بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ القول في تأويل قوله تعالى : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله } ومعنى قوله جل ثناؤه : { بئسما اشتروا به أنفسهم } ساء ما اشتروا به أنفسهم . وأصل " بئس " " بئس " من البؤس , سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلى الباء , كما قيل في ظللت ظلت , وكما قيل للكبد : كبد , فنقلت حركة الباء إلى الكاف لما سكنت الباء . وقد يحتمل أن تكون " بئس " وإن كان أصلها " بئس " من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة , كما قالوا من " لعب " " لعب " , ومن " سئم " " سئم " , وذلك فيما يقال لغة فاشية في تميم , ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ ووصلت ب " ما " . واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي مع " بئسما " , فقال بعض نحويي البصرة : هي وحدها اسم , و " أن يكفروا " تفسير له , نحو : نعم رجلا زيد , و " أن ينزل الله " بدل من " أنزل الله " . وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا , ف " ما " اسم بئس , و " أن يكفروا " الاسم الثاني . وزعم أن " أن ينزل الله من فضله " إن شئت جعلت " أن " في موضع رفع , وإن شئت في موضع خفض . أما الرفع : فبئس الشيء هذا أن فعلوه ; وأما الخفض : فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . قال : وقوله : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } 5 80 كمثل ذلك . والعرب تجعل " ما " وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام كقوله : { فنعما هي } 2 271 و " بئسما أنت " . واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز : لا تعجلا في السير وادلواها لبئسما بطء ولا نرعاها قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر , فيجعلون " ما " وحدها اسما بغير صلة . وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي " بئس " معرفة مؤقتة وخبره معرفة موقتة . وقد زعم أن " بئسما " بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم , فقد صارت " ما " بصلتها اسما موقتا ; لأن " اشتروا " فعل ماض من صلة " ما " في قول قائل هذه المقالة , وإذا وصلت بماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة ; فيصير تأويل الكلام حينئذ : " بئس شراؤهم كفرهم " , وذلك عنده غير جائز , فقد تبين فساد هذا القول . وكان آخر منهم يزعم أن " أن " في موضع خفض إن شئت , ورفع إن شئت , فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي في " به " على التكرير على كلامين , كأنك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر . وأما الرفع فأن يكون مكررا على موضع " ما " التي تلي " بئس " . قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : بئس الرجل عبد الله . وقال بعضهم : " بئسما " شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب : " بئسما تزويج ولا مهر " فرافع تزويج " بئسما " , كما يقال : " بئسما زيد , وبئسما عمرو " , فيكون " بئسما " رفعا بما عاد عليها من الهاء , كأنك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم , وتكون " أن " مترجمة عن " بئسما " . وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل " بئسما " مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله : { اشتروا به } كما رفعوا ذلك بعبد الله , إذ قالوا : بئسما عبد الله , وجعل " أن يكفروا " مترجمة عن " بئسما " , فيكون معنى الكلام حينئذ : بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله . وتكون " أن " التي في قوله : " أن ينزل الله " , في موضع نصب ; لأنه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وموضعه أن جر . وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن " أن " في موضع خفض بنية الباء . وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها , ولا خافض معها يخفضها , والحرف الخافض لا يخفض مضمرا . وأما قوله : { اشتروا به أنفسهم } فإنه يعني به باعوا أنفسهم . كما : 1266 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يقول : باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . 1267 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسن , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال مجاهد : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه . والعرب تقول : شريته بمعنى بعته , واشتروا في هذا الموضع " افتعلوا " من شريت . وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا : شريت بمعنى بعت , واشتريت بمعنى ابتعت . وقيل إنما سمي الشاري شاريا لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته . ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري : وشريت بردا ليتني من قبل برد كنت هامه ومنه قول المسيب بن علس : يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا تشري يعني به : بعت بردا . وربما استعمل " اشتريت " بمعنى " بعت " , و " شريت " في معنى " ابتعت " , والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت . بَغْيًا وأما معنى قوله : { بغيا } فإنه يعني به : تعديا وحسدا . كما : 1268 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد بن قتادة : { بغيا } قال : أي حسدا , وهم اليهود . 1269 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بغيا } قال : بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه , وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل , فما بال هذا من بني إسماعيل ! فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . 1270 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { بغيا } يعني حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده , وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , مثله . قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتباعه , من أجل أن أنزل الله من فضله , وفضله حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده - يعني به على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم , من أجل أنه كان من ولد إسماعيل , ولم يكن من بني إسرائيل . فإن قال قائل : وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله } ؟ وهل يشترى بالكفر شيء ؟ قيل : إن معنى الشراء والبيع عند العرب : هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه , ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا شرا أو خيرا , فتقول : نعم ما باع به فلان نفسه , وبئس ما باع به فلان نفسه , بمعنى : نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : { بئس ما اشتروا به أنفسهم } لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها , خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم , وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا , إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار , وما أعد لهم بكفرهم بذلك . وهذه الآية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب , من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل , حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه , وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل ; نظيرة الآية الأخرى في سوره النساء , وذلك قوله , { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يأتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } . 4 51 : 54 أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ القول في تأويل قوله تعالى : { أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه , ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه . 1271 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري , عن أشياخ منهم قوله : { بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } أي أن الله تعالى جعله في غيرهم . 1272 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : هم اليهود , ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم , كفروا به حسدا للعرب , وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة . 1273 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , مثله . 1274 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , مثله . 1275 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : قالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل , فما بال هذا من بني إسماعيل . 1276 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن علي الأزدي قال : نزلت في اليهود . فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ القول في تأويل قوله تعالى : { فباءوا بغضب على غضب } . يعني بقوله : { فباءوا بغضب على غضب } فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به , وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا , فباءوا بغضب من الله - استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث , وجحودهم نبوته , وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب - { على غضب } سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم , أو لعبادتهم العجل , أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله . كما : 1277 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة بن الفضل , قال : حدثني ابن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد , فيما أروي عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس : { فباءوا بغضب على غضب } فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم , وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم . 1278 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن , قالا : ثنا سفيان عن أبي بكير , عن عكرمة : { فباءوا بغضب على غضب } قال : كفر بعيسى وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يحيى بن يمان , قال : ثنا سفيان , عن أبي بكير , عن عكرمة : { فباءوا بغضب على غضب } قال : كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا الثوري , عن أبي بكير , عن عكرمة مثله . 1279 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن الشعبي , قال : الناس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر . ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد , فباء بغضب على غضب . ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب , فمات بكفره قبل محمدا صلى الله عليه وسلم فباء بغضب . 1280 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { فباءوا بغضب على غضب } غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى , وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم . 1281 - حدثني المثنى قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فباءوا بغضب } اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم , { على غضب } جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به . 1282 - حدثنا المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { فباءوا بغضب على غضب } يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى , ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . 1283 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فباءوا بغضب على غضب } أما الغضب الأول : فهو حين غضب الله عليهم في العجل , وأما الغضب الثاني : فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم . 1284 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله : { فباءوا بغضب على غضب } قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من تبديلهم وكفرهم , ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج فكفروا به . قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته , والله تعالى أعلم . وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ القول في تأويل قوله تعالى : { وللكافرين عذاب مهين } . يعني بقوله جل ثناؤه : { وللكافرين عذاب مهين } وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من الله إما في الآخرة , وإما في الدنيا والآخرة { مهين } هو المذل صاحبه المخزي الملبسه هوانا وذلة . فإن قال قائل : أي عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه ؟ قيل : إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا , وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله ; وأما الذي هو غير مهين صاحبه : فهو ما كان تمحيصا لصاحبه , وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده , والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد , وما أشبه ذلك من العذاب , والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها , وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير إجرامهم التي ارتكبوها ليمحصوا من ذنوبهم ثم يدخلون الجنة . فإن كل ذلك وإن كان عذابا فغير مهين من عذب به , إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ثم يورده معدن العز والكرامة ويخلده في نعيم الجنان .
القول في تأويل قوله تعالى : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله } ومعنى قوله جل ثناؤه : { بئسما اشتروا به أنفسهم } ساء ما اشتروا به أنفسهم . وأصل " بئس " " بئس " من البؤس , سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلى الباء , كما قيل في ظللت ظلت , وكما قيل للكبد : كبد , فنقلت حركة الباء إلى الكاف لما سكنت الباء . وقد يحتمل أن تكون " بئس " وإن كان أصلها " بئس " من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة , كما قالوا من " لعب " " لعب " , ومن " سئم " " سئم " , وذلك فيما يقال لغة فاشية في تميم , ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ ووصلت ب " ما " . واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي مع " بئسما " , فقال بعض نحويي البصرة : هي وحدها اسم , و " أن يكفروا " تفسير له , نحو : نعم رجلا زيد , و " أن ينزل الله " بدل من " أنزل الله " . وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا , ف " ما " اسم بئس , و " أن يكفروا " الاسم الثاني . وزعم أن " أن ينزل الله من فضله " إن شئت جعلت " أن " في موضع رفع , وإن شئت في موضع خفض . أما الرفع : فبئس الشيء هذا أن فعلوه ; وأما الخفض : فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . قال : وقوله : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } 5 80 كمثل ذلك . والعرب تجعل " ما " وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام كقوله : { فنعما هي } 2 271 و " بئسما أنت " . واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز : لا تعجلا في السير وادلواها لبئسما بطء ولا نرعاها قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر , فيجعلون " ما " وحدها اسما بغير صلة . وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي " بئس " معرفة مؤقتة وخبره معرفة موقتة . وقد زعم أن " بئسما " بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم , فقد صارت " ما " بصلتها اسما موقتا ; لأن " اشتروا " فعل ماض من صلة " ما " في قول قائل هذه المقالة , وإذا وصلت بماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة ; فيصير تأويل الكلام حينئذ : " بئس شراؤهم كفرهم " , وذلك عنده غير جائز , فقد تبين فساد هذا القول . وكان آخر منهم يزعم أن " أن " في موضع خفض إن شئت , ورفع إن شئت , فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي في " به " على التكرير على كلامين , كأنك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر . وأما الرفع فأن يكون مكررا على موضع " ما " التي تلي " بئس " . قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : بئس الرجل عبد الله . وقال بعضهم : " بئسما " شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب : " بئسما تزويج ولا مهر " فرافع تزويج " بئسما " , كما يقال : " بئسما زيد , وبئسما عمرو " , فيكون " بئسما " رفعا بما عاد عليها من الهاء , كأنك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم , وتكون " أن " مترجمة عن " بئسما " . وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل " بئسما " مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله : { اشتروا به } كما رفعوا ذلك بعبد الله , إذ قالوا : بئسما عبد الله , وجعل " أن يكفروا " مترجمة عن " بئسما " , فيكون معنى الكلام حينئذ : بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله . وتكون " أن " التي في قوله : " أن ينزل الله " , في موضع نصب ; لأنه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وموضعه أن جر . وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن " أن " في موضع خفض بنية الباء . وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها , ولا خافض معها يخفضها , والحرف الخافض لا يخفض مضمرا . وأما قوله : { اشتروا به أنفسهم } فإنه يعني به باعوا أنفسهم . كما : 1266 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يقول : باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . 1267 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسن , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال مجاهد : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه . والعرب تقول : شريته بمعنى بعته , واشتروا في هذا الموضع " افتعلوا " من شريت . وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا : شريت بمعنى بعت , واشتريت بمعنى ابتعت . وقيل إنما سمي الشاري شاريا لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته . ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري : وشريت بردا ليتني من قبل برد كنت هامه ومنه قول المسيب بن علس : يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا تشري يعني به : بعت بردا . وربما استعمل " اشتريت " بمعنى " بعت " , و " شريت " في معنى " ابتعت " , والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت .
وأما معنى قوله : { بغيا } فإنه يعني به : تعديا وحسدا . كما : 1268 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد بن قتادة : { بغيا } قال : أي حسدا , وهم اليهود . 1269 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { بغيا } قال : بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه , وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل , فما بال هذا من بني إسماعيل ! فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . 1270 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { بغيا } يعني حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده , وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , مثله . قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتباعه , من أجل أن أنزل الله من فضله , وفضله حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده - يعني به على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم , من أجل أنه كان من ولد إسماعيل , ولم يكن من بني إسرائيل . فإن قال قائل : وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله } ؟ وهل يشترى بالكفر شيء ؟ قيل : إن معنى الشراء والبيع عند العرب : هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه , ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا شرا أو خيرا , فتقول : نعم ما باع به فلان نفسه , وبئس ما باع به فلان نفسه , بمعنى : نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : { بئس ما اشتروا به أنفسهم } لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها , خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال : { بئسما اشتروا به أنفسهم } يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم , وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا , إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار , وما أعد لهم بكفرهم بذلك . وهذه الآية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب , من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل , حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه , وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل ; نظيرة الآية الأخرى في سوره النساء , وذلك قوله , { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يأتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } . 4 51 : 54
القول في تأويل قوله تعالى : { أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه , ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه . 1271 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري , عن أشياخ منهم قوله : { بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } أي أن الله تعالى جعله في غيرهم . 1272 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : هم اليهود , ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم , كفروا به حسدا للعرب , وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة . 1273 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , مثله . 1274 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , مثله . 1275 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : قالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل , فما بال هذا من بني إسماعيل . 1276 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن علي الأزدي قال : نزلت في اليهود .
القول في تأويل قوله تعالى : { فباءوا بغضب على غضب } . يعني بقوله : { فباءوا بغضب على غضب } فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به , وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا , فباءوا بغضب من الله - استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث , وجحودهم نبوته , وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب - { على غضب } سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم , أو لعبادتهم العجل , أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله . كما : 1277 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة بن الفضل , قال : حدثني ابن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد , فيما أروي عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس : { فباءوا بغضب على غضب } فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم , وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم . 1278 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن , قالا : ثنا سفيان عن أبي بكير , عن عكرمة : { فباءوا بغضب على غضب } قال : كفر بعيسى وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يحيى بن يمان , قال : ثنا سفيان , عن أبي بكير , عن عكرمة : { فباءوا بغضب على غضب } قال : كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا الثوري , عن أبي بكير , عن عكرمة مثله . 1279 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن الشعبي , قال : الناس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر . ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد , فباء بغضب على غضب . ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب , فمات بكفره قبل محمدا صلى الله عليه وسلم فباء بغضب . 1280 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { فباءوا بغضب على غضب } غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى , وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم . 1281 - حدثني المثنى قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فباءوا بغضب } اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم , { على غضب } جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به . 1282 - حدثنا المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية : { فباءوا بغضب على غضب } يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى , ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . 1283 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فباءوا بغضب على غضب } أما الغضب الأول : فهو حين غضب الله عليهم في العجل , وأما الغضب الثاني : فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم . 1284 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله : { فباءوا بغضب على غضب } قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من تبديلهم وكفرهم , ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج فكفروا به . قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته , والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وللكافرين عذاب مهين } . يعني بقوله جل ثناؤه : { وللكافرين عذاب مهين } وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من الله إما في الآخرة , وإما في الدنيا والآخرة { مهين } هو المذل صاحبه المخزي الملبسه هوانا وذلة . فإن قال قائل : أي عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه ؟ قيل : إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا , وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله ; وأما الذي هو غير مهين صاحبه : فهو ما كان تمحيصا لصاحبه , وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده , والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد , وما أشبه ذلك من العذاب , والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها , وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير إجرامهم التي ارتكبوها ليمحصوا من ذنوبهم ثم يدخلون الجنة . فإن كل ذلك وإن كان عذابا فغير مهين من عذب به , إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ثم يورده معدن العز والكرامة ويخلده في نعيم الجنان .