنسان ما، تقدم في العمر، أن يُعيد من جديد فتح صفحة اتباع وسائل الوقاية من أمراض شرايين القلب كي يحمي نفسه بشكل أكيد من الإصابة بها أو بتداعياتها؟ والوجه الآخر للسؤال هو: إلى اي مدى يشكل تقدم العمر بذاته عاملاً قوياً ومستقلاً في ارتفاع خطورة الإصابة بأمراض القلب؟ بمعنى هل أطباء القلب حينما قالوا إن التقدم في العمر هو أحد عوامل خطورة الإصابة بأمراض الشرايين،
اعتمدوا في كلامهم هذا على نسبة إصابة أناس أصحاء متبعين للنصائح الطبية في سلوك أنماط صحية للحياة اليومية؟ أي الذين يُمارسون الرياضة البدنية اليومية ويُحافظون على أوزان طبيعية لأجسامهم ويبتعدون عن التدخين وعن تناول الكحول، ويأكلون الخضار والفواكه والحبوب الكاملة، ويُقللون من تناول الشحوم الحيوانية، ويتحاشون أسباب التوتر النفسي والوقوع في أجوائه وغيرها من جوانب النمط الصحي في عيش الحياة اليومية.
الجواب لا. والدليل على ذلك أن ثمة توجها علميا بالبحث في تأثيرات اتباع كبار السن لتلك الجوانب الصحية في نمط الحياة لمعرفة ثمار ذلك. ومجرد وجود هذا التوجه يعني أن علاقة تقدم السن بارتفاع خطورة الإصابة بأمراض القلب، إنما هي ليست حتمية، بل محتملة. والاحتمال في التأثير بشكل عام، له عناصر قد تُؤدي إلى ارتفاعه أو إلى انخفاضه.
وما قاله الباحثون من كلية الطب بجامعة جنوب كاليفورنيا في تشارلستون، هو أن من تتراوح أعمارهم ما بين 45 و 64 سنة، بإمكانهم خفض احتمالات خطورة إصابتهم بأمراض شرايين القلب بشكل كبير، متى ما اتبعوا سلوكيات صحية في حياتهم.
* 4 التزامات اذا تصور البعض أن نتائج بحثية من هذا النوع إنما هي كلام طبي عادي ومكرر، فهو مخطئ تماماً، لأن قيمة نتائج مثل هذه الدراسة أعلى من اكتشاف علاج جديد لأحد أنواع السرطان أو أمراض الرئة المزمنة، ناهيك من روماتزم المفاصل أو قرحة المعدة. أما لماذا فلأن الوفيات بأمراض شرايين القلب على المستوى العالمي، والتي نسبة مهمة منها تقع بين كبار السن، تفوق الوفيات من كل الأمراض السرطانية وأمراض الرئة والكبد والكلى وغيرها.
ووفق ما تم نشره ضمن عدد يوليو من المجلة الطبية الأميركية، وجد الباحثون أن التزام من أعمارهم تتراوح ما بين 45 و 64 سنة لتطبيق أربعة أمور من السلوكيات الصحية له تأثير كبير على صحة قلوبهم، يظهر سريعاً وخلال بضع سنوات لا تتجاوز الأربع! وهي تحديداً تناول خمسة حصص غذائية من الفواكه والخضار يومياً، وممارسة الرياضة البدنية لمدة ساعتين ونصف كل أسبوع، والحفاظ على مؤشر كتلة الجسم ما بين 18.5 و 30، والامتناع عن التدخين، فإن النتيجة لهذه السلوكيات هي خفض الإصابة بأمراض شرايين القلب بنسبة 35%، وخفض نسبة الوفيات بأمراض شرايين القلب بنسبة 40%. هذا بالمقارنة مع الأشخاص الآخرين الذين هم في نفس السن ولكنهم لا يتبعون تطبيق هذه السلوكيات الصحية. وقال الدكتور دانا كينغ، الباحث الرئيس في الدراسة، «إننا نُسمي دراسة مفعول هذه السلوكيات الصحية، البسيطة وغير المُكلفة، دراسة كيفية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء
. وبعض من متوسطي العمر لا يُغيرون سلوكيات حياتهم نحو ما هو صحي، لاعتقادهم بأن التلف أو الضرر قد حصل، ولا يُفيد أي شيء آنذاك. ولذا فإن مستوى الانطباع الإيجابي العام لدى الناس حول دور اتباع سلوكيات صحية في فترات منتصف العمر، لا يزال منخفضاً. وأضاف بأن الدراسة الحالية تبين أن تبني اتباع تطبيق هذه السلوكيات الصحية الأربعة له تأثير مهم في خفض مخاطر الإصابة بأمراض شرايين القلب ومخاطر الوفيات نتيجة لها. وذلك خلال أربع سنوات فقط من بدء الالتزام بها. وهو ما يجعله أمراً يستحق العناء بامتياز، وأن بلوغ الإنسان تلك المراحل العمرية لا يعني أنه تأخر جداً في عدم الاستفادة من تغيير سلوكيات نحو الاتجاه الصحي.
مراحل الدراسة وابتدأت دراسة الدكتور كينغ للتحقق من مدى جدوى اتباع السلوكيات الصحية من قبل الرجال أو النساء حينما تتراوح أعمارهم ما بين 45 و 65 سنة. وشملت حوالي 16 ألف شخص من المشاركين في دراسة أميركية واسعة تُسمى دراسة مخاطر الإصابة بتصلب الشرايين في المجتمعات، والمقصود أربعة مجتمعات في الولايات المتحدة.
وتضمنت النتائج ثلاثة أمور أساسية، الأول أن فائدة الإيجابية للتغير نحو نمط صحي في سلوكيات الحياة من قبل منْ تجاوزوا الخامسة والأربعين، تظهر خلال أربع سنوات. أي خلال فترة قصيرة من المتابعة. والثاني أن تلك الفوائد ظهرت بالرغم من تبني درجة متوسطة فقط من التغيير نحو الأفضل والصحي. والثالث أن تبني الأربعة جوانب الصحية في سلوكيات الحياة كان أفضل من تبني جانبين أو ثلاثة فقط. لكن الملاحظة المهمة، وليست بالمستغربة نتيجة لتلك المعتقدات لدى الكثيرين بأن لا جدوى من البدء بتطبيق سلوكيات صحية عند بلوغ فترة الخمسينات أو الستينات، هو أن منْ يُمارسون تلك السلوكيات الأربعة من عند أنفسهم لم يتجاوزا 9% من عموم المشمولين بالدراسة، وأنه كلما تدنى المستوى التعليمي وتدنى الدخل المادي وكون المرء من أصول أفريقية أو مُصاب بالسكري أو ارتفاع ضغط الدم، قل الاهتمام بتطبيق السلوكيات الصحية تلك بين منْ تجاوزوا الخامسة والأربعين.
* العيش الصحي الصحة أو العافية أو السلامة من الأمراض، ونيل التمتع بمميزاتها، خيار أمام الإنسان. إن أخذ بأسبابها، نال فوائدها، وإن تخلف عن الاهتمام بذلك، ترك نفسه عُرضة لارتفاع احتمالات التعرض للمخاطر المرضية. هذا هو الأصل. والأمر برمته لا علاقة له بعمر أو حالة مرضية، إذْ مهما تقدم الإنسان في العمر، فليس ثمة ما يُقال عنه لا فائدة تُرجى منه لأن الوقت قد تأخر. ومهما كان لدى الإنسان من أمراض مزمنة، فإن الاهتمام بمعالجتها وفق المتابعة الطبية السليمة والتعاون الجاد مع الأطباء في ذلك، لا محالة له فائدة وجدوى. والقضية لا علاقة لها برفع المعنويات أو بيع الوهم، بل هي الحقيقة والواقع.
ويقول الدكتور ديفيد كاتز، مدير مركز أبحاث الوقاية بكلية الطب التابعة لجامعة ييل بالولايات المتحدة، إن معظم الخبراء يوافقون الرأي بأن تعديل سلوكيات الحياة نحو الطرق الصحية، في التغذية الجيدة والنشاط وعدم الكسل والامتناع عن التدخين، يُؤدي إلى قطع مستوى المخاطر الكلية للإصابة بأمراض شرايين القلب بنسبة 80%، والإصابة بالسرطان بنسبة 60%، والإصابة بمرض السكري بنسبة 90%.
وأضاف أن أقوى الأدوية على الإطلاق هو العيش بطريقة صحية. وهو ما لا يتطلب كتابة وصفة طبية، وليس له أي من الآثار الجانبية. وإن كان صعباً على الكثيرين في البداية إلا أن التزام تطبيق سلوكيات صحية يستحق أي عناء، ويُمكن البدء بها في أي نقطة من عمر الإنسان.