أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
القول في تأويل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } يعني تعالى ذكره بقوله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم ؟ يعني الذي خاصم إبراهيم , يعني إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه , { أن آتاه الله الملك } يعني بذلك : حاجه فخاصمه في ربه , لأن الله آتاه الملك . وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم , من الذي حاج إبراهيم في ربه , ولذلك أدلت " إلى " في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } . وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله , قالوا : ما ترى إلى هذا ؟ والمعنى : هل رأيت مثل هذا , أو كهذا ؟ وقيل : إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح , وقيل : إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح . ذكر من قال ذلك : 4575 - حدثني محمد بن عمرو , ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } قال : هو نمرود بن كنعان . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , عن سفيان , عن ليث , عن مجاهد , مثله . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن النضر بن عدي , عن مجاهد , مثله . 4576 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } قال : كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمرود , وهو أول ملك تجبر في الأرض , وهو صاحب الصرح ببابل . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : هو اسمه نمرو , وهو أول ملك تجبر في الأرض حاج إبراهيم في ربه . 4577 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } قال : ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمرود , وهو أول جبار تجبر في الأرض , وهو صاحب الصرح ببابل . 4578 - حدثنا موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : هو نمرو بن كنعان . 4579 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : هو نمرود . 4580 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , مثله . 4581 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , قال : أخبرني زيد بن أسلم , بمثله . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمرود . قال ابن جريج : هو نمرود , ويقال إنه أول ملك في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت . قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت , يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء , قال : أنا أفعل ذلك , فأحيي وأميت , أستحيي من أردت قتله , فلا أقتله , فيكون ذلك مني إحياء له . وذلك عند العرب يسمى إحياء , كما قال تعالى ذكره : { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } 5 32 وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها , فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره : { فبهت الذي كفر } يعني انقطع وبطلت حجته , يقال منه : بهت يبهت بهتا , وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : بهت , ويقال : بهت الرجل إذا افتريت عليه كذبا بهتا أو بهتانا وبهاتة . وقد روي عن بعض القراء أنه قرأ : " فبهت الذي كفر " بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 4582 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة في قوله : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت , قال أنا أحيي وأميت } وذكر لنا أنه دعا برجلين , ففتل أحدهما , واستحيا الآخر , فقال : أنا أحيي هذا , أنا أستحيي من شئت , وأقتل من شئت , قال إبراهيم عند ذلك : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } . 4583 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : أنا أحيي وأميت : أقتل من شئت , وأستحيي من شئت , أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان , وكافران , فالمؤمنان : سليمان بن داود , وذو القرنين ; والكافران : بختنصر ونمرود بن كنعان , لم يملكها غيرهم . 4584 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمرود , فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام , فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار , فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت . حتى مر إبراهيم , قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت , قال : أنا أحيي وأميت , { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } قال : فرده بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله فمر على كثيب من رمل أعفر , فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله , قال : فوضع متاعه ثم نام , فقامت امرأته إلى متاعه , ففتحته , فإذا هي بأجود طعام رأته , فصنعت له منه , فقربته إليه . وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام , فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به . فعلم أن الله رزقه , فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل رب غيري ؟ فجاءه الثانية , فقال له ذلك , فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه , فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه , فأمر الله الملك , ففتح عليه بابا من البعوض , فطلعت الشمس , فلم يروها من كثرتها , فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم , وشربت دماءهم , فلم يبق إلا العظام , والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة , فدخلت في منخره , فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق , وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام , فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه , ثم أماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد , وهو الذي قال الله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } . 16 26 4585 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } قال : هو نمرود كان بالموصل والناس يأتونه , فإذا دخلوا عليه , قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت , فيقول : ميروهم ! فلما دخل إبراهيم , ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال : فعرضهم كلهم , فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت , فيقول : ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرتين , فقال : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت , قال : أنا أحيي وأميت , إن شئت قتلتك فأمتك , وإن شئت استحييتك . { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا . وجوالقا إبراهيم يصطفقان , حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله , قال : ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق , لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرت عينا صبيي , حتى إذا كان الليل أهرقته . قال : فملأهما ثم خيطهما , ثم جاء بهما , فترامى عليهما الصبيان فرحا , وألقى رأسه في حجر سارة ساعة , ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا , لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها , وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها , فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط , فأخذت منه فطحنته وعجنته . فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه , فقال : أي شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جوالقك , لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير . قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله , فعرف من أين ذاك . 4586 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت , قال هو , يعني نمرود : فأنا أحيي وأميت , فدعا برجلين , فاستحيا أحدهما , وقتل الآخر , قال : أنا أحيي وأميت , قال : أي أستحيي من شئت , فقال إبراهيم : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } . 4587 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما خرج إبراهيم من النار , أدخلوه على الملك , ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه , وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت , قال نمرود : أنا أحيي وأميت , أنا أدخل أربعة نفر بيتا , فلا يطعمون ولا يسقون , حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا , وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق , فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر , وقال : إن هذا إنسان مجنون , فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها , وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه - أعني نمرود - وهو قول الله تعالى ذكره : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } 6 83 فكان يزعم أنه رب . وأمر بإبراهيم فأخرج . 4588 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت , أحيي فلا أقتل , وأميت من قتلت . قال ابن جريج , كان أتى برجلين , فقتل أحدهما , وترك الآخر , فقال : أنا أحيي وأميت , قال : أقتل فأميت من قتلت , وأحيي , قال : استحيي فلا أقتل . 4589 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق , قال : ذكر لنا والله أعلم : أن نمرود قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبده , وتدعو إلى عبادته , وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره , ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمرود : فأنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي , فأقتل أحدهما فأكون قد أمته , وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته . فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق , فأت بها من المغرب , أعرف أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمرود , ولم يرجع إليه شيئا , وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول تعالى ذكره : { فبهت الذي كفر } يعني وقعت عليه الحجة , يعني نمرود .
وقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة , لأن أهل الباطل حججهم داحضة . وقد بينا أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه , والكافر : وضع جحوده ما جحد في غير موضعه , فهو بذلك من فعله ظالما لنفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق . 4590 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق : { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .