كثير من الآباء يفتخرون بأن أبناءهم يلازمونهم طوال الوقت، ولا يعصون لهم أمرًا، ولا يفعلون شيئًا دون أمرهم وإذنهم! بالرغم من أن هؤلاء الأبناء قد تخطوا مرحلة الطفولة، وأصبحوا على أعتاب الشباب والرجولة؛ فيضع هؤلاء أنفسهم كالثوب لأبنائهم، حاجزًا منيعًا واقيًا عن وهج الشمس ولسعة البرد، فتضعف معرفة الأولاد بصور الحياة المختلفة التي يفترض التعرض لها، والتفاعل معها؛ لتمنحهم قوة وصلابة وقدرة على المقارعة.
ويحسب هؤلاء الآباء أنهم بذلك أدركوا مع أبنائهم غاية التربية، وهم في الحقيقة لم يفعلوا أكثر من وأد شخصياتهم بالتحكم والتسلط، وفرض الرأي الذي لا ينتهي إلا بأحد أمرين:
- التمرد إن كان الابن شديد المراس.
- الانطواء إن كان الابن لين القوام.
وكلاهما نموذج فاسد لشخصية الابن المرجوة لصلاح دينه ودنياه.
إن الابن لكي ينمو نموًا نفسيًا طبيعيًا؛ لابد له من الشعور بالحرية والاستقلال، والإحساس بأنه قادر على تسيير أموره بنفسه دون معاونة الآخرين، وتلك هي المقدمة الصحيحة لثقته بنفسه، ومن ثم قدرته على تحمل المسؤوليات في مستقبل حياته، فليس من المنطق أن ننتظر حتى يكبر الأولاد لكي ندربهم على مواجهة الحياة، بل يفترض إسناد المسؤوليات لهم منذ نعومة أظفارهم، كلٌ بحسب عمره وإمكانياته.
وأول الخطوات العملية لتحقيق هذه الغاية هي:
1- أعلن لهم وأمام الناس أنهم قد كبروا:
نسمع كثيرًا شكوى الأب : [ هذا الولد لم يعد يسمع كلامي كسابق عهده وهو صغير، يدعي أنه لم يعد صغيرًا، 'عايز يعمل راجل!' ]
والأم تكرر نفس الشكوى : [ ابنتي تغيرت عما كانت، تريد أن تستقل برأيها عني في كل ما يخصها، حتى في اختيار ملابسها!! 'تقول إنها كبرت و لم تعد طفلة صغيرة!' ]
ويستمر الصراع، ويدور الوالدان وأبنائهما في حلقة مفرغة على هذا النحو، ولكسر هذه الحلقة لابد أن ننتبه إلى أن الأبناء بالفعل قد كبروا، ثم يكون علينا أن نعلن ذلك أمامهم وأمام الآخرين بفائين: بفرح وفخر!!
كم يثلج هذا الإعلان صدر الابن!!...كم يغذي إحساسه بذاته!!
ولنعلم أن إعداد الأطفال ليكونوا أبطالًا؛ يقتضي منَّا أن ننشئهم على خوض غمار المهمات الجادة والأعمال الكبيرة بنفس قوية, وعزم لا يلين على تحقيق الغايات والأهداف، وهذا هو المنهج والسبيل الذي تربى عليه أطفال خير القرون رضي الله عنهم جميعًا.
2- درِّبهم عمليًا على تحمل المسؤولية:
نستطيع من خلال تفويضنا لأبنائنا في إنجاز العمل بأنفسهم أن ننقل المسؤولية إليهم، وندربهم عليها، ونعمد إلى تركيز طاقاتهم نحو هذه الأعمال والنشاطات، ولنا في الرسول الكريم أسوة حسنة، فها هو يعوِّد الصبي على النشاط و تحمل المسؤولية، ويأمره بإعداد مائدة الطعام بنفسه، فيكون خادمًا ومعاونًا لغيره بدلًا من أن يكون كسولًا عالة على غيره، يقول أنس رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند السحور: [[يا أنس، إني أريد الصيام، أطعمني شيئًا]]، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذَّن بلال، فقال: [[يا أنس، انظر رجلًا يأكل معي]]، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء، فقال: إني شربت شربة سويق، وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : [[وأنا أريد الصيام]]، فتسحر معه فقام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة. [أخرجه الإمام أحمد:12967، وصححه الألباني]
وقد يقول قائل: فما المائدة التي أعدها أنس؟ إنها تمر وماء!
ونقول : ليست العبرة بكثرة الجهد الذي بذله أنس رضي الله عنه، وإنما العبرة في المبدأ نفسه، أن يقوم الصبي في هذا الوقت من الليل- وقت السحور- الذي ينام فيه الصبيان، بل ينام فيه شداد الرجال، ثم يعد ما تيسر مما رزق الله سبحانه؛ ليطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام مالك عن مسلم بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه, قال لغلامه : [[خذ من حنطة أهلِك فابتع به شعيرًا، ولا تأخذ إلا مثله]]
وهنا نلاحظ كيف يدرب الصحابي الجليل سعد بن أبى وقاص غلامه على تحمل مسؤولية البيع والشراء، ليس ذلك فقط ولكنه يعلمه الأخذ بالضوابط الشرعية في ذلك العمل أيضًا.
ومن القواعد المهمة أثناء تدريب الأبناء على تحمل المسؤولية :
الرفق والمعاونة بدلًا من التعجل والمعاتبة:
فإذا سقطت الأكواب أو الصحون مثلًا، أو تلفت أشياء أثناء العمل، أو لم يتقنوا ما طلب منهم بالصورة المطلوبة؛ فمن الحكمة عدم لومهم أو تقريعهم لأنهم ما زالوا يتدربون؛ وبالتالي فإن الأولاد يسعون إلى إتقان العمل والوفاء به بدرجة عالية، ولكن أناملهم وسواعدهم وقدراتهم مازالت يانعة وضعيفة، تحتاج إلى وقت حتى تكتسب اللياقة بما تضيفه الأيام من القوة والمهارة والدقة، إلى جانب نمو وزيادة ثقتهم بأنفسهم مع تكرار الأعمال عبر الصواب والخطأ، وأحسن أسلوب عند إخفاقهم هو الرفع من معنوياتهم، والبحث عن مبرر مقنع ،أو تصحيح أخطائهم عمليًا؛ ثم مطالبتهم بإعادة العمل على الوجه الصحيح، ولنر كيف فعل خير المعلمين وسيد المربين صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، فعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله بغلام يسلخ شاة، فقال له: [[تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ]]، فأدخل رسول الله يده بين الجلد واللحم فدحس بها [مدها] حتى توارت إلى الإبط، وقال [[يا غلام، هكذا فاسلخ]] ثم مضى، وصلى للناس ولم يتوضأ، ولم يمس ماء. [رواه ابن حبَّان في صحيحه [1163]]
وكذلك ينبغي أن يكون التدريب والتفويض في المهام متحررًا لا متسلطًا يقيد حركة الطفل، ولا يهيئ له فرصة النمو والإنتاجية، بل يقوم على إعطاء الإرادة الحرة للأبناء، ويحملهم المسؤولية، ويركز على النتائج أكثر من تركيزه على الوسائل، ويعطي حرية اختيار الوسيلة التي يريدونها- ما دامت مباحة- ويجعلهم مسؤولين عن النتائج؛ فيتعلمون من أخطائهم، ويتدربون على إدارة العمل بثقة وجدارة.
إن من أكبر ما ينمي ثقة الابن بنفسه واحترامه لذاته، أن يكون مسؤولًا عن عمل ما، مهما كان عمره صغيرًا، ومع تقدم عمره تتزايد المهام والمسؤوليات؛ لتصنع منه رجلًا فذًا بالأعمال والمسؤوليات، لا بالأقوال والأمنيات