ملامحها الجادة فرضتها ظروفها التي عاشت.. فقد لعب الزمان معها لعبته.. فأضناها الفراق.. واعتصر قلبها الالم لما لاقت!! مريم اسماعيل فرج الله عانت الأمرّين فقد استشهد زوجها الاول... واستشهد زوجها الثاني!!. وأنا في طريقي للالتقاء بها قلت في نفسي: كيف أسألها ان كان ذلك قد خلف مرارة بداخلها؟ وانا اعرف بأن ذلك قد حفر بداخلها حزنا وجرحا ولا أعمق!!
جلست في منزلها الواقع بمنطقة الرأس غربي بلدة اذنا الواقعة الى الشمال الغربي من محافظة الخليل وبدأت تروي القصة وفي كل عبارة ألف غصّة!!
مريم فرج الله تزوجت من زوجها الاول فرج الله اسماعيل فرج الله "الذي كان يعمل في البناء" وهي في التاسعة عشرة من عمرها، وسكنت معه بمنطقة التربة ببلدة اذنا، حيث أنجبت منه مصعب ثم عمر. حياتها الهادئة استمرت لأربع سنوات أو يزيد، ولم يلكن يؤرقها الا اقتحام قوات الاحتلال لبلدة اذنا بين حين وآخر .. اذ كان فرج الله حاله كحال شباب بلدته.. يدافع عنها بالرغم من أنه لم يكن ينتمي لأي حزب من الاحزاب.. فقد كان انتماؤه الوحيد للأرض التي ولد.. وعاش.. وتربي عليها.. ومع ذلك لم يمثل لها هذا الأمر هاجسا كبيرا، فزوجها لم يعتقل يوما من الايام، وبالتالي فان فكرة أن يأخذه أحد منها كان ضرباً من الخيال... فكيف ان كان الموت!! لم تكن تعرف مريم أن تاريخ 24 نيسان من عام 1988 سيحفر في ذاكرتها للأبد.. وأنه سيغير مجرى حياتها!! فقد بدا يوم السادس من رمضان يوما عاديا، تقول مريم:"في صباح ذلك اليوم توجهت برفقة زوجي وابني مصعب البالغ من العمر -في ذلك الحين- سنتين لزيارة أخته في منطقة "واد عزيز"، وفي طريق عودتنا مررنا ببيت قريب لي والذي دعانا للافطارعنده لكن زوجي رفض ذلك، وقال لقريبي مازحا: "لا أفطر عند من لا يصوم.." وتم ذلك بسرعة وكأن زوجي يستعجل شيئاً ما..!! وأضافت "وفي طريقنا للبيت مررنا بوسط البلد (بلدة اذنا) فاذا بمواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال، فما كان من زوجي الا أن أسرع بايصالي للمنزل، وقام على الفور بحلاقة ذقنه .. واستحم.. وتعطر كأنه عريس.. في يوم عرسه!! كما بدى عليه أنه "طاير من الفرح".
ولأننا نعرف أنه سيسعى للمشاركة في التصدي لقوات الاحتلال من جديد تقول أم مصعب "قام زوج أخته باغلاق الباب في وجهه خوفا عليه كي لا يخرج بعدما أصر ذلك، وبضغط من أخواته قبل البقاء في المنزل بعدما اشترط افطارهم معنا .. وبعدما وافقوا طلب مني تحضير ثلاث الى أربعة أصناف من الاطعمة على الافطار! وعندما قلت له هل ستأكل من كل ذلك؟ أجابني قائلا: طالما الجيش عندنا لا أعرف سنأكل أو لا نأكل؟؟
وأضافت أرملة الشهيد فرج الله، بمرارة رافقت لمعة في عينيها،: "المهم.. جلس معنا على ظهر سطح المنزل وبلحظه فقدناه فلم نجده!! ليتبين لنا أنه قفز من سطح لآخر ونزل من خلف المنزل!! حتى أن أمه لاحظته وسألته عن وجهته فأجابها حينها قائلا: أعود قريبا.. فطلبت منه أن لا يذهب لأن اطلاق النار مستمر .. الا أنه مضى في طريقه"... كما يمضيّ الرجال الى المعركة...
وبرفقة شبان البلدة بمنطقة "التلّ" بدأوا برجم جنود الاحتلال بالحجارة حيث استمرت المظاهرات واستمر معها رشق الجنود بالحجارة من ساعات الظهر الى ما بعد السادسة مساءا.
وبعد نصف ساعة تقول مريم فرج الله من بلدة اذنا القريبة من الخليل: "توقف اطلاق النار وأشيع ان الجيش قد ذهب فنزل الشباب ومنهم زوجي من منطقة اسمها (الزحليقه) وكان أن رأته بعض القريبات فقاموا بمساعدته على غسل يديه خشية اعتقاله ان أمسكته قوات الاحتلال بعد المواجهات وشاهدوا آثار الحجارة على يديه.. وطالبته النسوة بالعوده لأولاده.. وفجأة!!! عاد جيش الاحتلال فهرب الجميع ومنهم زوجي ولكنه فوجئ بأن أحد المداخل مقفل، واذا بجندي يطلق عليه الرصاص من على أحد الاسوار المحيطة فيرديه على الفور!! وتمضي: "بعد ذلك ساد الهدوء .. وما هي الا دقائق تقول مريم حتى أتت احدى الجارات وقالت أن فرج الله قد أغمي عليه فتملكني الخوف وأرادت أن أطمئن أن الامر لا يتعدى ذلك فذهبت واخته الى منطقة الميدان، وسط البلدة للتثبت من ذلك .. فلم نجد أي أثر للدماء فطمأنني ذلك بعض الشيء، وعدت للبيت بانتظار سماع أخبار عودته من المشفى في الخليل بعدما رفض اخوانه ذهابي الى هناك.
وتواصل "أم مصعب" حديثها عن زوجها الشهيد وهي تسترجع شريط المرارة كما كان أو أكثر"جلسنا أمام البيت بانتظار خبر قدومه الينا معافا واذا بهم يحضروه في سيارة اسعاف.. لكنه لم ينزل منها سيرا!! بل مغطى بكفنه الابيض!!! وبدأ الجميع يلطم وجهه .. وأصبت بصدمة لدرجة أنني كنت أهذي!!اذ أخذت أسأل النساء "لماذا حماتي تلطم وجهها؟ فقالوا لي لأن زوجك استشهد؟؟!! فشعرت باختناق شديد ولم أعد أدري بحالي لعدة أيام.. وعلمت لاحقا أنه استشهد في طريقه الى المستشفى وأن اصابته كانت مباشرة في القلب.. وبذلك فارقني بعد زواج استمر أربعة سنوات حيث رحل بتاريخ 24 نيسان 1988 وكان عمره آنذاك23 سنة.. رحل فرج الله وأخذ حياتي معه!! ولم يبقي لي الا الألم لفراقه وترك لي مصعب (عامان) وعمر الذي كان يبلغ 35 يوما فقط!!
بعد تجرع الصدمة تقول زوجة الشهيد فرج الله اسماعيل فرج الله، وبعد مرور فترة معينة، وجدت أن من الواجب أن تنتقل للاقامة في بيت أهل زوجها لتقوم بتربية أطفالها في كنفهم، خاصة وأن كل شيء كان متوفرا اضافة الى مخصص رمزي يصلها كزوجة شهيد يساعدها على تربية اطفالها الذين لم يتعرفوا على ملامح والدهم ولم يشعروا بدفئ يداه يوما.
وبعد قرابة ستة اشهر على استشهاده، وفي نهاية العام 1988 طلب منها والحديث لمريم فرج الله.. طلب شقيق الشهيد الكبير ان تتزوج بشقيق الشهيد الاصغر والأعزب احمد ويعمل كعامل وعمره23 سنة، لكنها رفضت في بادئ الامر كما تقول، وأضافت: "رفضت ذلك لأنه كان يعمل في اسرائيل وذلك ما يعرضه للخطر.. وأنا لا استطيع تحمل مصيبة أخرى"، قالت لشقيق الشهيد الاكبر.. والذي أجابها قائلا: "أحمد قال نفس العبارة .. وقال ايضا ان مش ضامن حياتي!!"
وتقول أم مصعب: "وافقت أخيرا على الزواج منه لأني كنت في ظروف سيئة في العائلة، ولأن أهلي وافقوا أيضا، وفعلا كتب كتابي عليه بنهاية العام، الا أنني طلبت تأجيل الزواج لما بعد فطام ابني عمر الذي اصبح عمره حوالي سبعة أشهر، فقبل أحمد ذلك.. وبعد فترة فرضت قوات الاحتلال نظام حظر التجول على البلدة.. وقدموا للبيت واعتقلوه، وحكم عليه ستة اشهر اداري بتهمة انتماؤه لحركة "حماس"، وعقب خروجه تزوجنا وأنجبت منه طفل، وبعد سنتين من زواجنا اعتقل مرة أخرى وحكم عليه ثلاث سنوات ونصف السنة .. وطلب مني وهو بالأسر أن اسمي ابنتي بوعد فكان ذلك. وهكذا كانت حياتنا.. اذ كان يخرج بضعة أشهر ثم يعتقل من جديد لذا كانت ظروفنا غير مستقرة في هذه المرحلة، وذلك ما جعلني قلقه على مستقبل أولادي خاصة أنه الى جانب كلا من مصعب وعمر لدي منه أربعة هم: وعد وصابرين وورد ومعاذ.
ومع مطلع العام 2001 عرض عليه زوج أختي عملا مستقرا في الخليل كعامل تموين أو كمحاسب بدلا من مهنة العامل في اسرائيل لكنه كان دائما يرفض ذلك! الا أنه وبعد الحاح مني ومن العائلة وفي منتصف العام 2001 قبل العمل كناطور لفترة معينة في احدى مزارع الأبقار في الخليل.
وفعلا تقول زوجة أحمد فرج الله "رأيته يضع حوائجه في شنطة فاستغربت كثرة الملابس التي يضعها فسألته عن السبب؟ خاصة وأنه عمله كناطور بالمزرعة سيكون ليلا على أن يعود في النهار! فأجابني قائلا: لا أعرف ان كنت سأرجع أم لا!!! وذهب فعلا لعمله وعاد في نهار اليوم التالي (يوم الجمعة) فطلب مني على غير عادته طعاما خاصا .. ولاحظت أنه ينظر لكل شيء كمن ينظر للشيء كآخر مرة.. كما أنه قد بدى في عجلة من أمره. وفي ثاني يوم وأثناء عمله في المزرعة تقول أم مصعب والألم والمرارة تعتصر قلبها "رأيت خبرا عاجلا عبر الفضائيات يفيد بوجود قصف لاحدى مزارع الابقار القريبة من احدى المستعمرات في الخليل لكنني لم انتبه أن الامر له علاقة بزوجي"!!
وأضافت: "أذكر يومها أن ابن عم لي حضر إلى البيت وقال جهزي نفسك أحمد مصاب!! فأخذت أصرخ واصيح، لكنه حاول أن يهدئ من توتري من خلال قوله أن الاصابة سطحية في رجله... ورغم ذلك أتاني الاحساس القديم ان ما يقوله غير صحيح"..
وتمضي زوجة الشهيد أحمد فرج الله القول: "ذهبنا ورأيناه من خلف زجاج غرفته في مستشفى الميزان.. وكان في غيبوبة تامة وعرفنا أن الاصابة في عموده الفقري وأن رصاصة أخرى كانت قد خرجت من بطنه!! وبعد المغرب سمح لنا بالدخول اليه انا ومصعب وعمر وكان ينظر لنا بالعين فقط ولم يتحسن وضعه في اليوم التالي، وبعد يوم الزيارة وجدت أن شكله مختلف ولونه يميل الى اللون الازرق فطلب الأهل مني المغادرة ... واعلمت في طريق العودة انه استشهد.!! فأخذت ألطم وأصيح .. ولا أعرف ماذا أفعل بحياتي وقلت لنفسي: ماذا فعلت ليحدث معي كل ذلك"!! ورغم صعوبة الفراق رغم كل الحرقة والمرارة تقبلت وعاشت أم مصعب صامدة صابرة تضمد جرحها بيديها الا أن نظرتها للحياة اختلفت جذريا... ومع كل ذلك مضت في حياتها بهدف تربية أولادها الستة ..فكان أن زوجت مؤخرا ابنها مصعب الذي بلغ العشرين من عمره.
وفي ختام حديثها المجبول بالدموع تمنت أرملة الشهيدين فرج الله وأحمد أن يكون أولادها أبطال .. شجعان لأن الوطن بحاجة لأن يجد من يدافع عن ترابه.. وأضافت: "حتى نحنا النسوان مستعدين نضحي بأرواحنا". حياة قهر ومرارة عاشتها مريم أحمد فرج الله وهي الآن في الاربعينات من العمر الا أن من يراها يقرّ بأنها سيدة صابرة.. أما عمر ابن الشهيد فرج الله 17) عاماً) والذي سمع ما سردته أمه وهو يقبض على يدها فقد تحدث عن المأساة كما عاشها هو حيث قال: "لم أرى والدي ولم احتضنه يوما!! فقد استشهد وأنا ابن 35 يوما، وبالتالي كان عمي أحمد كل شيء في حياتي فقد كان يوفر لنا كل شيء.. استشهاده أثر في حياتي ويوم استشهاده يوم لا أنسى تفاصيله ما حييت حيث أذكر أنني كنت في المدرسة وكان عمري 14سنة فأتى بعض الاقرباء للمدرسة وطلبوني من مدير المدرسة فخرجت معهم وكنت سعيداً لأنني خرجت من المدرسة ولم أكن ادري بماذا سأواجه.. وحين وصلت البيت وجدت كل فرد من أفراد العائلة يبكي، فخفت كثيرا وبدأت أسأل عما حدث؟ فلم يجبني أحد!! وبالنهاية علمت أن عمي قد أستشهد!! فأخذت أبكي واحتضن أمي التي أشبعها الزمان مرارة فكانت أكثر لحظة أحسست فيها بالموت!!
عمر أيضا تشرب الصبر من أمه التي عاشت الامرّين اذ لم يثنيه كل ذلك عن مواصلة دراسته حتى نجح وتفوق في الثانوية العامة، وهو يسعى لاستكمال دراسته في بريطانيا. وقال: "لأجل ذكرى أبي وعمي يجب أن أنجح وأتفوق، وكذلك لأجل أمي التي يجب أن أكافئها جزاء ما عانت وتحملت".