د. ناصر الحجيلان .
تتعدد شبكة علاقة الإنسان بمن حوله من البشر وفق طبيعته الاجتماعية التي تقتضي ضرورة التعامل مع الناس ابتداء من الطفولة وحتى نهاية العمر. وفي حال الأسرة التقليدية، فإن أول من يرتبط بهم الشخص هي الأم باعتبارها أول من احتضن جسده عند الحمل به، وقد تكون الأم كذلك هي أول من التصق بالطفل بعد الولادة وخاصة عند الرضاعة والعناية به. ويأتي بقية أفراد الأسرة يتقدّمهم الأب ثم الإخوة والأخوات في قائمة الأشخاص الذين يبني المرء علاقته معهم قبل غيرهم.
وضمن هذه العلاقات المتعددة تأتي المرأة طرفًا أساسيًا في التواصل البشري. وبسبب تشعب موضوع العلاقات الإنسانية يمكن الاقتصار على ما يخص المرأة من علاقة ببنت جنسها. فعند النظر في سلوك المرأة في تعاملها مع امرأة أخرى في الثقافات المختلفة نجد أن ثمة علاقة يمكن رصدها في عدة مظاهر؛ وهي علاقة تبدأ مع الأم ثم الأخت، وبعد الزواج تكون لها صلة بأم زوجها (الحماة) ثم بابنتها، وكذلك تكون لها علاقة بزميلتها في العمل إن كانت عاملة. وفي بعض الثقافات العربية والإسلامية قد ترتبط بالتعامل مع زوجة زوجها الأخرى (الضرة).
وقد كان السؤال السوسيلوجي عن طبيعة التعامل بين النساء هو السؤال المحوري عند عدد من الباحثين؛ فهل تخضع تلك العلاقات إلى نمط بنيوي معين يتكرر مع مختلف النساء في العالم أم أن ثمة خصوصية للمرأة مرتبطة بالثقافة التي تنتمي إليها؟ ومن أبرز من درسوا البنى الأولية للقرابة في العائلة الباحث الأنثربولوجي البنيوي الفرنسي (كلود ليفي شتروس) الذي توصّل إلى وجود أنماط بنيوية تحكم نظام العلاقات العائلية على اعتبار أنّ المجتمع مبنيٌّ على (تابو) تحظير الجنس ضمن العائلة، مما يدفع الرجال للبحث عن النساء، من عائلة إلى أخرى، بهدف الزواج. وهذا ما يخلق بنية اجتماعية إجمالية أكبر من العائلة النووية (المكونة من الأب والأم وأولادهما).
ووجد أن هذه المجتمعات تشتمل على ثلاثة أشكال أساسية للتبادل، هي التي تجمع المجتمع وتؤمّن تماسكه. الشكل الأول هو تبادل الهبات، الذي يناظر البنية الاقتصادية في المجتمع؛ والثاني هو تبادل النساء بغية الزواج، تبعًا لقواعد بالغة التعقيد والتكلّف تخلق بنية قرابية؛ والثالث هو تبادل الرسائل الكلامية عبر اللغة، الذي يخلق معظم ثقافة المجتمع. والرسائل اللفظية عند شتراوس بنية رمزية أو نظام دوالّ مركزي يكشف عن طبيعة العلاقات.
ولأن شتراوس اعتمد في دراسته على عدد من الأساطير فقد واجه عمله نقدًا من عدد من الباحثين أمثال (جاك دريدا) و(باوم). والواقع أن شتراوس يركز على دراسة تمثيلات البنى الموجودة في العقل وليس بالضرورة أن تكون ممثلة على أرض الواقع. ولهذا كان من الطبيعي أن يصطدم بوجودية (سارتر) لأنه ينظر إلى الأساطير المختلفة عند شعوب مختلفة، على أنها جزء من اللسان الواحد، ودليل على أصناف أو مقولات كلية كامنة في الذهن.
وإذا ركزنا على الثقافة الشعبية الممارسة عند الأمم سنجد أن نظام تعامل المرأة مع المرأة يخضع بشكل عام إلى أنماط معينة تحكمها أنساق ثقافية مرتبطة بالمجتمع. ويهم دارس الثقافة الوصول إلى تلك الأنماط والتعرف على النسق الكامن الذي تسير وفقه منظومة العلاقات النسوية. ومن الأسئلة التي يسعى النقد الثقافي إلى الإجابة عنها حول هذا الموضوع سؤال عن طبيعة العلاقة الكامنة في الذهن الجمعي لمجتمع النساء التي تبدو غير واعية للشخص أو للمجموعة، ولكنها تعتبر بمثابة المحور الخفي الذي تتحرك من خلاله شبكة العلاقات كلها.
فهل (التنافس على الرجل) هو الذي يحكم علاقات النساء ببعضهن؟ وهل يمكن أن يكون هذا التنافس موجودًا في الذهن باعتباره مفسرًا لسلوك (العداء) أو (الغيرة) التي تظهر على شكل نمط تداخلي عند الاشتراك في رجل واحد في حالة (الضرة)، وتبرز بشكل قريب من الشكل السابق في حالة (الحماة) على اعتبار أن الرجل موضع تنازع بين الأم والزوجة؟ ويتبع هذا سؤال آخر عن طبيعة علاقات القربى المتمثلة بين الأم والبنت أو الأختين فيما بينهما أو علاقات العمل بين الزميلتين. فهل يحكم هذه العلاقات كذلك (التنافس)؟
جدير بالذكر أن (التنافس على الرجل) يظهر بأشكال مختلفة لعل أبرزها غيرة المرأة من بنت جنسها، وتعد الغيرة من النزعات المتأصلة في وعي المرأة عبر التاريخ. ولمحاولة الإجابة على سؤال نسق العلاقات يركز الباحثون على دراسة الجانب النفسي، فيطرحون موضوع خشية الأم من تفوّق ابنتها عليها في الجمال أو الذكاء مما يجعلها في حرج أمام زوجها، كما يطرحون موضوع تنافس الأختين أو الزميلتين وتبادل مشاعر الغيرة بينهما التي تتخذ شكلا معلنًا في عدد من الحالات وشكلا مضمرًا في حالات أقل. وكأن (التنافس) بنية عميقة في الذهن تتحكم في علاقات المرأة مع بنت جنسها.
ولأن هذا الموضوع لم ينل حظه من الدراسة الموسعة في مجتمعنا، فسأكتفي بضرب أمثلة حية تؤكد ما يحمله الموروث الشعبي من قيم تبرزها الأمثال والتعبيرات الشعبية الكثيرة عن الضرة والأم والأخت والحماة والبنت..إلخ. ومن أبرز الأمثلة الحية التي تلفت الانتباه عندنا مثلا هو فشل عدد كبير من المنظمات النسائية أو الجمعيات النسائية (مثال ذلك الجمعيات الخيرية في عدد من دول الخليج)، وكثرة المشكلات في الإدارات النسائية مقارنة بنظيرها في الإدارات الرجالية (مثلا: في أقسام الجامعات وفي البنوك)، ووجود حرب خفية بين النساء (من الأقارب أو من زميلات العمل).
ومما أعرفه مثلا أن لدى بعض اللجان العلمية فكرة يؤيدها الواقع وهي أن إحالة مشروع علمي إلى سيدة لتحكيمه يعني تعطيله وربما رفضه إذا كانت صاحبة المشروع سيدة؛ ولهذا تحرص تلك اللجان العلمية من باب الحيادية على عدم إحالة عمل المرأة إلى امرأة أخرى مهما بلغت درجتها الأكاديمية. والمثال الآخر هو وجود مواقع على النت لعدد من السيدات من الأديبات أو المفكرات أو الكاتبات تخلو من أعمال نساء أخريات وخاصة المعاصرات؛ فبنظرة على تلك المواقع يلاحظ خلو أغلب تلك المواقع من نقل مقالات أو أبحاث نساء أخريات والاكتفاء بمقالات الرجال وأبحاثهم مع العلم أن هناك سيدات كتبن في الموضوع نفسه.
وأبرز ملاحظة يمكن أن يتفق عليها كثيرون هو قلة بل ندرة ثناء المرأة على امرأة أخرى بما في ذلك ذكر المميزات العلمية أو المهنية، مقارنة بسهولة ثناء الرجل على غيره من الرجال أو سواهم من المتميزين إذا تطلب الأمر ذلك. فهل يعتبر ذلك مؤشرًا على تحكّم بنية (التنافس) في عقلية المرأة؟ إذا كانت الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، فإنها مجرد إجابة تخمينية، ولكن الإجابة الدقيقة تتطلب بحثاً ميدانيًا يحاول رصد سلوك المرأة مع المرأة في مجالات مختلفة داخل المنزل وخارجه ويشمل جميع أشكال العلاقات النمطية التقليدية.
المصدر: صحيفة الرياض ، العدد 14281 .