في ظلال الإسراء والمعراج إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[آل عمران : 102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء : 1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب :70 _ 71] أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار . أحبتى فى الله : حيَّاكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء وأيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزاء وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلا . وأسال الله العظيم الكريم جل وعلا الذى جمعنا وإياكم فى هذا البيت المبارك على طاعته ، أن يجمعنى وإياكم فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك والقادر عليه . أحبتى فى الله : (( فى ظلال الإسراء والمعراج )) هذا هو عنوان لقاءنا مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم المبارك وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا تحت هذا العنوان فى العناصر التالية : أولاً : تأريخ وتحقيق . ثانياً : ولماذا الإسراء ؟ ثالثاً : الأقصى الجريح . رابعاً : المعراج إلى السماوات العلي . وأخيراً : دروس وعبر من الأحداث . فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان . أولا : تأريخ وتحقيق لقد اعتاد المسلمون - إلا من رحم الله جل وعلا من المحققين - أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج فى ليلة السابع والعشرين من شهر رجب احتفالاً باهتاً باردا لا يليق بالمصطفى !!! واعتقد الكثيرون أن الإسراء كان فى هذه الليلة . والتحقيق أن العلماء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً فى يوم الإسراء بل فى شهر الإسراء بل فى سنة الإسراء !! قال السدى : كان الإسراء فى شهر ذى القعدة . قال ابن عبد البر : كان الإسراء فى شهر ربيع الأول . قال النووى : كان الإسراء فى شهر رجب . قال الواقدى : كان الإسراء فى شهر شوال . وفى قول آخر قال : كان فى شهر رمضان . وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر ، وقيل كان الإسراء كان قبل الهجرة بسنة ، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر ، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير . ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام لا يعلمه إلا الملك . والتحديد للإسراء بيوم وشهر ضرب من المجازفة والتخمين لا دليل عليه من الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى محمد . ولما لم يحتفل النبي والصحابة والأتباع من بعدهم بذكرى الإسراء فينبغى علينا أن يسعنا ما وسعهم . فكل خيرٍ فى اتباع من سلف وكل شرٍ فى اتباع من خلف . والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة زادها الله تشريفا إلى المسجد الأقصى الجريح خلَّصَه الله من أيدى إخوان القردة والخنازير . ثم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلي كما سأفصل الآن بحول الله وقوته . ثانياً : ولماذا الإسراء ؟ وللجواب على هذا السؤال قصة إنها قصة طفل طهور كالربيع !! إنها قصة طفل كريم كالنسيم !! إنها قصة طفل نشأ فى مكة فى بيئة تصنع الحجارة بأيديها وتسجد لها من دون الله جل وعلا !!! بل كان يصنع الواحد منهم إلهه من خشب أو من نحاس أو حتى من حلوى أو من تمر فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام ليدس هذا الإله الرخيص فى جوفه ليذهب عن نفسه شدة الجوع !!! فى هذه البيئة نشأ الحبيب المصطفى ، فاحتقر هذه الأصنام وأشفق على أصحاب هذه العقول . فترك هذه البيئة الشركية وانطلق بعيداً بعيداً إلى قمة جبل النور . إلى غار حراء ليقضى ليله فى التأمل والتفكر والتضرع ، ويقضى النهار كذلك فى التأمل والتفكير والتدبر . وفى ليلة كريمة يخشع الكون وتصمت أنفاس المخلوقات وجبريل أمين وحي السماء يتنزل لأول مرة على المصطفى محمد على قمة جبل النور ليضم الحبيب المصطفى ضمة شديدة وهو يقول له (( اقرأ )) والحبيب يقول ما أنا بقارئ ، وجبريل يقول(( اقرأ )) والمصطفى يقول : ما أنا بقارئ ، وفى الثالثة غطَّه حتى بلغ منه الجهد وقال للحبيب : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] فؤاده يرتجف وفرائصه ترتعد .. وجوارحه تضطرب حتى وصل إلى السكن .. إلى رمز الوفاء .. إلى سكن سيد الأنبياء .. إلى خديجة بنت خويلد رضى الله عنها وأرضاها .إلى هذه الزوجة العاملة الصالحة التي استحقت أن شرفها الله بأن أرسل إليها السلام من فوق سبع سماوات ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة ((أتى جبريل عليه السلام إلى المصطفى ومعها إناءٌ فيه إدام - (طعام أو شراب) - فإذا هي أتت فقال جبريل: يا رسول الله ، هذه خديجة قد أتت ، فأقرأ عليها السلام من ربها، ومنى وبشرها ببيت فى الجنة من قصب ،لا صخب فيه ولا نصب ))(1) . فلما أقبلت خديجة بَشَّرَهَا المصطفى بهذه البشارة وقال ياخديجة : ربك يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام !! فماذا قالت خديجة البليغة العاقلة العالمة ، ما قالت وعلى الله السلام وإنما قالت إن الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . خديجة عاد إليها النبي محمد يرجف فؤاده وهو يقول زملونى زملونى ، واستجابت خديجة حتى استيقظ الحبيب وقد هدأت نفسه واستقرت جوارحه وقال : (( والله لقد خشيت على نفسي ياخديجة )) وقص عليه فبشرته بهذه الكلمة الطيبة وقالت : كلا والله لا يخزيك الله أبداً إلى آخر ما ذكرت والحديث رواه البخاري وهو حديث طويل(2) ثم فتر الوحي لفترة قليلة - على الراجح - ثم نزل قول الله عز وجل على الحبيب المصطفى : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7] قم يا محمد دع عنك هذه الأغطية فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل : 1-5] فقام الحبيب ولم يقعد عشرين سنة ، لم يعرف طعم الراحة .. لم يذق طعم النوم .. لم يهدأ!! وإنما انطلق على قدميه حاملاً نور الله عز وجل إلى البشرية ليخرجها من ظلمات الشرك وأوحال الوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا . انطلق الحبيب بعد ذلك بعدما نزل عليه قول الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْانطلق يدعوا الناس سراً إلى الإسلام ثلاث سنين . لأن للأصنام جيوشاً غاضبة إن هؤلاء القوم يقتلون من أجل ناقة فما ظنك بآلهة يذبحون لها آلاف النياق إن مس جنابها على يد محمد ابن عبد الله وبعد هذه المرحلة السرية نزل قول الله عز وجل : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين [الشعراء:214] فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] فقام الحبيب ملبيا أمر الله : فصعد على جبل الصفا ينادى على بطون مكة يا بنى فهر ، يا بنى عدى ، يا بنى كذا يا بنى كذا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو والتف حوله الناس من أهل مكة ووقفوا بين يديه وعلى رأسهم أبو لهب . وقام الحبيب ليقيم الحجة على قومه بلغة النبوة فقال : (( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ )) قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً . فقال الحبيب المصطفى : ((فإنى نذير بين يدى عذاب شديد)) . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد:1 - 5](1) بعد هذا الموقف حدث أن قريشاً أرعدت وأبرقت ودقت طبول الحرب على رأس المصطفى وأصحابه . وانطلقت مكة على قلب رجل واحد لتصب البلاء والإيذاء صباً على رأس المصطفى ففى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود : أن النبي كان يصلى عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض : آيكم يجئ بسَلَي جذور بنى فلان (وهى الجلدة التى يكون فيها الولد يقال لها ذلك من البهائم) فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم فجاء به ، فنظر حتى سجد النبى وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغنى شيئاً لو كانت لي منعه ، قال : فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض ، ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره ، فرفع رأسه ثم قال : (( اللهم عليك بقريش )) (1) . وورد فى صحيح البخاري أن عقبة بن أبى معيط قد انطلق إلى النبي وهو يصلى في حجر الكعبة فوضع ثوبه فى عنقه فخنقه خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس المصطفى أن تخرج بين يديه فجاء الصديق ليدفع هذا الفاجر الكافر عن رسول الله وهو يقول (2) أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ[غافر:28] أحبتي في الله : رأى النبي أن أرض مكة صلدة قاسية لا تقبل بذرة التوحيد فانطلق الحبيب إلى الطائف يبحث عن قلوب حانية لعلها تحمل هذا النور لا إلى أهل الطائف فحسب بل إلى الدنيا كلها . انطلق الحبيب على قدميه المتعبتين ، لا يركب راحلة فهو لا يملك فى هذا الوقت الراحلة !! ينطلق المصطفى تحت شمس محرقة تكاد تذيب الحديد والصخور والحجارة وعلى رمال ملتهبة إذا ما انعكست عليها أشعة الشمس كادت أن تخطف الأبصار !! انطلق الحبيب فى هذا الجو متعباً يتألم لا سيما وقد ازداد حزنه بموت خديجة رضى الله عنها وبموت عمه أبى طالب الذى كان حائطَ صدِّ منيع لحملات المشركين من الخارج . النبي ينطلق إلى هناك على قدميه والله لا يريد مالاً ولا يريد جاها ولا يريد وجاهة إنما يريد لهؤلاء خير الدنيا والآخرة .ولكن فعل أهل الطائف بالمصطفى مالم يكن يتوقع فلقد سلطوا عليه الصبيان والسفهاء حتى وقفوا ورموا الحبيب المصطفى بالحجارة ونزف الدم الشريف بأبي هو وأمي . إنه المؤيد بمدد السماء .. إنه المؤيد بوحى السماء .. تلقى عليه الرمال !! ويلقى عليه التراب ؟!! ويقذف بالحجارة حتى يسيل الدم الطاهر من جسده ؟!! فألجأه الصبيان والسفهاء إلى بستان لابن ربيعة وهنالك ارتفعت هذه الكلمات النيرة وتضرع الحبيب إلى الله بهذا الدعاء (( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمنى ؟!! أم إلى عدو ملكته أمري ؟! إن لم يكن بك غضب علىَّ فلا أبالي، أسألك بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ألا تنزل بى غضبك أو يحل علىَّ سخطك ، لك العتبة حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك))(1) وفى البخاري ومسلم : عن عروة أن عائشة رضى الله عنها حدثته أنها قالت للنبي هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : (( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عارضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : يا محمد إن الله جل وعلا قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علىَّ ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال وقد بعثنى ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين والأخشبان جبلان عظيمان بمكة فقال النبي ((بل أرجوا أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً))(1) هذا ملك الجبال يستأذن النبي أن يحطم هذه الجماجم الصلدة فهذه الرؤوس العنيدة المتكبرة الكافرة المتحجرة . ولكنه ما جزع لنفسه .. ما خرج لذاته .. إنما خرج لله وحده. هذا نصر غيبى من الله للمصطفى ولكن وصل الحبيب إلى مكة زادها الله تشريفاً - ليرى كرامة أخرى له من الله عز وجل ليرى جبريل هنالك فى انتظاره ليأخذه إلى هذه الرحلة المباركة إلى رحلة الإسراء والمعراج . وكأن الله عز وجل قد أراد أن يقول لحبيبه المصطفى يا رسول الله إن كان أهل مكة وأهل الطائف قد رفضوك فإن رب السماء والأرض يدعوك . يا محمد لا تظن أن جفاء أهل الأرض يعنى جفاء السماء . إن الله يدعوك اليوم ليعوضك بجفاء أهل الأرض حفاوة أهل السماء الله أكبر . فتعالوا بنا لنتعرف على هذه الرحلة المباركة ولنجمع بين الروايات إذ لا تعارض بينها كما قال الحافظ بن حجر : في بيت أم هانئ يأتيه جبريل ليشق البيت ليأخذ المصطفى من بيت أم هانئ إلى الحجر في بيت الله الحرام ثم بعد ذلك تبدأ رحلة الإسراء بشق صدر المصطفى . ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله : ((أُتيت فانطلقوا بى إلى زمزم ، فشرح عن صدري ( أي شق ) ثم غُسِل بماء زمزم ثم أنزلت ))(1) وأنتم تعلمون أنه قد شق صدره قبل ذلك وهو غلام صغير حينما كان في ديار بنى سعد عند مرضعته حليمة رضى الله عنها (2) . تبدأ الرحلة المباركة رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يقول المصطفى واللفظ لمسلم من حديث أنس : أوتيت بالبراق والبراق بنص الحديث الصحيح دابة فوق الحمار ودون البغل ، يضع حَافِرَهُ عند منتهى طرفه . وقف الحافظ ابن حجر عند قوله البراق فقال : البراق من البريق من اللمعان لأن النبي حدد لونه بالبياض وقال البراق من البرق والبرق ضوء وسرعة الضوء رهيبة هذا هو البراق. ورد من حديث الترمذى وعند الإمام أحمد فى المسند وعند عبد الرازق فى مصنفه وعند البيهقى فى السنن من حديث أنس : أن النبى لما انطلق ليركب البراق استصعب عليه فقال جبريل للبراق : ما حملك على هذا والله ما ركبك أحد من خلق الله أكرم على الله منه أى من محمد بن عبد الله . وركب النبى البراق وانطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . وعنصر الاعجاز فى رحلة الاسراء الأرضية هو الزمن . انطلق النبى من مكة إلى المسجد الأقصى فى زمن قليل وهذا هو الذى أنكره المشركون فى مكة . قالوا نضرب لها أكباد الابل شهراً من مكة إلى بلاد الشام وأنت تقول بأنك انطلقت من مكة إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماوات العلى وعُدت فى جزء من الليل _ لأن الله قال سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاًوليلاً عند علماء اللغة أى جزء من الليل ، ولم يقل ليلة لتقول بأن الاسراء قد استغرق ليلة بكاملها لا بل استغرق جزءا من الليلة . سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الاسراء:1] وانتبه لهذه الآية التى ختمت بقوله :(( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) وكان من السياق أن يقول : ((إنه على كل شىء قدير)) (( إنه عزيز حكيم)) ليظهر عظمته وقدرته وإنما قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أى الذى سمع قول قومك لك ورأى فعل قومك بك فأراد أن يكرمك وأن يشرفك . لأن الاسراء معجزة فريدة ليست تأييداً للدعوة بقدر ما هى تأييد لصاحب الدعوة بأبى هو وأمى ثالثا الأقصى الجريح الأقصى الجريح الذى تدوسه الأن أقدام إخوان القردة والخنازير من أبناء اليهود على مرأى ومسمع لا أقول من المسلمين إنما من العالم كله . ونسمع القصائد ونسمع الأشعار ، ونسمع الكلمات !! ونحتفل بذكرى المولد ونحتفل بذكرى النصف من شعبان هذا هو الذى يجيده المسلمون الذين عشقوا الهزل يوم كرهوا الجد والرجولة والبطولة والجهاد فى سبيل الله !! المسجد الأقصى إنما هو أولى القبلتين . وهو المسجد المبارك الثالث الذى أمر النبي بشد الرحال ((لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد المصطفى ))(1) المسجد الأقصى الآن يداس بأرجس الأرجل !! المسجد الأقصى الآن الحفريات تحت جدرانه من كل ناحية إلى يومنا هذا !! الحفريات تحت جدران المسجد بحجة التوسعة وبحجة الترميم ليسقط المسجد الأقصى وليقيم إخوان القردة والخنازير عليه ما يسمونه بالهيكل المزعوم . حقائق لابد أن ترسخ فى القلوب والعقول . الصراع بين اليهود وبين المسلمين صراع عقائدي ، ولن ينتهي إلى قيام الساعة !! الأقصى الجريح يئن !! فتحه عمر وحرره صلاح الدين فهل من صلاح ؟! هل من صلاح جديد !! هل من صلاح بيننا وبين الله ليمدنا الله بصلاح ؟!! سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] أيها الأحبة : إن معتقد أهل السنة والجماعة أن الإسراء كان بجسد النبي وروحه يقظة لا مناما . لماذا ينكر ذلك من يعبدون العقل ؟! ينكرون ذلك لعنصر الزمن كيف يقطع هذه المسافة التى يقطعها الناس فى شهور فى لحظات؟!! وأنا أقول (( سبحان )) تنزيه لأفعاله وأسمائه وصفاته جل وعلا . أى إذا كان الفعل من الله فنزهوا فعل الله عن فعلكم ونزهوا صفات الله عن صفاتكم ونزهوا قول الله عن قولكم . الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ : والعبد لغة تطلق على الإنسان بروحه وبدنه لا يطلق لفظ العبد على الروح دون البدن ( الذي أسرى بعبده ليلاً) والسري : هو السير ليلا : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] قال القاسمى رحمه الله : دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء وهو سير النبي إلى بيت المقدس ليلاً . قال القاضي عياض : وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفى اليقظة وهو الحق . قال : والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار . ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند وجود نص أو قرينة تدل على أن الظاهر غير مراد إذ لو كان مناماً لقال بروح عبده ولم يقل بعبده . وقوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى ولو كان مناماً لما كان فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه فيه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ، إذ فعل هذا فى المنامات لا ينكر . بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ومما يدل على أنه كان يقظة كذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول : (( لما كذبتني قريش قمت فى الحَّجر فجلى الله بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه )) (1) فلو أنه أخبرهم بأنها رؤيا رآها لما اختبروه بالسؤال عن آياته وعلاماته وهذه أيضاً معجزة ثانية لرسول الله وأكتفي بهذا القدر فى هذه الخطبة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم. الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله . اللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من أهتدي بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين . أما بعد : فيا أيها الأحبة الكرام : وبدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وفى المسجد الأقصى دخل النبي المسجد وصلى ركعتين وبعدما خرج وجد جبريل يقدم له إنائين إناءً من لبن وإناءً من خمر فأختار النبي اللبن فقال له جبريل قد أصبت الفطرة يا محمد . ثم تبدأ رحلة المعراج ولنرجع مرة أخرى إلى حديث أنس فى صحيح البخارى . يقول ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد يعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بآدم ، فرحب بى ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعثت إليه . ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ، ويحي بن زكريا صلوات الله عليهما ، فرحبا بي ودعوا لي بخير . ثم عرج بى إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال: جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام إذا هو قد أعطى شطر الحسن فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل .قيل ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا . فإذا أنا بإدريس ، فرحب ودعا لى بخير ، قال الله عز وجل (( ورفعناه مكاناً عليا )) ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل ومن معك ؟ قال: محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب ودعا لى بخير . ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام ساندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه . ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها . فأوحى الله إلىَّ ما أوحى فعرض على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة . فنزلت إلى موسى عليه السلامفقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة قال : إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف فأن أمتك لا يطيقون ذلك ، فأنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم . قال : رجعت إلى ربى فقلت : يارب خفف عن أمتي فحط عنى خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : حط عنى خمساً . قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام ، حتى قال: يا محمد أنهم خمس صلوات كل يوم وليلة . لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ، ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا . فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله فقلت : قد رجعت إلى ربى حتى استحيت منه(1) . وهكذا أيها الأحبة تنتهي رحلة المعراج . ............... الدعاء (1) رواه البخارى رقم(3820) فى فضائل أصحاب النبى ، باب تزوج النبى خديجة وفضلها ، وفى التوحيد ، باب قول الله تعالى ((يريدون إن يبدلوا كلام الله )) ومسلم (2432) فى فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها . (2) رواه البخارى رقم (3) فى بدء الوحى باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله (1) رواه البخاري رقم (4770) فى تفسير سورة الشعراء باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) وفى الجنائز ، باب ذكر شرار الموتى ، وفى الأنبياء ، باب من انتسب إلى آبائه فى الإسلام والجاهلية ، ومسلم رقم(208) فى الإيمان باب قوله تعالى( وأنذر عشيرتك الأقربين) والترمذى رقم(3360) فى التفسير (1) رواه البخاري رقم (240) فى الوضوء ، باب إذا ألقى على ظهر المصلى قذرا وجيفة لم تفسد عليه صلاته ، وفى سترة المصلى وفى الجهاد وفى فضائل أصحاب النبي وفى المغازى ، ومسلم رقم (1794 ) فى الجهاد ، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين ، والنسائي (1/161 ) فى الطهارة ، باب فرث ما يؤكل لحمه يصيب الثوب . (2) رواه البخاري رقم( 3678) فى فضائل أصحاب النبي وباب قول النبي (( لو كنت متخذاً خليلاً )) وباب مالقى النبي وأصحابه من المشركين بمكة ، وفى تفسير سورة المنافقين . (1) رواه الطبرانى وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد : رجاله ثقات ما عدا ابن اسحاق وهو مدلس ثقه وقد ضعفه شيخنا الألبانى ولله الحمد رأيت شاهدا آخر يقوى هذا الحديث عن ابن اسحاق موصولاً وكلاهما يقوى بعضهما الآخر . (1) رواه البخارى (6/224 ، 225) فى بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة وفى التوحيد ، باب (وكان سميعا بصيرا) ، ومسلم رقم (1795) فى الجهاد باب ما لقى النبى من أذى المشركين والمنافقين . (1) رواه البخاري ومسلم رقم (260) فى الإيمان باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلاة . (2) رواه مسلم رقم (261) فى كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول الله وفرض الصلوات (1) رواه البخاري رقم (1189) فى التطوع ، باب فضل الصلاة فى مسجد مكة والمدينة ، ومسلم رقم (1397) فى الحج ، باب لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد ، وأبو داود رقم (2033) فى المناسك باب فى إتيان المدينة ، والنسائي (2/38,37) فى المساجد ، باب ما تشد الرحال إليه فى المساجد . (1) رواه البخاري رقم (3886) فى مناقب الأنصار باب حديث الإسراء وقول الله تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (1) رواه البخاري رقم (3887) فى مناقب الأنصار ، باب المعراج . ومسلم رقم (259) فى الإيمان ، باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلوات .