وهنا نتوقف عند معنى الخلافة التي أرادها الله عندما قال في سورة البقرة:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة))[البقرة : 30].
(فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض وتطلق فيها يده، وتكل إليه أبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين والتحليل والتركيب، وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات وتسخير هذا كله بإذن الله في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه، وإذن فهي منزلة عظيمة منزلة هذا الإنسان في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة، وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم، لقد خفيت على الملائكة حكمة المشيئة العليا في بناء هذه الأرض وعمارتها وفي تنمية الحياة وتنويعها وفي تحقيق إرادة الله على يد خليفة الله في أرضه) (في ظلال القرآن/ سيد قطب)
ولمهمة الخلافة صلة أساسية بعلاقة الرجل بالمرأة إذ بها يتحقق حدوث الخلافة، ويلزم لتحقيق الخلافة ثلاثة أشياء هي:
1- حفظ النسل واستمراريته.
2- وجود أسباب تحبب في النسل وتجمع الرجل والمرأة.
3- وجود الاستقرار في حياة الرجل والمرأة.
وبداية الخلافة الأصل هي خلق آدم عليه السلام ثم خلق الزوجة منه، فكانت أسرة من زوجين ثم بث منها رجالًا كثيرًا ونساءً.
ونجد ذلك واضحًا في أول سورة النساء، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء))[النساء : 1] .
لذلك نجد أن الله يؤكد على معنى الخلافة في أكثر من موضع فيقول تعالى في سورة الحجرات: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))[الحجرات : 13].
فالله الذي خلقكم من ذكر وأنثى وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبًا وقبائل أنها ليست التناحر والخصام، وإنما هي التعارف والوئام، والتعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات.
((هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)) [هود: 61].
وتعمير هذه الأرض هدف من أهداف خلق الإنسان، وهدف أيضًا من أهداف الزواج، وتعمير الأرض هو من جملة العبادات التي فرضها الله على المؤمن، غير أن تحقيق العبودية لله جل وعلا في الأرض لا يتم إلا بحيازة مقومات الخلافة التي جعلها الله سببًا لاستمرار الحياة وبقائها.
يقول الأستاذ/ سيد قطب:
(( الإنسان في عرف الإسلام هو الخليفة في الأرض، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)) [البقرة : 30].
خلق ليعبد الله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات : 56]
والعبادة تشمل كل نشاط الإنسان في الأرض: ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام : 162].
ومن بين العبادة المطلوبة هو عمارة الأرض ((هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ))[هود : 61].
ومن بينها السعي في الأرض وابتغاء فضل الله ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا))[الملك : 15].
وخلافه الله في أرضه إنما تكون بعمارتها وصناعة النهضة والحضارة فيها، ولكنها الحضارة الموصولة بالله تعالى، والتي ينشئها الإنسان في تعبيد الناس لرب العالمين، وها هو النبي r يبين لنا هذا المفهوم العظيم، ويعقد الصلة بين الدنيا والآخرة، فيقول r: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها)).
تأمل عزيزي القارئ هذا الحديث المعجز الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن خاتم النبيين والمرسلين محمد r، لقد كان من المتوقع والقيامة قد أوشكت أن تقوم أن يأمرنا r بالتوبة والاستغفار ونسيان الدنيا والإقبال على الآخرة، ولكنه r أمرنا بغرس الفسيلة، فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين طويلة؛ إنه يدعونا إلى عمارة الأرض.
وخلاصة القول:
إن من أهداف الزواج استمرارية الخلافة وأعمار الأرض وهذا لا يكون إلا في ظل الأسرة التي هي أول لبنة في بناء المجتمع والأسرة تبدأ من اجتماع كل من الرجل والمرأة تحت راية الزوجية وهو الأمر الطبيعي الذي يتم به توازن نظام الحياة ومسيرة الكون، وليس من الطبيعي أن يتم غير ذلك، فها هي الدعوات الشاذة تنادي في ديار الغرب المنهار بزواج الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة.
وهذا فيه ما فيه من انتكاس للفطرة ومخالفة للسنة الكونية فقد قال تعالى: ((وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))[الذاريات : 49]
ولقد ركب الله الشهوة في الإنسان وهي من الحاجات الأساسية التي يسعى كل إنسان لإشباعها لتسوقه إلى تحقيق مراد الله وهو استمرارية النوع وحفظ النسل حتى تتحقق الخلافة في الأرض كما أرادها الله وبالتالي أعمار الأرض وفق شرع الله عز وجل.
الزواج هو البناء، أي بناء المجتمع المتعاون الفاعل المنتج، وبتعاون الزوجين تبنى الحياة، ولذلك فعقد الزواج يشبه عقود الشراكة من هذا الوجه، أي من المشاركة في بناء الحياة وتحمل الأعباء وإصلاح المجتمع وعمارة الأرض.
إن ما يثمره الزواج من ترابط الأسر وتقوية أواصر المحبة بن العائلات وتوكيد الصلات الاجتماعية، مما يباركه الإسلام ويعضده ويسانده فإن المجتمع المترابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد.
والإنسان كائن اجتماعي في بيئة اجتماعية يؤثر ويتأثر، فهو يحتاج إلى الآخرين، وفي نفس الوقت يحتاج إلى الزواج، والزواج في الإسلام له أهدافه السامية المشروعة، فأعد حساباتك من جديد واحتسب زواجك وفق ما أراد الله وفقك الله أيها القارئ إلى ما فيه السعادة والسرور.