الولاء والبراء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين . أما بعد : فحياكم الله جميعا أيها الأحبة الكرام وطبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً . وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك والقادر عليه . أحبتي في الله : (( الولاء والبراء )) هذا هو موضوعنا اليوم بإذن الله تعالى ، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية : أولاً : انفصام نكد . ثانياً : الأدلة القرآنية والنبوية على تحريم موالاة الكافرين ووجوب موالاة المؤمنين . ثالثاً : صور مشرقة من التطبيق العملي لمفهوم الولاء والبراء . رابعاً : استثناءاتُُ لا تنقضُ أصل البراء . وأخيراً لا تهنوا ولا تحزنوا .. فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان . أولاً : إنفصام ُُ نَكِد أحبتي في الله : لازال الإسلام منذ أن بزغ فجرهُ واستفاضَ نورهُ إلى يومنا هذا – لازال- محاربا من قِبَل أعداء الإسلام الذين لم يتفقوا على شيء قدر اتفاقهم على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين!! ولقد علم أعداء الإسلام يقيناً أن أعظم أسباب القوة في الدين الإسلامي يتمثل في العقيدة الصحيحة ، فراحوا بخبث ودهاء يشوهون نقاءها ، ويعكرون صفوها ، ويضعون الحواجز والسدود بين الأمة وبين عقيدتها الخالصة !! ولقد أعلنوا ذلك صراحة إذ يقول اللورد كرومر : لابد من المحافظة على المظاهر الزائفة للإسلام منعاًَ من إثارة الشكوك وحتى لا ينتسب المسلمون إلى الكيد المدبر لهم ويظلوا في اطمئنان خادع إلى أن إسلامهم ما زال بخير فلا يهبوا لنجدة العقيدة التي تُقتلع من جذورها . نعم أيها الأحبة … إن العقيدة كانت بالأمس إذا مُس جانبها سمعت الصدِّيق يتوعد ، ويتوعد عمر ويهدد ، وخالد يزمجر ، ورأيت المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها النفس والولد والمال !! أما اليوم فإن العقيدة تُقتلع من الجذور بمسخها وتشويهها وتنحيتها عن الواقع المر الأليم !! إن العقيدة تذبح شر ذبحة على أيدي الكثيرين ممن ينتسبون إليها !!! ممن لا يعرفون معناها ، ولا يحققون مقتضاها فوقعوا في هذا الانفصام النكد والخلط العجيب والواقع الكئيب . فكم من الناس يردد كلمة التوحيد ، وهو لا يعرف لها معنى ، ولا يفهم لها مضمونا ، ولا يحقق لها مقتضى ، بل وقد صرف كثيراً كثيراً من صور العبادة لغير الله جل وعلا .. !! وكم من الناس اليوم يردد كلمة التوحيد وقد انطلق حرا غير مكره ليختار لنفسه من القوانين الوضعية والنظم الأرضية والمناهج البشرية ما يناقض منهج رب البرية . وكم من الناس اليوم يردد كلمة التوحيد وهو يوالى أعداء الله ويخذل أولياء الله !!! وكم من الناس اليوم يردد كلمة التوحيد بلسانه !! وقد ترك الصلاة وضيَّع الزكاة ، وأكل الربا ، وشرب الخمر ، ومارس الزنا ، بل ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ، ومع ذلك فهو يعتقد أنه مؤمن كامل الإيمان مادام يردد كلمة التوحيد . انفصام نكد .. وتناقض رهيب .. وواقع كئيب وكم يعتصر القلب كمداً وغيظاً على غياب المفهوم الصحيح الكامل لعقيدة التوحيد عن حس كثير من المسلمين ومن ثم غاب معها هذا الأصل الكبير وهذا المفهوم الضخم ألا وهو مفهوم الولاء والبراء . فلقد تبدلت المعايير .. وانقلبت الموازين .. وانتكست القلوب – إلا من رحم علام الغيوب – فصار الولاء والحب لأعداء الله عز وجل ، ووضع كثير من المسلمين أيديهم بأيدي الكفار ومنحوهم غاية المحبة ، والمودة ، والموالاة ، ودافعوا عنهم وعن مناهجهم ، وأفكارهم ، وقوانينهم في الوقت الذي خذلوا فيه أهل التوحيد والإيمان ، ومع ذلك فهم يعتقدون أنهم حماة الإسلام وخاصته !!! أتحب أعداء الحبيب وتدَّعى حبا له ما ذاكَ في الإمكان وكذا تعادى جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخل الشيطان شرطُ المحبة أن توافق من تحبَّ على محبته بلا نقصان فإن ادَّعيت له المحبة مع خلافك ما يحبُ فأنت ذو بهتان نعم . لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تهاجيهم وللكفر تنصر فما كل من قال ما قلت مسلم ولكن بأشراطٍ هنا لك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتكفيرهم جهراً وتسفيه رأيهم وتضليلهم فيما أتوه وأظهرو وتصدعُ بالتوحيد بين ظهورهم وتدعو هموا سراً لذاك وتجهرُ فهذا هو الدين الحنيفى والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعرُ وقد انقسم الناس في هذا الزمان في تعاملهم مع الكفار إلي ثلاثة أقسام .. وهي : القسم الأول : قسم ناصرُُ لدين الله مجاهدُُ في سبيل الله يحب الله ورسوله والمؤمنين ، ويعادى الشرك والمشركين وهؤلاء هم الأقلون عدداً الأعظمون أجراً عند الله جل وعلا القسم الثاني : قسم خاذل لأهل الإسلام تارك لمعونتهم وإن كان معتزلا عن الكفار . القسم الثالث : قسم خارج عن الإسلام بموالاة الكفار ومناصرتهم بالقول والعمل والاعتقاد ومعاداة أهل الخير ومحاربتهم !! ولخطورة الأمر فلقد تضافرت الأدلة القرآنية والنبوية على تجليته وتوضيحه بصورة حاسمة وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء ثانيا : الأدلة القرآنية والنبوية على تحريم موالاة الكافرين وسأكتفي بذكر بعض الأدلة لأكمل الحديث عن بقية العناصر إن شاء الله جل وعلا الدليل الأول : قول الله تعالي : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة:51) يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه معلقاً على هذه الآية .. فيحذر أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر بهذه الآية . ويعلق شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى فيقول : (( إن من تولاهم ونصرهم علي المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم .. )) وقال الإمام القرطبي في قوله سبحانه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) قال: أي من يناصرهم على المسلمين فحكمه حكمهم في الكفر والجزاء الدليل الثاني : قال تعالي :وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (البقرة:120) انتبه أيها الحبيب : فإن الذي يخبر بذلك هو الله رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، والذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14) والآية كما تري أيها الحبيب : حاسمة واضحة لا تحتاج إلي أن نعلق عليها بكلمات هزيلة من عند أنفسنا . وتحت هذا المعنى الواضح وردت آيات كثيرة : كقول الله جل وعلا في سورة البقرة : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:109) وتدبر معي جيداً قول الله جل وعلا في سورة آل عمران : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران:118) وتدبر معي جيداً قول الله تعالى في سورة آل عمران : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (آل عمران:101) الدليل الثالث : هو قول الله جل وعلا في سورة الأنفال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (لأنفال:73) أي إن لم تجانبوا الكفار وتتميزوا عن المشركين وتوالوا المؤمنين تقع فتنة في الأرض بالتباس الأمر على كثير من الناس فيقعون في حيرة التمييز بين الحق والباطل . الدليل الرابع : هو قول الله تعالي في سورة آل عمران : لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (آل عمران:28) يقول ابن جرير في قوله تعالي : (ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ) يعني قد بريء من الله وبريء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر . ( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) أي إلا إذا كان المسلم مغلوباً على أمره مقهوراً لهم لا يقدر علي إظهار عداوتهم فيضطر إلي أن يظهر لهم الرضا بلسانه أما قلبه فهو مطمئن بالإيمان .. ممتلئ بالعداوة والبغضاء لأعداء الرحمن . وأختم بقول الله تعالي في سورة الممتحنة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ (الممتحنة: من الآية1) ومن الأدلة النبوية علي تحريم موالاة الكافرين ووجوب موالاة المؤمنين عن ابن عباس أن النبي قال : (( أوثق عُرَى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله )) 1 وعن أبى أمامة مرفوعاً:((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ))2 وفي الحديث الصحيح أن جريراً رضى الله عنه قال : (( أتيت النبي وهو يبايع فقلت : يا رسول الله أبسط يدك حتى أبايعك واشترط علىّ فأنت أعلم ، فقال النبي : أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتى الزكاة وتنصح لكل مسلم ، وتبرأ من الشرك))3 ولقد كان مفهوم الولاء والبراء ناصعاً واضحاً في حس أصحاب النبي وحولوه على أرض الواقع إلى صورة مشرقة لا مثيل لها ، بل وقد تقف الكلمات أمام وصفها خجلي !! وهذا هو العنصر الثالث من عناصر اللقاء . ثالثا : صورُُ مشرقة في التطبيق العملي لمفهوم الولاء والبراء أيها الأحبة .. إذا كانت الحكمة العربية القديمة تقول : من أخصب تحير فإنى أجدها في هذا العنصر تنقلب علىّ !! فمن أخصب تَحَيَّر . فالمواقف المشرقة أكثر من أن تحصى ويكفى أن نستشهد ببعضها ليتضح لنا إلى أى مدى حَوَّل أصحاب النبي مفهوم الولاء والبراء إلي واقع عملي مشرق يتألق سمواً وروعة وجلالا . من تلك الصور الرائعة ما حصل من المغيرة بن شعبة رضى الله عنه عندما نزل رسول الله بالحديبية ومنعته قريش من دخول مكة وأرسلت إليه رسلاً للمفاوضة وكان بينهم عروة بن مسعود الثقفي وكان عمّ المغيرة فلما أقبل عروة وكان سيد ثقيف كان يمد يده خلال حديثه مع رسول الله ليتناول لحية رسول الله وهو يكلمه . فلما رأى المغيرة أن يد عروة تمتد إلى لحية الحبيب ماذا قال المغيرة ؟! لقد ضرب المغيرة يد عمه عروة بمؤخرة السيف ونظر إليه وهو يقول : اكفف يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك !! الله أكبر إنه الولاء .. إنه الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين .. إنه البراء من الشرك والمشركين ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56) لما عاد عروة بعدما رأى هذه الصورة إلى قومه من قريش .. قال عروة : يا معشر قريش والله لقد أتيت كسري في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، فما رأيت أحداً في ملكه كما رأيت محمدً . ومن أروع هذه الصور ما رواه ابن جرير الطبري وغيره بسند صحيح أن النبي قال : أدعوا لي عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول . فلما جاء قال له رسول الله ( (( ألا ترى ما يقول أبوك يا عبد الله )) ؟ فقال عبد الله : وماذا يقول أبى ، بأبى أنت وأمي يا رسول الله ؟ فقال رسول الله بقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فقال عبد الله : لقد صدق والله يا رسول الله فأنت والله الأعز وهو الأذل . أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب لا يعلمون أحداً أبَّرَ بأبيه منى ، أما وقد قال فلتسمعن ما تَقَرُ به عينُك . فلما قدموا المدينة قام عبد الله على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؟! أما والله لتعرفن هل العزة لك أم لرسول الله ، والله لا يأويك ظلها ، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بإذن من الله ورسوله فصرخ عبد الله بن أُبىّ : يا آل خزرج ابني يمنعني بيتي . فقال : والله لا يدخل بيته إلا بأذن من الله ورسوله . فأتوا النبي فأخبروه فقال : اذهبوا إليه فقولوا له يقول لك رسول الله خلِّه مسكنه . فأتوه فقالوا له ذلك فقال : أما وقد جاء الأمر من رسول الله فنعم ليعلم من الأعز ومن الأذل !!! إنه الولاء لله ولرسوله لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (المجادلة: من الآية22) الله أكبر هؤلاء هم الذين حققوا الآية وحولوها إلى أرض الواقع إلى منهج حياة . وأختم بهذا المشهد الذي يتألق سمواً وروعة وجلالاً . إنه مشهد الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضى الله عنه الذي وقع أسيراً في بلاد الروم فقالوا لملكهم : ها هو رجل من أصحاب محمد . قال أدخلوه علىّ فدخل عبد الله بن حذافة على ملك الروم فعرض عليه صفقةً لو عُرِضَت على كثير من الساقطين المجرمين المتآمرين في هذه الأيام لباع الأرض والعرض كما باعوا العقيدة فماذا عرض ملك الروم ؟! عرض على عبد الله بن حذافة نصف ملكه ويتنصر !! فقال عبد الله : والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أتخلى عن ديني طرفة عين ما فعلت !! قال ملك الروم : إذن أقتلك ، قال أنت وذاك !! فأمر ملك الروم بأسيرين من أسرى المسلمين فَقُتِلا أمام عبد الله بن حذافة لتختل قوته ، ويختل يقينه ، ولكن أناَّ للقلوب التي امتلأت بالخوف من علام الغيوب وحده أن تخشى طواغيت الأرض ولو اجتمعوا . ثم قال له الملك : تتنصر ؟ قال عبد الله : لا . ، قال الملك : اقتلوه فأخذوه ليقتلوه فبكى !! قال الملك ردوه علىّ لعله بكى خوفاً من الموت ويريد أن يقبل ما عرضته عليه ، ثم سأله لماذا بكيت ؟! قال عبد الله : والله ما بكيت خوفا من الموت ، ولكنني علمت يقيناً أنني سأقتل الآن وكنت أتمنى أن تكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تقتل في سبيل الله . قِمَمُُ شمَّاء ..مُثُل عُليا وقدوات طيبة .. والله لو رأى الأعداء من أهل العقيدة الاستعلاء والعزة لأتوا إليهم في غاية الذلة والصغار ولكنهم رأو أهل الإسلام في غاية المهانة والذلة والصغار فأذلوهم وساموهم سوء العذاب . قال ملك الروم : هل تُقَبِّل رأسي وأعفوا عنك ؟! قال عبد الله : أُقَبِّلُ رأسك بشرط أن تعفوا عنى وعن جميع أسرى المسلمين . فقال ملك الروم أفعل : .. فقام عبد الله بن حذافة فقبَّل رأس ملك الروم فعفى عنه وعن جميع أسرى المسلمين وانطلق عبد الله بالأسرى إلى المدينة فقابلهم فاروق الأمة عمر ، فلما علم عمر بالأمر قال رضى الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أولكم .. فقام عمر فقبَّل رأس عبد الله وقام أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم جميعاً 1 أيها الأحبة : هذا العنصر قد يحتاج إلى لقاءات لنتعرف كيف حَوَّل أصحاب النبي مفهوم الولاء والبراء إلى واقع عملي يتألق سموا وروعة وجلالا . بقى أن أتحدث عن عنصرين آخريين من عناصر هذا اللقاء فأرجأ الحديث عنهما إلى ما بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم . الخطبة الثانية : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره … ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد . مع عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء وهو : (( استثناءات لا تنقض أصل البراء )) وهذا عنصر هام أضيفه من باب الأمانة العلمية والإنصاف في تحرير المسألة وحتى لا يتعامل بعض أحبابنا مع النصوص تعاملا خاطئاً بوضعها في غير موضعها أو بالاستشهاد لها في غير محلها دون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة ، للربط ربطاً صحيحاً بين دلالة النصوص وحركة الواقع . أهمها أولاً : اللين عند عرض الدعوة إلى الإسلام . فالإسلام يوجب على أهله أن يدعوا الناس جميعاً إلى الإيمان بالله جل وعلا وهدايتهم إلى الخير . ولما كان هذا لا يمكن أن يتم إلا بالدخول إلى النفوس واستمالتها وجلب رضاها فإن الإسلام من أجل ذلك قد جعل السبيل لدعوة الكفار وغيرهم هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن . كما قال سبحانه :ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: من الآية125) وهذا لا يعارض قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التوبة: من الآية73) فهذا مقام قتال والأول مقام الدعوة ، وعدم التفريق بين المقامين أوقع كثيراً من الشباب في الخطأ أو الحرج فانتبه لهذا التأصيل فإنه هام . ثانيا : لا ينقض أصل البراء كذلك الزواج من أهل الكتاب أو أكل طعامهم . والنص القرآني في ذلك واضح صريح في قول الله تعالى في سورة المائدة : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة:5) وأخيراً : لا تهنوا ولا تحزنوا مع كل هذه المؤامرات .. ومع كل هذه العقبات . أقول : إنني لعلى يقين جازم بموعود الله جل وعلا في قوله سبحانه وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: من الآية47) وقال جل وعلا وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: من الآية8) وقال جل وعلا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (النور: من الآية55) أحبتي في الله .. إن هذا الدين لا يمكن أبداً أن يقوم بآلاف الكتب تكتب عن الإسلام ولا بالخطب الرنانة والمواعظ المؤثرة فحسب . وإنما يقوم على واقع حي متحرك تراه العيون وتلمسه الأيدي وتلاحظ آثاره جميع العقول .. ولا يمكن أن يتم هذا أبداً إلا على أيدي المؤمنين الصادقين الذين يتعلمون الإسلام ويفهمونه بشموله وكماله . ثم يحولونه في جميع شئون الحياة إلى واقع عملي وإلى منهج حياة ثم يتحركون بعد ذلك في خطوة ثالثة حتماً ألا وهى الدعوة إلى هذا الإسلام بشموله وتكامله وهم على يقين جازم بموعود الله جل وعلا في قوله سبحانه وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:139) وقال تعالى : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: من الآية249) وقال سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (لأنفال:36) وقال سبحانه : وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (المائدة:56) وقال سبحانه : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (التوبة:33) وأختم بحديث الحبيب المحبوب الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر والشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي ، تعال فاقتله ، إلا الغرقد ، فإنه من شجر اليهود ))1 هذا وعد الله وإننا على ثقة جازمة ويقين مطلق بموعود الله مهما انتفش الباطل في فترة من الفترات وظن أهل الحق أن الحق قد مات فليعلموا جميعاً أن الجولة في النهاية للحق وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (الإسراء:81) اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين ….. ….. الدعاء 1- رواه الطبري في الكبير وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة رقم (1728) وهو في صحيح الجامع رقم (2539) 2 -رواه أبو داود رقم (4681) في السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وأخرجه أحمد في المسند (3/440,438) وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة رقم 380 وهو في صحيح الجامع رقم (5665) 3- رواه أحمد والنسائي وصححه شيخنا الألباني في الإرواء رقم (1207) وهو في صحيح الجامع رقم (25) . 1 – قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه لسير أعلام النبلاء (14/2) : أخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريق البيهقى ، وكذا الحافظ في الإصابة ، وله شاهد من حديث ابن عباس ، موصولا عند ابن عساكر ، وابن الأثير في أسد الغابة 3/212 1 – رواه البخارى (6/75) فى الجهاد ، باب قتال اليهود ، ومسلم رقم (2922) فى الفتن ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيتمنى أن يكون الميت من البلاء .