. صباح هاشم .
المجتمع العربي مهدد بقنبلة العنوسة الاجتماعية "الانفتاح" المادي عَقُّد الحياة الاجتماعية المصرية بـ 9 ملايين عانس "يسرو الحلال ولا تعسروه فإنكم إن عسرتم الحلال تيسر الحرام"...كلمات من ذهب، طالما بح بها صوت الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - وهو ينادي أولياء أمور المسلمين، تذكرتها وأنا أكتب هذا التحقيق، عن أثر الانفتاح المادي في محور الحياة الاجتماعية المصرية، وأخذت أرصد ظاهرة العنوسة في مصر بشكل خاص والعالم العربي عموماً، وقد هالتني الأرقام التي قرأتها، فالإحصاءات والدراسات تشير إلى أن هناك أكثر من 15 مليون فتاة عانس في العالم العربي، منها 9 ملايين فقط في مصر!! دراسة أخرى أوضحت أن نسبة العانسات في المملكة العربية السعودية قد ارتفعت لتصل إلى أكثر من مليون عانس، فيما شهد عام واحد فقط 18 ألف حالة طلاق من أصل 60 ألف عقد زواج، مشيرة إلى ضرورة الإسراع في إنشاء هيئة عليا للأسرة لمعالجة مشكلة ارتفاع حالات العنوسة والطلاق بالسعودية. وأرجعت الدراسة نسبة العنوسة إلى غلاء المهور وإحجام الكثير من الشباب عن الزواج مما أدى لارتفاع معدلات الانحراف الجنسي، داعية إلى ضرورة معالجة أزمات الأسرة المعاصرة عبر مؤسسة أو هيئة عليا لشؤون الأسرة والطفولة وتيسير سبل الزواج أمام الشباب والشابات. كما ذكرت دراسة أجرتها جمعية العفاف الخيرية أنه يوجد في الأردن حوالي 87 ألف فتاة تجاوزن سن الثلاثين، ولم يسبق لهن الزواج، وقالت إن متوسط العمر للمتزوجين للمرة الأولى من الذكور في الأردن ارتفع من 20 عاما في عام 1961 إلى نحو 29 عاماً عام 2006، وللإناث من 17 عاما عام 1961 إلى 27 عاما سنة 2006، مرجعة ارتفاع متوسط عمر الزواج إلى تدني مستوي الدخل وارتفاع تكاليف إيجار المساكن، وانتشار التعليم العالي بين الشباب من كلا الجنسين. ولا شك أن العنوسة، ظاهرة اجتماعية تتفشى بين مختلف الطبقات والشرائح، كما أنها انعكاس مباشر للوضع الاقتصادي السائد، فلاشك أن ارتفاع هذه المعدلات يرجع إلى عدة عوامل في مقدمتها العامل الاقتصادي، المتمثل في غلاء الأسعار وارتفاع المهور، والاشتراطات والطليات الخيالية لا.. لمصطلح العنوسة . وبتكليف من مجلة "الأمة" عرضت الأمر- على الخبيرة الاجتماعية، والكاتبة الصحفية، نجلاء محفوظ، فقالت: "بداية أنا أتحفظ على مصطلح "العنوسة"، واعتبره مصطلحاً مهيناً للمرأة، وأفضل أن نستخدم تعبير "تأخر سن الزواج"، مؤكدة أن "من أهم أساب تفاقم المشكلة حالة الرفاهية الشديدة، وظاهرة الانفتاح الاقتصادي المبالغ فيه في بعض الدول العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص". وأضافت نجلاء، رئيس القسم الأدبي المناوب بصحيفة الأهرام، في تصريحات خاصة لمجلة "الأمة": "المشكلة أن الانفتاح الاقتصادي والرخاء المادي دفع الفتيات إلى مزيد من التطلعات للعيش الرغد، كما أنه قلل من مساحة الرضا لدى الفتيات خاصة وأهلهن بصفة عامة"، مذكرة بقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - "الرضا جنة الدنيا". وتعجبت نجلاء من هروب معظم الفتيات في العالم العربي من العيش في مستوى اجتماعي مشابه للوسط الذي عاشت وتربت فيه، وإصرارهن على اشتراط العيش في رغد، من أول خطوة في الطريق!. وأشارت نجلاء، المستشارة في القضايا والمشكلات الأسرية في العديد من المواقع والمجلات العربية، إلى أن "الشره الاستهلاكي والإنفاقي هو أحد أهم الأمراض والعلل السلوكية التي تسيطر على عقول وقلوب الفتيات في سن الزواج"، معتبرة أن "ما تقدمه وسائل الإعلام العربية من إعلانات مستفزة، وما تصدره من نماذج، قد لعب دورا كبيرا في تشكيل وعي وثقافة فتياتنا، فأصبحت يرفض سلوك طريق الكفاح الطويل. "اظفري بذي المال تربت يداك"! وأوضحت أن هناك فتيات كثيرات يرفضن الارتباط بشاب فقير أو متوسط الحال، حتى ولو كان ذا خلق ودين وحسب ونسب، وأنهن يقدمن المال كشرط أول وأهم، ويرفعن شعار " اظفري بذي المال تربت يداك"!! وقالت نجلاء: إنه على الرغم من أن الفتاة العربية على يقين بأن ارتفاع السن يؤخر فرص الزواج، إلا أنها غير مستعدة للقبول بشاب مكافح ومجتهد، وينتظره في المستقبل نجاح باهر، معتبرة أنه "لن يحقق لها ما تحلم به من رغد العيش، رافضة أن تكون شريكة الطريق، ورفيقة الدرب، في مشوار الكفاح الاجتماعي الشريف". وأضافت نجلاء أن "الواقع والخبرات والتجارب تقول إن المال عنصر مهم ولا شك، غير أنه ليس العنصر الأهم، ولا يجب أن يكون الشرط رقم واحد، لأنه لن يبني- منفردا- سعادة طويلة الأمد، وهو وسيلة للعيش وليس غاية في حد ذاته، وقديما قالوا الباحث عن المال لا يشبع كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر فإنه لا يرتوي أبداً. وختمت الخبيرة بمشاكل الأشرة حديثها مع مجلة "الأمة" مشيرة إلى أن "الدراسات الحديثة أثبتت أن البنات اللاتي يعشن في مستوى دخل مرتفع يتزوجن في سن كبيرة، وأنهن يرفض الارتباط بشاب أقل أو مساوي لهن في المستوى المادي، ويفضلن انتظار العريس الجاهز"، موضحاً أن "العنوسة تزداد انتشارا بين الطبقات العليا، فيما تقل بين الشرائح الدنيا والفقيرة، كما تنتشر ظاهرة العنوسة بين الفتيات العاملات في وظائف مربحة، عنه في وسط الفتيات اللاتي لا يعملن. "الوقاية خير من العلاج" . وفي محاولة منها لاستيضاح الأمر، والتعرف على الظاهرة من مختلف جوانبها، التقت مجلة "الأمة" بالدكتور أحمد ربيع أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة بجامعة الأزهر، فقال: "سبق أن تناولت ظاهرة العنوسة في بحث نشرته جامعة الأزهر، تعرضت فيه للمشكلة، وبينت أن الإسلام كدين يؤمن بقاعدة "الوقاية خير من العلاج". وأضاف د. ربيع "الإسلام يقدم الضوابط والنصائح التي تسعدنا في الدنيا والآخرة، غير أن هناك من يأبى إلا أن يكون سبباً في إتعاس نفسه!، وصدق الله إذ يقول: (.... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى). وأوضح د. ربيع أن "العنوسة باتت من أعقد المشكلات التي تواجه الشباب في العالم العربي، وأنها لم تعد قاصرة على طبقة دون أخرى، ولا فئة دون أخرى، وإنما سرت كالنار في الهشيم، في جميع الفئات والطبقات، فهي موجودة في أكثر الدول العربية ثراءً كدول الخليج العربي مثلا، وموجودة أيضاً في أشدها فقراً كمصر وتونس والسودان وسوريا!! ويلفت الدكتور ربيع انتباهنا إلى أنه "كلما ارتفع مستوى الدخل في المجتمع، وازداد الناس انفتاحاً، كلما زادت الشروط والطلبات التي يطلبها أهل العروس"، ضارباً مثالاً بإحدى الدول البترولية بالخليج، والتي عاش بها لسنوات كثيرة، أنه "عندما يريد شاب أن يعف نفسه بالزواج، تجد والد العروس يثقل كاهله بالطلبات، فيطلب منه فيلا كبيرة، وسيارة حديثة، وذهب، و.... إلخ. منغلقة أو منفتحة كلها عانس! وتشير دراسات حديثة إلى أن العنوسة كظاهرة موجودة في المجتمعات المنغلقة، التي ترسخ فيها بعض العادات والتقاليد المحافظة، كبعض دول الخليج، كما أنها تنتشر أيضاً بين المجتمعات الأكثر انفتاحاً، مثل لبنان وتونس، وهو ما يدل على أنها أضحت ظاهرة عربية مقلقة، وتحتاج إلى حلول ناجعة، وتضافر جهود، رسمية وشعبية، كما تحتاج إلى تغيير ثقافات وتصحيح مفاهيم! ويرجع الدكتور ربيع الظاهرة إلى عدة عوامل: من بينها العامل الاقتصادي، وبعض العادات والتقاليد البالية، والمفاهيم المغلوطة، معتبراً أن "الانفتاح الاقتصادي" لم يقدم حلاً لمشكلة العنوسة كما كان يتصور البعض، وإنما ضاعف منها. ويتفق الخبير النفسي الدكتور محمد المهدي، استشاري الطب النفسي بجامعة الأزهر، مع نجلاء وربيع في خطورة الظاهرة، و يضيف: "عندما تحدث انفراجة مادية لأسرة من الأسر، فإنها تنسى ماضيها، وتنخلع تماماً من جلبابها، وتسعى للانتقال إلى وضع جديد، والعيش في مستوى مغاير، فتندفع سلوكيا رافضة كل ما يذكرها بالماضي، وهو ما يفسر إصرارها على ارتباط بناتها بشباب من الأغنياء ورفضها زواج الفقراء أو متوسطي الدخل. وكان تقرير عن العنوسة في العالم العربي، نشرته هيئة الإذاعة البريطانية على موقعها الإلكتروني، قد أشار إلى أن العنوسة تبدأ في حال تجاوز سن الفتاة الـ30 عاماً، وتتفشى بشكل واضح وملحوظ في المجتمعات العربية الأكثر محافظة (دول الخليج العربي)، حيث تبلغ نسبة العنوسة في بعضها (الكويت والبحرين وقطر والإمارات) 35%، أو الدول الأكثر انفتاحا كلبنان وتونس. أما في المجتمعات الوسطية كالمجتمع الفلسطيني فتشير الدراسة التي أعدها مازن الشيخ علي حول الموضوع والتي استقينا منها الأرقام السابقة أن نسبة العنوسة لا تتجاوز 1%.
المصدر : موقع ناصح .