أتاني أحد الإخوة في أحد الأيام نادماً خجلاً من نفسه على ما بدر منه من سوء أدب مع الله - وهذا أفضل ما استطاع أن يسميه هو نفسه - حيث أقدم في أحد الأيام في ثورة غضب من خطيبته على سب الله ! نسأل الله العفو والعافية ، وقد أتاني في وضع يرثى له من الندم ، وأخبرني أنه خجل من نفسه ، وخجل الآن من أداء صلاته ، فهو إنسان - والحمد لله - ملتزم بأمور دينه وشرعه الحنيف . فأرجو من فضيلتكم أن تفيدونا بشأنه بالنصيحة ، وبيان الحكم الشرعي لما حدث معه ، وكفارة ذلك - إن وجد - .
الحمد لله
أولاً :
لا شك أن ما فعله صاحبك هو سوء أدب مع ربه عز وجل ، فربه تعالى الذي خلقه في أحسن صورة ، وهداه للدين الصحيح ، وأكرمه بالعقل والسمع والبصر ، ثم يسبه ويشتمه ؟! إن هذا الأمر لو فُعل مع واحدٍ من الخلق ممن أكرمه بتفاهات الدنيا أو سقط متاعها لعدَّ منقصة له ، وسوء أدب ، فكيف والأمر مع الله تعالى ، ولا مقارنة – أصلاً – بين إكرام الخلق وإكرام الخالق تعالى له ؟! .
وهذا السب يخرج صاحبه من الإسلام ، ويجعله مرتدّاً ، وليس بين العلماء خلاف في هذا الحكم .
قال ابن قدامة المقدسي - رحمه الله - :
ومَن سب الله تعالى : كفر ، سواءَ كان مازحاً أو جادّاً ، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه ، قال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) التوبة/65 .
" المغني " ( 12 / 298 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهراً وباطناً ، سواء كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرم ، أو كان مستحلا له ، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء ، وسائر أهل السنَّة القائلين بأن الإيمان قول وعمل .
" الصارم المسلول " ( 1 / 513 ) .
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 22 / 184 ) :
اتّفق الفقهاء على أنّ من سبّ اللّه تعالى كفر ، سواء كان مازحاً أو جادّاً أو مستهزئاً .
وفي ( 24 / 139 ) :
اتّفق الفقهاء على أنّ من سبّ ملّة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافراً .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
سب الدين من أعظم الكبائر ، ومن أعظم المنكرات ، وهكذا سب الرب عز وجل ، وهذان الأمران من أعظم نواقض الإسلام ، ومن أسباب الردة عن الإسلام ، فإذا كان مَن سبَّ الرب سبحانه وتعالى أو سب الدين ينتسب إلى الإسلام : فإنه يكون بذلك مرتدّاً عن الإسلام ، ويكون كافراً ، يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل من جهة ولي أمر البلد بواسطة المحكمة الشرعية ، وقال بعض أهل العلم : إنه لا يستتاب ، بل يقتل ؛ لأن جريمته عظيمة ، ولكن الأرجح أنه يستتاب لعل الله يمنُّ عليه بالهداية فيلزم الحق ، ولكن ينبغي أن يعزر بالجلد والسجن حتى لا يعود لمثل هذه الجريمة العظيمة ، وهكذا لو سب القرآن أو سب الرسول أو غيره من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ؛ فإنَّ سبَّ الدين أو سب الرسول أو سب الرب عز وجل من نواقض الإسلام ، وهكذا الاستهزاء بالله أو برسوله أو بالجنة أو بالنار أو بأوامر الله كالصلاة والزكاة ، فالاستهزاء بشيء من هذه الأمور من نواقض الإسلام ، قال الله سبحانه وتعالى : ( قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) التوبة/66،65 ، نسأل الله العافية .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 6 / 387 ) .
وقال – رحمه الله - :
كلُّ مَن سبَّ الله سبحانه بأي نوع من أنواع السب ، أو سب الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، أو غيره من الرسل بأي نوع من أنواع السب أو سب الإسلام ، أو تنقص أو استهزأ بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم : فهو كافر مرتد عن الإسلام إن كان يدَّعي الإسلام ، بإجماع المسلمين ؛ لقول الله عز وجل : ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) الآية .
وقد بسط العلامة الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله الأدلة في هذه المسألة في كتابه " الصارم المسلول على شاتم الرسول " ، فمن أراد الوقوف على الكثير من الأدلة في ذلك فليراجع هذا الكتاب لعظم فائدته ولجلالة مؤلفه ، واتساع علمه بالأدلة الشرعية رحمه الله .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 7 / 77 ، 87 ) .
وفي جواب السؤال رقم ( 42505 ) تجد فتوى الشيخ العثيمين في حكم سب الله ورسوله وسب الدين .
ثانياً :
ومع عِظم الذنب الذي فعله صاحبك ، ومع شدة ما يترتب عليه من أحكام إلا أن الله تعالى قد فتح باب التوبة لمن رغب بالرجوع عن ذنبه ، وأراد أن يتوب ويستغفر ، ولا ينبغي له أن يستبعد عفو الله تعالى ومغفرته ، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من العاصي والمرتد .
نعم ، يجب أن يندم وأن يؤرقه ذنبه ، لكن لا ينبغي أن يجعل بينه وبين الله تعالى حائلا يمنعه من التوبة والاستغفار .
قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر/53 .
وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) .
رواه مسلم ( 2759 ) .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
قيل للحسن – أي : البصري - : ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ، ثم يستغفر ثم يعود ؟ فقال : ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا ، فلا تملوا من الاستغفار .
وروي عنه أنه قال : ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين - يعني : أن المؤمن كلما أذنب : تاب - .
" جامع العلوم والحكم " ( 1 / 165 ) .
فالنصيحة له بالتوبة والندم على ما فعل ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، وليحرص أن يكون حاله بعد التوبة خيرا من حاله قبل ارتكاب هذه المعصية الكبيرة ، والله تعالى يتوب على من تاب .
والله أعلم .