أنا وطالبة الثالث متوسط مـوضـي
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
محمد الحضيف
| المصدر :
www.qassimy.com
الساعة تقترب من الثامنة حينما استيقظت ..
- لقد تأخرت ...
قلتها .. وأنا أصر أسناني غيظا ، من المنبه .. الذي يخذلني في كل مرة ...
نفضت الشرشف عن جسمي ، وقفزت من فراشي . الربع ساعة التي أمضيها عادة في الاستعداد ، أختصرتها إلى خمس دقائق . ركبت السيارة وأنطلقت ..
كل شئ إختصرته .. إلا السرعة ، فإنها قد تضاعفت . يجب أن أصل ، ولو أدرك نصف الاجتماع . كان ذهني مشغولا بحساب عدد التقاطعات المتبقية ، حتى أصل إلى الطريق السريع ، عندما دوى إرتطام ، عنيف في الجانب الأيمن من مؤخرة سيارتي ، وعكس اتجاهها تماما .
حينما استعدت توازني ، بعد مفآجأة الصدمة ، كانت (أشلاء) سيارتي متناثرة أمامي ، ولمحت من بعد ، السيارة التي صدمتني تلوذ بالفرار .. قلت في نفسي :
سيارة فخمة .. لماذا يهرب صاحبها ، ورفرف من رفارفها يعادل قيمة سيارتي ..؟
لم أحتج لتفكير طويل ، لكي أقرر أن أطارده وأنسى الاجتماع . الصدمة قوية ، والتلفيات في سيارتـي كبيرة ، وأنا لا أستطيع أن أتحمل خسائر بهذا الحجم .. الاجتماع يمكن أن يعوض . هكذا حدثت نفسي ، وأنا أنطلق وراءه بنصف سيارة تقريبا .
كان مرتبكا ، لذلك لحقته بسرعة ، وبدأت مطاردة غير متكافئة بين سيارته الفارهة ، والـ (نصف) المتبقي من سيارتي . شعر أني مدركة .. لا محاله ..
فأنا صاحب حق ، والوضع الذي آلت إليه سيارتي ، لم يبق لي شيئا أخسره .
عند أحد المنعطفات خفض من سرعته كثيرا . لاحظت ذلك ، من نور الكوابح الذي ظل مضاء أطول من كل مرة . لقد استسلم .. قلت لنفسي ، وبدأت آخذ وضع الاستعداد للوقوف .
،
،
،
فجأة .. رأيت باب الراكب الذي بجانبه يفتح ، ولاحظت أنه يميل ، ويدفع (شيئا) إلى الخارج .. ثم أعقب ذلك صريخ عال لعجلات سيارته يصم الآذان ، وهو ينطلق بسرعة عاليه ، تاركا المكان ممتلئا برائحة إحتراق الاطارات ، إثر إحتكاكها الهائل بالارض .
حينما فتح الباب .. وقذف بذلك (الشئ) ، كان أول ما سقط حقيبه .. ثم شيئا ملتفا بقماش أسود .. كأنه ..
- يا إلهى .. إمرأة .. بل فتاة ..
هكذا صرخت ، وأنا أتقدم ببطء تجاه ذلك (الشئ) ، الذي قذف من السيارة .
نهضت .. وأخذت تنفض الغبار الذي علق بعباءتها ، وتتراجع ملتصقة بالجدار . حينما اقتربت منها ، أخذت تبكي ، وهي تلملم أطراف (مريولها) الذي تمزق ، إثر سقوطها من السيارة .
- طالبه ..
قلتها ، وأنا أنظر إلى (مريولها) ، وأغراضها المدرسية التي تناثرت من حقيبتها ..
وقفت قريبا منها ، وصرت أسمع بكاءها ، وحشرجة صوتها وهي تقول :
- أرجوك .. أرجوك .. أستر علي ، الله يخليك .. لا تفضحني ..
لم أدر ماذا أصنع . شعرت بإرتباك وحيرة شديدة .. وتعطلت قدرتي على التفكير . الموقف يبعث على الريبة : أنا .. وفتاة .. على ناصية الشارع . ثوبها ممزق ، وأغراضها مبعثرة على الأرض .. قلت لها .. بعد تردد ، دون أن أحدد ما هي خطوتي التالية :
- اركبي .. سأوصلك إلى بيت أهلك ..
صاحت ، بهلع :
- لا .. لا أريد بيت أهلي .. ستذبحني أمي .. أرجوك ..
كان يجب أن أتصرف بسرعة ، خاصة وأن المشهد أصبح ملفتا للنظر .
السيارات المارة ، صار أصحابها يحدقون بنا ، وكاد فضول بعضهم يدفعه للتوقف .
- اركبي الآن .. ونتفاهم فيما بعد .. في المقعد الخلفي لو سمحت ..
شرعت أجمع أغراضها ، التي تناثرت من حقيبتها المدرسية .. ثم عدت أدراجي إلى السيارة ..
لم تكن قد ركبت ..
،
،
- لماذا لا تركبين ..؟
- الباب لا ينفتح ..
- تعالي إلى هذا الباب ..
ألقيت نظرة إلى داخل السيارة ، كان حطام الزجاج يملأ المقاعد الخلفية ..
- أووف .. لا باس .. إركبي في المقعد الأمامي ..
ركبت ، وحينما أستوت على المقعد ، أخذت تجمع عباءتها ، لتغطي بها (مريولها) الممزق، الذي أنشق عن ساقها إلى أعلى ركبتها بقليل . لمحت كفها .. بيضاء صغيرة ، خمنت أنها لا تزيد عن الخامسة عشرة . - تدرسين ..؟
- نعم ..
- في أي صف ؟
- الثالث متوسط ..
كان ظني في محله .. لون (مريولها) يشبه لون مريول شقيقتي ، التي تدرس في نفس المرحلة .
- (وش) إسمك ..؟
- موضي ...
كنت أسير بالسيارة على غير هدى ، وطاف في رأسي كثير من الأفكار :
أسلمها للهيئة .. ارجعها إلى بيت أهلها .. أعيدها للمدرسة .. أنا قطعا لا أستطيع أن ابقيها معي ..
سألتها :
- موضي .. من هذا الذي كنت معه ..؟
لم ترد على سؤالي .. ولا أدري تحديدا لم سألتها . كنت أريد أن اختلق حوارا ، لأصنع جوا من الثقة ، يساعدني في فهم ملابسات أمرها .. ويمهد الطريق إلى قلبها ..
القلـوب المغلقة مثل دهاليز الاستخبارات .. مرتع خصب للخوف .. والتوجس .. والشك .. والريبه .. الساعة الآن تجاوزت التاسعة والنصف .. الوقت يمضي ، وأمامي أعمال كثيرة يجب أن أؤديها ..
،
حين فشلت محاولتي لإستدراجها للكلام ، رأيت أن احسم الموضوع مباشرة .. قلت لها :
- موضي يجب أن تختاري بين أمرين .. أسلمك للهيئة ، أو أوصلك لبيتكم .. بقاؤك معي غير ممكن .. كما أن أهلك لابد أن يعرفوا عن سلوكك ..
أنفجرت باكية ، وبطريقة تنم عن سلوك طفولي حقيقي ، رفعت غطاء وجها ، وهي تتوسل إلي بعينين دامعتين ، أن لا أفعل ...
- أرجوك ... إذبحني .. لكن لا تسلمني للهيئة .. لا (توديني) لبيتنا .. والله هذي أول مرة أطلع فيها مع رجال .. ضحكت علي البندري ...
اشفقت على ذلك الوجه الطفولي البرئ . قلت لها ، وأنا أسحب يدي من يديها ، وهي تحاول أن تجرها لتقبلها ، رجاء أن لا أسلمها للهيئة ، أو لأهلها :
- طيب .. طيب .. خلاص .. لن أسلمك لأحد .. لكن ما العمل ..؟
- إذا جاء وقت طلوع الطالبات .. أنزلني عند المدرسة ..
- متى ..؟
- الساعة الواحدة .. بعد صلاة الظهر ..
- بقي أكثر من ثلاث ساعات .. وأنا مشغول ..
أطرقت لحظات ، تعاقب خلالها على وجهها إنفعالات من كل نوع .. الرهبة .. القلق .. الخوف من المجهول .
ثم نظرت إلي بعينين فارغتين تماما من أي بريق .. وقالت :
- نزلني عند المدرسة ..
- وبعدين ..؟
- أنتظر .. وإذا طلعوا الطالبات .. أروح لبيت أهلي ..
شعرت في أعماقي بحزن شديد لهذه البراءة الساذجة . هي بالتأكيد ليست من ذوات السلوك المنحرف المتمرسات .. ولا تعي خطورة الذي تقوم به .. ولا عاقبة تصرفاتها ..
- أنت صاحية .. تقعدين في الشارع ثلاث ساعات ..؟
لم ترد بشئ ، لكن الفضول دفعني لأن أسألها عن مكان مدرستها ، لأستدل من ذلك على اسم الحي الذي يسكنه أهلها ...
- أين مدرستك يا موضي ..؟
- في حي الأمل ..
،
حي الأمل ..؟
شعرت بمثل المسمار يخترق قلبي ..
هذا من المضحكات المبكيات . ما أكثر ما نسمي الأشياء بغير حقيقتها .. ما أكثر ما نزيف المعاني .. والواقع .. والاحلام ..
هذا أفقر أحياء الرياض .. لو سموه (حي اليأس) .. أو البؤس .. أو التعاسه .
الأمل ..؟ إن كان فيه للأمل بصيص .. فوجود هذه (الزهرة) فيه .. هذا الكائن الطفولي الذي تتعرض البراءة فيه للإغتيال ..
تداعت إلى ذهني الصور والمعلومات التي لدي عن حي (الأمل) ، وحاولت أن أفهم العلاقة بين تلك السيارة الفخمة وحي (الأمل) ، حيث تقيم موضي . لا يمكن أن يكون صاحب تلك السيارة يقيم في ذلك الحي ..
لسبب بسيط هو أن ثمنها يعادل قيمة خمسة من (جحور) ذلك الحي ، التي يطلق عليها مجازا .. (منازل) .. كما أن سيارته ستجد صعوبة في إختراق زواريب ذلك الحي ، الذي لا يتسع أحدها ، إلا لمرور سيارة واحدة صغيرة .. ولأن سكان ذلك الحي كذلك .. غالبا ما يتسببون بإغلاق الشوارع ، بايقاف سياراتهم بطريقة خاطئة ، لا تتحملها هذه الطرق ، الضيقة أصلا .
ماذا يكون ...؟
إنه .. (أحدهم) ..
إنه فجور المترفين ، إذ يتربص بعوز المحرومين .. وحرمـان البؤساء ، ليطلق غرائزه .. تفتك بإنسانية البسطاء .. وتفترس الشرف ، والكرامة ..
أعرف هذا الحي . جئته في أحد المساءات ، قبل عام تقريبا ، بصحبة صديق ملتزم ، من الناشطين في الأعمال الخيرية التطوعية .. لتوزيع صدقات عينيه ومالية .
لا أدري كيف أقنعنـي عبدالكريم أن آتي معه . فأنا رغم تعاطفي مع حالات البؤس الانساني ، إلا أنني سلبي جدا في التعاطي معها . أحتاج إلى وقت طويل ، لأتفاعـل مع الحدث ، أو الحالة ، وأحتاج لوقت مثله ، لأترجم التفاعل إلى فعل ..
لم تكن المرة الأولى التي يعرض علي عبدالكريم فيها مرافقته ، للقيام بمهمات من هذا النوع ، وكنت في كل مرة ، أتذرع بحجة مختلفة . لكني أتذكر ، أنه في تلك المره استفزني .. وسخر من (الانسان) البليد ، الجامد في داخلي ، كما قال :
- هل تريد أن ترى البؤس يمشي على قدميه .. هل تريد أن تستعيد شيئا .. شيئا فقط ، من إنسانيتك المهدره ، بين كلام مجرد عن المثل والأخلاقيات ، التي لم تجد لها رحما تتخلق فيه .. لتولد .. وتشب .. وتكبر .. وتمنح الحياة ، لكائنات لم تعرف معنى للحياة منذ خلقت ..
وبين سلوك استهلاكي بشع ، حولتك الرأسمالية المتوحشة من خلاله ، إلى (آلية) من آليات السوق .. أنت في قوائم التحليل الاقتصادي ، عند (آدم سميث) ، وتلامذته .. رقما .. آليه .. قدرة شرائية .. أنت بإختصار .. (لا إنسان) ..
دع عنك الهمهمة المعتادة :
"الله لا يؤاخذنا صرفنا واجد اليوم" ..
اليوم .. وكل يوم .. أنت تفعل الشئ نفسه .. تتقمص نفس الدور المسخ .. (آليه) ..
كأني بك مسرورا ، وهم ينادونك : MR. MARKET MECHANISM
اليوم .. وكل يوم .. أنت تمارس بسادية ، وأد الانسان في داخلك .
تعـال معي لتستعيد إنسانيتك ، حينما يفجرها الألم .. لمشهد الحرمان .. الـذي يصنعـه الفقر ..
تعال لترى الانسان عند نقطة الصفر .. كيف هو ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر .. ؟
تستلب الحياة من كل شئ فيه .. إلا عينيه ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر ..؟ الكلمات في قاموسه ليس لها أضداد .. أنت تعرف السعادة .. وربما سمعت عن الشقاء ، هو لا يعرف الا الشقاء .
أنت تعرف شيئا اسمه الحزن .. والفرح ، هو لا يعرف إلا الحزن ..
أنت تعرف الشئ ونقيضه ، بدرجات متفاوته .. هو يعرف الكلمة وحدها .. بمعناها السلبي فقط .. بدون أضدادها ، وبأقصى درجاتها قسوة ..
البؤس .. والعجز .. والحرمان .. والألم .. والعري .. والجوع ..
،
،
استفزني عبدالكريم بكلامه ، واستثار التحدي عندي ، فقررت أن أذهب معه .. لأرى هذه (البيئة) التي سوف تعيد خلق الانسان في داخلي ، كما يقول ، ولأتاكد إذا ما كان ذلك (الانسان) الجامد البليد موجودا ..
كنت اتنقل مع عبدالكريم ، من بيت إلى بيت ..
كنت معه في سباق مع الألم ..
في كل مرة يغرس نصلا ..:
- أترى هذا الطفل .. لا يملك إلا ثوبا واحدا .. إذا عاد من المدرسة خلعه .. وخرج إلى الشارع ، يلعب بسروال فقط .. أتدري لماذا ؟ .. ليس لغزا ..
ولا رياضة ذهنية ..
إنه لا يملك غيره .. ويجب أن يبقى نظيفا .. حتى يستطيع أن يذهب به من الغد إلى المدرسة .
لم ينتظر مني تعليقا ..
في بيت آخر ..
- أرأيت هذه الطفلة .. تم سحبها من المدرسة بعد أن وصلت الصف الرابع ..
لا .. أهلها ليسوا ضد تعليم البنات .. لكنهم اضطروا لذلك ، لأن شقيقها وصل سن الدراسة .. وليس لديهم القدرة على الصرف إلا على (دارس) واحد .. فكان الولد ..
من منزل لآخر ..
حتى استغرقنا النصف الأول من الليل .. كنت لا أسمع .. إلا :
أرأيت .. أرأيت ..
كان عبدالكريم ، وهو يتجول بي من بيت لبيت .. يفتح أمامي أبواب الحزن والبؤس .. على مصاريعها .. ويوقفني على مشاهد للحرمان .. ويسكب في عيني ألما ..
- توصلني قريب من مدرستي .. لو كلفت عليك ..؟
أتى رجاؤها مخنوقا .. ممزوجا بالخوف ، ليقطع علي سلسلة الصور التي تداعت إلى ذهني عن حي الأمل ، وما بقى من آثار تجربه إعادة اكتشاف الانسان البليد الجامد، المغموس بالتفاهات ، الموجود في داخلي ...
،
- لا ... تبقين معي إلى وقت الخروج من المدرسة .. ثم أوصلك ..
غمرها شعور بالسكينة ..
لاحظت ذلك وأنا أرى صدرها يهبط .. ثم تطلق نفسا عميقا ، دفع غطـاء وجهها إلى الأمام ..
أخذت أقلب الأفكار فيما أفعله ، لأخرج من هذا المأزق الذي وقعت فيه . الواقع المزري لحي الأمل كان
حاضرا ، وأنا أبحث عن حل يتجاوز .. أن (أتخلص) أنا ، من (ورطة) موضي ..
كنت أريد حلا لها هي ، حتى لا تعود لنفس الطريق . من السهل أن (أرميها) ، كما تقول ، قرب مدرستهـا ، لتذهب لبيت أهلها ، وسوف تجد إجابة تقنع بها أمها ، عن سبب تمزق (مريولها) .
أشعر أني غير قادر على الخروج بشيء ذي بال .. في موضوعها . هل يملك (رجال الهيئة) حلا يعطي التجاوز فرصة ، ويوفر علاجا جذريا ..
لو أني لجأت إليهم ..؟
ماذا لو اتصلت عليهم لطلب الاستشارة فقط ..؟
مرت دقيقة أو أكثر ، والافكار تطوح بي يمينا وشمالا ، قبل أن يقطع تفكيري صوت بكائها. توهمت في البداية أنها سمعتني ، وأنا أحدث نفسي حول الاتصال بالهيئة . التفت إليها ، كانت قد وضعت وجهها بين كفيها وتنتحب ...
- ما بك يا موضي ..؟
قالت بصوت يقطعه البكاء ..
- كيف أشكرك .. (وشلون) أشكرك ..؟
لم يكن بكاؤها عن سبب ، كانت تفرغ شحنة عاطفية مكبوتة ..
منذ الصباح ، وهي تراكم هما .. وخوفا .. وإحباطا .. وعجزا .. وقلقا .. وتنتظر أملا .. حين أقتربت من مقر عملي ، قلت لها :
- موضي .. سأنزل هنا .. لدى أمور سأنجزها .. قد يحتاج ذلك ساعة أو أقل . سأقف هنا .. المكان آمن .. سأترك مكيف السيارة مفتوحا . أبق الأبواب والزجاج مغلقة ..
لا تفتحي لأي إنسان ، مهما كانت الاسباب .. ولا تغادري السيارة أبدا . سأترك جوالي معك .. إتصلي على هذا الرقم عند أي طارئ .. ولا تردي على أي إتصال .
،
كنت أهم بالنزول ، عندما قالت :
- خذ الجوال .. أنا لا أعرف كيف استخدم الجوال .. هذه أول مرة في حياتي .. أرى فيها جوالا ... توقفت للحظة ، قبل أن آخذ منها الجوال ، الذي بقى في يدها الممدودة .. وشعرت بمثل حد السكين يحز في أعماقي .. وتداعت إلى ذهني قصة (ولد البسام) .. والصدى يجلجل في تلك المساحات الفارغة ، في قطعة اللحم التي تدعي مجازا (قلبا) :
"هذه .. أول مرة .. في حياتي .. أرى فيها .. جوالا ..."
.. يا لبلادة المترفين ...
ألتقطت منها الجوال ، والمرارة .. والشعور بالاحباط .. وغياب (الانسان) ، ترغم شفتي على الانفراج ، لتصنعا شيئا يسمونه (إبتسامة) ...
- ليه تضحك .. ما أنت مصدقني ..؟
- مصدقك .. والله يا عمري ..
- أجل ليه تضحك ..؟
- أضحـك على الإنســان البليد في داخلي .. الرقم .. العينة المسحية في أبحاث السوق ..
- ما فهمت ...
- تفهمين بعدين ...
أغلقت الباب ومضيت . حينما سرت بضع خطوات سمعت نقرا على الزجاج .. التفت ، كانت تلوح بيدها .. تناديني ..
رجعت ، ولما فتحت الباب ، قالت :
- أبغى أطلب منك طلب .. لكني خجلانه ..
- تفضلي ...
- أنا جايعة .. من أمس الظهر .. والله ما ذقت شئ .. أصل أمس ...
خلص الزيت ، وما قدرت أمي تطبخ .. وحنا .. بعد .. يعنى ...
لم تستطع أن تكمل عبارتها ، ولم تقدران تفصح عما كانت تريد قوله ..
كانت تفرك كفيها ببعضهما ، مطأطئة رأسها ..
،
،
حرت في مكاني لبضع ثواني ..
ها هو الانسان البليد في داخلي ، يتلقى صفعة ثانية ..
- جائعة .. وأنا رائحة الشواء ، الذي أتخمت منه البارحة ، حتى لم يبق مكانا لنسمـة هواء .. ما زالت خياشيمى ..
هناك شئ نفعله حينما يبلغ بنا الشعور بالمرارة والمهانة أقصاه ... نبصق على شئ .. صورة المسئول في الجريدة .. مثلا .. أو على الارض بجانبنا ..
وهو أقصى إحتجاج نقدر عليه ..
كنت أريد أن أبصق على خيالي ، الذي يعكسه الزجاج .. على (شكل) الانسان الذي أدعي أنه موجود لدي ..
كنت أهم بأن أفعل ذلك ، لكني خشيت أن تفهم أنها هي المقصودة ..
رفعت راسها ، وأنا مازلت واقفا . كانت عيناها تلمعان من خلف غطاء وجهها . قالت ، وهي ما تزال تفرك كفيها ، لكن بوتيرة أقل :
- الظاهر أن طلبي ما كان في محله ... أو (شكلي) أحرجتك ..
- لا .. ابدا .. نمشي الآن ...
كنت على وشك أن أغلق الباب حين لمحت بقعة دم على ثوبها ، قريبا من موضع الركبة . انقبض قلبي بشدة ، وداهمني خاطر سئ .. وشعور بالغضب ، لم أستطع أن أواريه ، فقلت لها بلهجة جافة .. لا تخلو من إتهام :
- موضي .. من وين الدم هذا ..؟
- انجرحت ركبتي .. يوم طحت من السيارة ..
عيناها مازالتا تلمعان من خلف الغطاء .. معلقتان بوجهي ، الذي ارتسمت عليه علامة استفهام كبيرة .. أحست أن إجابتها لم تقنعني ، وأني لم أصدق كلامها ، فأزاحت عباءتها ، ورفعت ثوبها عن موضع الاصابة ، دون أن تتكلم ، أو ترفع رأسها .
كان جرحا سطحيا ، تيبس الدم حوله . ليس عميقا ، لكنه بدا ، بلونه الداكن ، وتشققاته ، التي أبرزها إهابها الأبيض الرقيق ، مثيرا للألم والشفقة .
أغلقت الباب ، وركبت من الناحية الأخرى . كانت ما تزال مطأطئة راسها ..
أعرف أني جرحت كرامتها ..
كثيرا ما نوقع أذى بهذا الحجم وأكثر ، بالآخرين .. وكثيرا ما يكون ذلك بدافع من الشعور بـ (طهرانية) مبالغ فيها لذواتنا .. والشعور بـ (دنس) الآخر ، وقابليته للخطيئة ، التي تحتاج إلى (مخلص) مثلنا .. لم يقف يوما في صف ، ويسمع ...
"من كان منكم بلا خطيئة .. فليرمها بحجر ..."
.. وأحيانـا نمارس الأذى ، ونوقعه بقسوة .. لا تعطي فرصة للتجاوز .. على من نحب .. بدعوى الحب ..
كيف يؤذي من يحب ...؟
حاولـت أن أغير الموضوع ، وألطف الموقف ، بسؤالها عن ماذا تريد أن تأكل ، لكنها لم ترد. فكرت أن أشتري لها سندويتشات وعصير ، لكني لا أعرف محلا قريبا ، يقدم هذا النوع من الفطائر ، وعملية البحث ستأخذ مني وقتا .
اتجهت إلى مطعم قريب ، يقدم وجبات سريعة . في الطريق إليه لمحت صيدلية .. نزلت وأشتريت شاشا ومعقما ولاصقا .
وصلنا المطعم .. قلت لها :
- انزلي ...
- إلى أين ..؟
- إلى المطعم .. لتفطري ...
نزلنا وفي قسم العائلات ، أخذنا إحدى المقصورات . كانت تتلفت .. واضح أنها تدخل مطعما لأول مرة .. قالت ببراءة :
- آكل قدام الناس ... ما يشوفوني الرجال ..؟
- لا .. أنت لوحدك هنا ..
تيقنت أنها بريئة .. ولم تتمرس على الانحراف .. تستحي أن يراها الرجال كاشفة وجهها وهي تأكل .. الحياء لا يتكلف ، ولا يصطنع ..
التظاهر في مثل هذه المواقف ، بغير الحقيقة ، يتطلب درجة عالية من الخبث ، والتمرس على المكر .. لا يمكن أن تتقنه طفلة في هذا السن ..
وأوجعني قلبي مرة أخرى .. أن ظننت بها ظن السوء ..
،
،
طلبت لها أكلا ، وسألتها إن كانت تريد عصيرا بعينه ، قالت :
- أبغي (كوتيل) ..
- تقصدين كوكتيل ...؟
- ما أدري .. أسمع البنات يقولون ، عصير (الكوتيل) حلو ...
مرة أخرى يبرح بي الألم .. تبدو لغة المحرومين .. ساذجة .. بريئة ، لكنها تدمي القلب .
يحق لك أن تزهو .. إبن الطبقة الوسطى ، أو فوقها بقليل .. تعرف الكوكتيل .. والسكالوب .. والستيك ..
ها أنت أمام كائن يشاركك نفس الكوكب ..ونفس الوطن .. بل على الطرف الثاني من المدينة .. ربما لم يعرف سائلا غير الماء في حياته .. أو معلبات الكولا ، التي تعمل عمل الأسيد في قنوات جهازه الهضمي . إنه (البرجوازي) البشع .. يتربع في داخلك .. كتمثـال من البرونز .. منصوب في ميدان ، في عاصمة (رأسمالية) .. يأتيه العمال ، والمهاجـرون المغتربون .. المسحوقون .. يتمسحون فيه .. ويطوفون حوله .. يلتقطون الصور التذكارية .. ويصطنعون عنده (لقطات فرح) .. انتزعوها من بقايا آدمية مطحونة ..
في قيعان المناجم .. أو بين هدير ألات المصانع ..
يتفصدون دما .. وعرقا ، يصنع منه طلاء .. يحفظك من الصدأ .. ويبقيك لامعا .. متوهجا .. ليؤموك مرة ، تلو أخرى ..
صرت (ربا) صنما ..
حولك .. (يولد) فرح المسحوقين ..
ومن عصارة أجسادهم تبقي لامعا .. لتسعدهم ..
أي فخر أعظم من هذا ...؟
جاء الأكل ، واستلمته من العامل ، ووضعته على الطاولة .. وقلت لها :
- أفطري .. بعد عشر دقائق أرجع لك ..
- وين تروح ..؟
- أتركك .. تأخذين راحتك ..
،
،
،
- لا .. لا تتركني .. أنا راحتي معك ..
انتفض قلبي لعبارتها .. تملكني براءة الأنقياء .. وصدق المشاعر ..
تذكرت الشاش والمعقم الذي اشتريته ، فأخبرتها أني سأذهب لإحضار بعض الاغراض من السيارة . كنت أريد أن أدعها لوحدها ، حتى تنتهي من إفطارها ، ولأحضر تلك الاغراض لتطهير جرحها ..
رغم أني تعمدت التأخير ، إلا أنني حينما عدت ، كانت ما تزال في بداية وجبتها . شعرت بحرج ، لكنها نظرت إلى بعينين ساكنتين ، وقالت :
- خفت .. لما تأخرت علي ..
جلست أرقبها تتناول الطعام . تتصرف بهدوء وعفوية ، دون إحساس بالمكان حولها ..
كانت جائعة فعلا ... طريقة إلتهامها للطعام .. تلقائيتها في التصرف .. حينما نزعت غطاء وجهها ، الذي كان يتدلى على كتفيها ، ووضعته على الكرسي بجانبها .. تنقلها بين صنف وآخر من الطعام بدون أي (إتيكيت) .. كأنما تتذوق (العالم) لأول مرة ..
بل هي كذلك .. إنها الدهشة التي تصيبنا ، حينما نصادف الاشياء للمرة الأولى ، فنتصرف مثل الاطفال ... "أوووه أيها المترف" ..
يلج نداء في داخلي .. "أصبحت تعلم المحرومين الاتيكيت" ..
أصبحت انت (الاستاذ) .. وغيرك حولتهم الدهشة إلى أطفال ..
لم لا تفهم ..؟
إنه الجوع ، والحرمان .. والبراءة التي ما تلوثت ..
شعرت بفيض من الحب يغمر قلبي تجاهها .. براءتها .. عفويتها .. تلقائيتها .. والشعور بالامان الذي هبط عليها ، وهي معي .. فنسيت العالم من حولها .
حينما يسكن إنسان إليك ، تعتريك حالة من الاستسلام .. والحب اللانهائي ..
تأمل حينما يدفن طفل رأسه في حجرك .. ويغفو ..
تنتابك حال من الاستسلام غريبة .. وتحس أن قلبك تحول إلى مهد له .. لوحده .. وتتمنى لو توقف العالم كله من حولك .. بساعاته .. وسياراته .. وضجيجة كله .. لكي لا يصحو ..
،
،
هكذا كان شعوري نحوها .. وأنا أنظر إليها .. تحيلني سكينتها .. وإطمئنانها إلي .. إلى (إنسان) .. قال عنه عبدالكريم يوما ، إنه غير موجود ..
وددت لو أخذتها إلي .. وضممت رأسها إلى صدري .. ليذوب الجليد ..
لأبكي ..
لأستعيد إنسانيتي المهدرة ..
أليس شيئا هائلا أن تجد إنسانا يسكن إليك ..
و .. تسكن إليه .. ؟
تذكرت صاحب السيارة الذي قذفها ، فتداعى إلى ذهني مخزون هائل من اللعنات ...
أي نفس سويه يسوغ لها أن تفتك ببراءة مثل هذه ..؟
أي توحش قادر على أن يغرس خنجر الغدر في هذا الطهر الفطري ...؟
كنت ساهما .. أهلوس بمثل هذه الأفكار .. وأتذكر كثيرات ..
فتك بطهرن .. بسبب مثل هذه البراءة ، والعفوية ..
جالسا قبالتها .. شاخصا .. صامتا ، حين قالت ، وهي ترفع خصلة شعر سقطت على وجهها :
- كثر الله خيرك ..
دبت الحياة في محياها ، بعد الجوع والعطش ، كما نبت الحياء في أرض مجدبة .. غمرها الغيث .. وجهها عاد أكثر بشاشة .. جبينها العريض صار أكثر ضياء .. عيناها ، كأنما أوقدت فيهما قناديل فـرح .. امتد وهجها إلى ثناياها ، فازدادت ألقا .. لتصنع لها إبتسامة آسرة .. كلما افتر ثغرها ..
عندما أنهت ترتيب عباءتها ، وشرعت تضع غطاء رأسها ، ووجهها في مكانه ، قلت لها :
- لابد أن أعقم الجرح ، حتى لا يلتهب ...
هزت رأسها موافقة . رفعت ثوبها إلى حدود الجزء الممزق ، ليظهر الجرح ، ولأتمكن من تنظيفه . أخبرتها أن المادة المعقمة تحتوي على مادة قلوية ، وستشعر نتيجة لذلك بألم ، وعليها أن تتحمل .
،
،
كنت قد أنهيت تنظيف الجرح ، ووضعت الشاش واللاصق عليه ، وأتهيأ للنهوض ، حين شعـرت بكفيها تطبقان على جانبي رأسي ، وتأخذه إليها ، ثم تنحني وتطبع قبلة على جبيني ، وتقول :
- يا ليتك (أخوي) ... يا ليتك ...
وسكتت ..
رفعت رأسي ، ونظرت إلى وجهها .. كان ينطق بكل اللغات .. إلا لغة الجسد ..
لقد تلاشي الجسد ، كوسيلة تعبير بيننا .. ولم يكن ثمت إلا أنا .. ودوائر من النور ..
تلتمع في مساحات وجههـا .. الـذي غدا أمامي كمحراب هائل ..
طفقت أردد فيه الصلوات ..
- اعتبريني أخا لك ...
قلتها وأنا أنهض ، وهي تتبعني بنظراتها .. وتغالب دمعتين ..
عقربا الساعة في سباق ، الصغير يؤشر على الرقم 11 ، والكبير إلتحم بالرقم 2 .. لا أدري أيهما سبق . لم يعد لتقسيم الفراغات في تلك الدائرة التي يسمونها (ساعة) ، أي معنى لدي ...
في لغة الوقت ، التي أخترعوها ، الساعة الآن هي الحادية عشرة وعشر دقائق ..
أما الوقت لدي ، فقد اختزل إلى بداية ونهاية .. كلاهما إسمه .. موضي .. الزمن فيه لا يحسب بالعقارب .. ولا بفراغات الدائرة ، وتقسيماتها ...
إبتدأ بفتاة تقذف من سيارة ، كنتيجة مبكرة لعملية سوف تتم ، بالضرورة لاحقا ، وتحدث في كل لحظة ، يدفع الطرف الأضعف فيها .. دائما ، الثمن الباهض من شرفه .. وكرامته ، وإنسانيته .. وحقه المفترض في حياة كريمه ..
لا تخضع لإبتزاز المال .. ونفوذ السلطة ..
تأتي المرأة ممثلا (مواظبا) للطرف الاضعف .. الممتهن .. المبتز .. المستهدف .. المقذوف ..
ليس من سيارة يمتلكها مترف ، (قادر) .. بل من حقها .. أن يكون لها كينونة .. في بعدها الانساني .. لها اعتبارها .. وكرامتها .. ضمن القانون السرمدي :
"وكرمنا بني آدم" ...
،
،
ينتهي الوقت .. متى ينتهي ..؟
عند الساعة الواحدة .. حينما تدلف موضي ، بخطوات متوجسة إلى بيت أهلها ..؟
وقت طويل .. لو كان الزمن يقاس بعذابات المحرومين وأوجاعهم .. وبأحلامهم التي تنتهي تحت أقدام نزوات (القادرين) ..
وصلت إلى مقر عملي .. ونزلت ..
لم يتبق وقت للعمل اليوم . تركتها في السيارة ، وذهبت لإنجاز بعض الأعمال المعلقة ، ولأعتذر عن التأخير .. وعن بقية اليوم .
بدوت أمام الزملاء متوترا .. شارد البال .. غير قادر على التركيز ..
وقعت اسمى في المكان غير الصحيح أكثر من مرة .. وأختلف توقيعي عن الآخر أكثر من مرة .. ناديت أحد الموظفين بغير اسمه ..
ظروف عائلية ...
كان هذا هو التبرير .. وانسحبت ..
جزء من الشرود والتوتر الذي انتابني في العمل ، كان بسبب الضغط النفسي الذي فرضه التفكير المتواصل في أمرها ..
لقد قررت أن لا أنزلها عند المدرسة ..
سيطر علي هم واحد :
هـل أتركهــا تذهب بهذه البساطة .. دون أن تتعلم درسا ، يمنعها من العودة لنفس السلوك ..؟
هل أدعها تعود لبيت أهلها .. لتعود بعد ذلك لنفس الطريق ..
عدت إلى السيارة بغير الوجه الذي ذهبت به ..
مهمومـا .. متجهما .. ومتوترا .. ضاقت على الأرض بمارحبت .. ركبت ، وسحبت الباب خلفي بقوة .. ولم أكلمها ..
كنت ، حينما خرجنا من المطعم ، قد ألنت لها القول ، ولاطفتها ، وحدثتها حديث القلب للقلب عن خوفي عليها .. وقلقي على مستقبلها ، ورجوتها أن تنتبه لنفسها .. وختمت ذلك بمزحة ، فقلت :
- إن عاهدتني أن تلتزمي بما قلت لك اشتريت لك أسكريم (كون زون) أو (باسكن روبنز) ، لكن باسكن روبنز أمريكي ، وأنا مقاطع البضائع الأمريكية ..
ضحكت ببراءة الآمن في سرية ، وقالت بعفوية أخذت قلبي :
- أبغى اكتب اسم الاسكريم .. حتى إذا رحت للمدرسة أقول للبنات إني أكلته ..
ثم أضافت :
- أبلا نوره .. دائما تنهي الحصة بتذكيرنا بمقاطعة البضائع الأمريكيــة .. لكن .. ثم سكتت قليلا .. لتقول :
.. البنات في الفسحة يعلقون على (أبلا) نورة ، ويقولون :
"الأبلا ساكنة في شمال الرياض .. وتحسب الناس كلهم مثلها ، يستطيعون أن يشتروا بضائع أمريكية" . أندفع الدم إلى وجهي ، وشعرت كأنما لفحتني موجة حارة .. إنها فوقية المترفين ..
إنها (ماري أنطوانيت) ، التي تطالب الجائعين ، الذين يتظاهرون من أجل الخبز .. أن يأكلوا (بسكويت) .. أوهي (أبلا نورة) .. التي تطالب الجوعى والعراة .. أن لا يشتروا من (مكس) ، أو (نكست) ، أو (فرساتشي) ..
كيف لا تقرأ (أبلا نورة) هذا الوجع والبؤس .. الساكن في كل قسمة من قسمات تلك الوجوه ، وهي تصافح عينيها كل صباح .. كيـف تستطيـع أن تعيش في عالمين منفصلين ..؟
كيف يصنع الترف كل هذه الحجب الغليظة من البلادة .. واللامبالاة بمعاناة الآخر .. ووجعه .. وبؤسه ..؟
كيف يهوي الانسان (في داخلنا) إلى تلك الاعماق السحيقة ، فلا يسمع منه زفرة ألم .. ولا يتسلل من تلك اللجة الجليدية .. شئ من مشاعر .. صرخة واهية ..
تجاه الحرمان الذي :
يخنق أحلام الصبايا ..
يغتال الفرحة في عيون الأطفال ..
ويقتل الكبرياء في جباه الرجال ...؟
،
،
لست وحدك ..
هناك ألافا مثلك .. وألافا مثل نورة ..
حينما استقريت على المعقد ، بتلك الحالة المتوترة ، تطلب الأمر مني وقتا ، لأخرج المفتاح من جيبي .. ولاحظت ذلك ..
عندما بدأت أدير المفتاح ، لتشغيل السيارة ، صدحت اغنية من (الراديو) ، الذي يبدو أنها قد عبثت به أثناء غيابي ..
كان المغني يردد :
"زمانك لو صفا لك يوم ... زمانك ما صفا لك دوم
وعينك لو أهتنت بالنوم ... ترى الأيام دواره
ترى الايام دواره .."
للحظـة .. استسلمت لكلمات الأغنية ، التي فتقت جرحا جديدا .. ثم أقفلت الراديو .. بانفعال . قالت ، وكأنها تريد أن تخفف من حدة التوتر ، الذي لاحظته على ، حينما عدت :
- الاغنية كلماتها حلوة .. صح ..؟
لم أرد عليها ....
- ما تسمع أغاني ..؟
- لا ..
- حرام ..؟
- نعم ..
- أنت كنت تسمع قبل (شوي) ..
- أنت تحققين معي ..؟
- أنت زعلان .. أنا سألتك .. لأن فيه معلمة عندنا تقول ، الذي يسمع أغاني كافر ..
- لا .. ليس كفر .. لكن حرام ..
- ما فهمت ..
- سماع الأغاني معصية .. ويفسد الأخلاق .. وأنت ما أفسدك إلا سماع الأغاني .
- يعني أنا فاسدة ..؟
،
،
،
- هذا الذي قمت به .. ماذا تسمينه ..؟
- ......
ران الصمت بيننا ..
بدأ الندم يأكل نفسي .. لقد هدمت كل ما بنيت هذا الصباح .. بلحظة غضب .
أشعر أني انتقم لنفسي منها .. أن تورطت بها ..
أضاعت وقتي .. وأوقعتني في حيرة .. وحملتني مسئولية الحفاظ عليها .. أنا الذي لم أعش إلا لنفسي فقط .. وتحاشيت كثيرا أن أصيخ سمعي لوجع الناس .. أو أجرح ناظري بمشاهد البؤس والحرمان ..
مازالت الذاكرة تكويني ، باسترجاع تلك المناظر التي رأيتها .. وبتذكر ذلك الأنين .. الذي اجتاح هدوئي ، في (مغامرتي) اليتيمه في حي (الأمل) مع عبدالكريم ..
كيف أريد علاجها ، وأنا قد شرعت بإدانتها .. وتجريمها ..؟
قلت ، بعد أن أستعدت هدوئي ، وبلهجة بالغت بأن أشعرها من خلالها بالمحبة والحنان :
- موضي حبيبتي .. أليس هذا الذي فعلتيه خطأ ..؟
- صح .. لكن خلني أسألك سؤال .. أعطني فرصة .. أقول لك شيء ..
- أنا الذي أريد أن أسألك سؤالا ..
.. من هو الشخص الذي كنت معه الصباح ..؟
- لا أعرفه ..
- تركبين مع شخص لا تعرفينه ..؟
- والله العظيم لا أعرفه .. أصل الموضوع .. البندري ..
وأخذت تبكي .. وتوقفت عن الكلام ..
- تكلمي يا موضي .. أرجوك ..
- "أنا شفت إكسسوارات حلوة على زميلتي البندري .. أعجبتني ..
قالت لي : أعجبتك ..؟ قلت لها نعم .. قالت قولي لأبوك يشتري لك مثلها .."
هي تعرف أن الوالد غير موجود .. لكنها ..
وانخرطت بنوبة بكاء أشد مما سبق ..
تركتها حتى سكنت ، وأنا أكثر فضولا لمعرفة التفاصيل .
،
،
شعرت أن المسألة أكبر من طيش مراهقة ، إلا أنـي لم أجرؤ أن أطلب منها مواصلة الحديـث . لكنها ، حينما ألتفتت تطلب مني منديلا تمسح به دموعها ، رأت اللهفة في وجهي ، لمعرفة تفاصيل الموضوع ، ورأيت أنا في عينيها انكسارا يذيب الحجر الأصم ..
استأنفت الحديث :
- البندري تعرف أن الوالد غير موجود .. لذلك ، قالت لي :
"وإذا ما عندك أب .. لازم يكون لك (صاحب) .. تطلعين معه .. يشتري لك اللي تبين .. ويؤكلك في المطاعم" ..
قلت للبندري : أنا ما أعرف أحد ، قالت : "ما يهمك .. أنا أعطيك رقم واحد .. عنده سيارة (كشخه) .. تكلمينه ..
"فعلا .. كلمته أكثر من مره .. وسمعني كلام حلو .."
أمس قال لي ..
الصباح لا تمشين للمدرسة .. روحي للشارع العام .. وأجـيء أخذك من هناك الساعة 7 " ..
فعلا .. رحت للشارع العام .. وجاء الشخص الذي رأيتني معه ، وركبت ..
كان أول شيء قال لي : "أنا أحبك يا موضي .. البندري كلمتني كثيرا عنك .. أنت تستأهلين كل خير .. أنت بس تدللي .." .
بعد ما مشينا بفترة بسيطة ، قال إن فيه (جمس) ، مثل سيارة الهيئة يمشي خلفنا .. ثم أسرع .. وصدمنا فيك ..
كنت أستمع إليها مذهولا .. أحاول أن أكذب سمعي ..
- ومصدقة انه يحبك ..؟
- لا .. طبعا .. كلام فاضي ..
- وأنت صدقتي البندري .. يمكن الذي اشترى لها الاكسسوارات أبوها .. ؟
- لا .. أبوها غير موجود .. أمها مطلقة .. وهي ساكنة مع أمها .. وأبوها ساكن في مدينة ثانية .. ولا يعترف فيهم ...
شعرت برغبة حقيقية بالبكاء .. البندري أيضا ضحية ..
بيت ممزق .. وفقر ..
ألعن من .. غير إبليس ..؟
،
،
- وأنت .. الوالد أين هو ..؟
ترددت برهة من الوقت .. ثم قالت :
- مسجون ...
ثم أضافت ، وقد استحال وجهها إلى الأصفر الشاحب :
.. ولا عندنا أحد يصرف علينا ..
في هذه اللحظة لم أملك أن أمنع نفسي عن البكاء .. أوقفت السيارة على جانب الطريق ، وبدأت أبكي بكاء صامتا ..
بنفسي هذه الطفلة .. وألاف غيرها ..
ألعن من .. غير إبليس ..؟
جوفي كان يشتعل غيظا .. وعجزا .. وإحتقارا ، لذات .. ظلت طويلا .. في منفاها الجليدي ، لا تحس بلهيب المعاناة لبشر .. يتحالف الفقر ، والحرمان ، والأهمال .. مع (القوانين) المتخلفة ، والبيروقراطية القبيحة .. المسخ ، في إذلالهم ..
كنت منغمسا في لحظة وجع حقيقي .. أغلق الدمع عيني ، فلم أعد أرى شيئا ، عندما سحبت يدي وقبلتها ، وهي تقول بعينين دامعتين ، ووجه صار مرتعا للألم فقط :
- تبكي من أجلي .. يا ليتك .. يا ليتك ..
ثم خنقتها العبرة ..
كنت قد عزمت على أمر بخصوصها .. وأنا أعود إلى السيارة ، بعد أن تركتها لأصلـي الظهر ، في مسجد على الطريق ..
وقع في نفسي أن أمرها ، يحتاج حلا جذريا ..
بعد خروجي من المسجد ، فوجئت بعدم وجودها في السيارة .. شعرت كأنما يد قد اخترقت صدري .. وانتزعت قلبي منه ..
تساءلت ..:
أين تكون ذهبت ..؟ .. هل هربت ..؟
انتابني شعور مزيج من القلق والسخط .. أشد شيء آلمني .. إحساسي أنني بعد كل الذي صنعته من أجلها .. لم تثق بي .
ليس أقسى من أن تفقد الثقة .. أو لا تكون محل ثقة .. لإنسان تحبه .
،
كنت على هذه الحال ، إذ رأيتها تخرج من مصلى النساء .. فأشرق وجهي .. وأحسست قلبي يعود إلى مكانه .. صرت أخاف عليها ..
وفرحت أنها حريصة على الصلاة ..
تبقى الصلاة ذلك الرباط الوثيق ، الذي يشد الانسان إلى الخير والفضيلة ، مهما إجتالته الشياطين ..
يؤلمني كثيرا مشهد الانسان الذي لا يصلي .. أشفق عليه من النهاية البائسة ..
أحس أن الصلاة هي العتبة الأخيرة .. التي يقف الإنسان عليها ، قبل أن يهوي .. إذا ما تركها ، إلى درك .. يكون فيه ، هو والحيوان سواء ..
قالت وهي تفتح الباب لتركب :
- خفت تطلع من المسجد .. ولا تلقاني .. ثم تروح وتتركني .. فاستعجلت بصلاتي .. تنهدت ، وقلت في سري :
- "أنا الذي خفت .. أنك رحتي وتركتيني .."
صارت بالنسبة لي ، حبلي الوحيد إلى الحياة (الحقيقية) ...
التحدي الحقيقي لاستعادة إنسانيتي المهدرة .. الشمعة التي تتقد لتنثر الضوء ، والدفء في صقيع أعماقي المظلمة ..
في الطريق إلى المدرسة قلت لها :
- قبل أن أنزلك عند المدرسة أريد أن نمر من عند بيتكم ، حتى أعرف مكانه ..
ردت بتوجس ، وكأنها شكت أني سأذهب بها إلى أهلها :
- لماذا ...؟
- يمكن أزوركم الليلة ..
- والله ..؟
- إحتمال ..
تعرفت على موقع البيت ، ثم توجهت بها إلى المدرسة .. لم تكـن الطالبـات قد خرجن بعد .. فانتظرنا في السيارة في شارع مجاور ..
كانت أسراب الطالبات قد بدأت بالخروج من بوابة المدرسة عندما بادرتني قائلة :
- ما قلت لي إسمك ..
- محمد ..
نزلت .. وأغلقت الباب .. وبعد بضع خطوات ألتفتت نحوي ولوحت بأطراف أنا ملها .. خرجت من حي (الأمل) .. أحمل قلبا .. و(أملا) .. وإنسانية مستعادة ..
عند إحدى الاشارات ، نبهني سائق السيارة الذي بجواري ، إلى أن الباب لم يغلق جيدا .. التفت لأغلقة ، فوجدت قصاصة ورقة .. كانت قد كتبتها .. وتعمدت أن تتركها لأجدها.. قرأتها .. ثم دسستها في جيبي .. وتأكدت مرة أخرى أن البراءة لو تمثلت إنسانا ، وسارت على الأرض ، ومشت بين الناس .. لكانت هي ..
صليت العشاء في نفس المسجد .. ثم أنطلقت باتجاه بيتهم .. كنت قد عرفت منها عدد إخوانها وأخواتها ، واتفقت معها أن تذكر لأمها أن إحدى المعلمات تجمع معلومات عن الأسر المحتاجة ، وأنها قد استدعتها وطلبت منها معلومات عن بيتهم وأسرتهم ..
وصلت .. وقرعت الباب .. كنت مرتبكا قليلا . أخذت ، وأنا انتظر الرد ، أقلب طرفي فيما حولي .. لفت نظري أن كل بيت لا يكاد يخلو من طبق من أطباق الاستقبال الفضائية التلفزيونية (الدش) .. بل إن بعضها يتربع على سطحه أكثر من واحد ..
تساءلت في نفسي .. :
أي واقع إجتماعي سيتشكل ، عندما يجتمع في هذه البيوت .. الفقر .. والظلم الاجتماعي والمشاكل الأسرية .. وإنخفاض مستوى التعليم .. وفضائيات تصب العنف ، والجنس ، والرذيلة .. في عقول ساكنيها ..؟
هل يمكن أن يستغرب المرء سلوكا مثل الذي وقع من البندري .. وموضي ..؟
من أين جاء مفهوم (الصاحب) .. الذي يوفر ما عجز عن القيام به (الأب الغائب) .. مسجونا كان .. أو مطلقا .. أو ميتا .. أو حتى عاجزا .. متخليا عن دوره ..؟
من المسئول عن نشوء مثل هذا (العجز) .. في ظل الغياب القسري للأب ..؟
من (الطرف) الآخر الذي (تخلى) عن دوره ..
فسقط مثل هؤلاء (الضحايا) ..؟
فتح الباب ، وأطل طفل لا يتجاوز التاسعة . حسب توصيف موضي ، هذا شقيقها محمد . هناك بنت تكبره .. نوف ، أصغر من موضي ، في الصف السادس الابتدائي .. وأصغر منه بنت في الصف الأول .. أظن أن إسمها إبتسام ، ثم عبد الاله في حدود الخامسة .
سألته :
- اين الوالدة ..؟
- من أنت ؟
- مشرف إجتماعي .. من الجمعية الخيرية ..
غاب قليلا ثم عاد .. وسحب الباب خلفه ، وأبقاه نصف مفتوح ، ثم قال :
- الوالدة خلف الباب ..
ألقيت عليها السلام ، وذكرت لها أنني عضو في مجموعة خيرية ، تقوم بحصر الأسر المحتاجة ، من خلال التعاون مع بعض المعلمات ، ليتم ترتيب شيئا لها ، يساعدها في مواجهة تكاليف الحياة ..
كان يوم سبت ، أخبرتها أن هذه الزيارة استقصائية ، لمعرفة أوضاع الأسرة بالتفصيل ، وأنه سيعقبها زيارات أخرى ..
طلبت مني الدخول إلى غرفة تفتح على الممر المؤدي إلى داخل المنزل ، يبدو أنها (المجلس) المعد لإستقبال الضيوف.
جلست على فرش (موكيت) متآكل .. قد ذهب لونه . كان هناك مسندتان للظهر .. أو ثلاث .. ولا شئ غير ذلك ..
في السقف يوجد مروحة عتيقة ، ولمبة (فلورسنت) 2. شمعة ، أطرافها معتمة لطول الاستخدام . على الجدران المدهونة ، بلون أبيض مطفي ، يوجد خربشات أطفال .. لفت نظري أحدها ، يقول : "الدهر يومان .. يوم لك ، ويوم عليك" ..
ثم رسمة لقلب ، قد إخترقه سهم ، وينزف ، وقد كتب تحته :
" أحبك لو تكون ظالم" ..
لاحظت أن مثل هذه (الشعارات) مشترك (ثقافي) ، بين الاغنياء والفقراء ..
لكن .. كيف يفهم كل فريق (اليومين) .. اليوم الذي له .. واليوم الذي عليه ..؟
،
،
،
ما هو مفهوم كل طرف للحب .. وكيف هو مفهوم الظلم في الحب .. وفي غيره ، عند كل منهما ..؟
كيف فهمت موضي (الحب) .. لما سألتني إن كنت افعل الذي أفعله من أجلها .. لأني أحبها ..
وتبرعت بالتفسير ، على ضوء ما تعتقد أنه القانون السائد ، الذي يحكم العلاقات بين الناس
.. فقالت :
"الشخص لا يخدم شخصا آخر إلا إذا كان يحبه .. أو ينتظر منه شيئا .. مقابل ما يقدمه له" ..
موضي علمت يقينا أنني لا أنتظر منها (شيئا) .. مثل ذلك الذي كان يريده منها صاحب السيارة ..
وهي غير متأكدة أنني أحبها .. لروحها .. وذاتها .. إذ هي .. رغم صغر سنها ، تدرك ، أن حبا من هذا النوع ، لا يمكن أن يتخلق في إتصال هاتفي .. أو لقاء عابر ..
لذلك .. هي عاجزة أن تفسر موقفي منها .. لأنها غير قادرة على أن تبني علاقة بين متغيرين ...
"الخدمة .. مقابل .. ماذا ..؟ "
وهو ما دأب المعطى الثقافي السائد ، على تقديمهما ضمن (تراتيبية) معينة ..
عندما أخذت مكاني في المجلس ، جلست هي خارجة ، في الممر ، عند الباب ، تسمعني ، ولا أراها . سألتها بالتفصيل عن أحوالهم المادية ومصاريفهم اليومية والشهرية ..
عرفت منها أن زوجها مسجون في قضية مخدرات ، وأن محكوميته طويلة ، وأنهم منذ سنتين تقريبا لم يروه .. لأسباب لم تذكرها .
لا أقارب لصيقين لهم في الرياض .. أهلها .. وأهل زوجها يعيشون في مناطق بعيدة .. وليسوا بأحسن حال منهم ..
أنتهى اللقاء .. ووعدتها بزيارة قريبة ..
،
،
،
كنت قبل أن آتيهم ، مررت على محل لبيع الوجبات السريعة ، وأشتريت لهم فطائر (هامبورقر) ومشروبات غازية .. وتعمدت أن يكون عدد الفطائر غير مطابق لعددهم .. حتى لا تشك بأن لدي معلومات سابقة عنهم .
كانت فرحة الأطفال لا توصف .. بكيت في داخلي ، وأنا أراهم يتقافزون فرحا .. ويردد عبدالإلة الصغير : "زي اللي في التلفزيون" ..
عالم لا يرونه إلا في التلفزيون .. وحياة أخرى .. بعضها تافة وسخيف .. ونمارسها نحن بعشوائية ، وتلقائية .. لا يسمعون عنها إلا في التلفزيون ..
إنها (قصة) التلفزيون ..
قصة (الاكسسوارات) ، و (الصاحب) ..
و (الحياة) التي لا تنال .. إلا بأثمان باهضة أدناها الكرامة .. وأحدها الشرف ..
وأحيانا كثيرة .. لا تنال ..
مررت مساء الاثنين في زيارة سريعة ، وأنزلت اغراضا ، استشفيت من لقائي الأول أن هناك حاجة ماسة لها .. اشتريت كذلك وجبات (هامبرقر) ..
في هذه المرة لفت نظري شيئا ..
عندمـا كانت تساعد في إدخال الاغراض لاحظت أنها شابة .. كانت أصغر مما توقعت بكثير . كنت أظن أنها على مشارف الاربعين .. ظننت ذلك بناء على عملية حسابية ، أضفت فيها عمر موضي ، إلى سن الزواج المعتاد للنساء .. وتأخر في الحمل ، سنة أو سنتين ، إضافة إلى أشهر الحمل ..
هي في أول ثلاثينياتها قطعا .. وربما لا تزيد على الثلاث والثلاثين . تألمت أن تواجه إمرأة شابة ، في قمة نضجها البدني والعقلي .. هذا الواقع البائس ..
وحدة .. ووحشة .. وبؤس .. وحرمان ..
في مثل هذه المواقف ، يخطر على بالي هاجس ساذج ، اشبه بتصورات الاطفال .. تتملكني حالة من الأسى ، فتشف روحي .. وأبلغ درجة من التسامي والشفافية ، حتى أنني أود لو أكون أبا لكل يتيم .. وزوجا ، أو أخا لكل أرملة ، أو مطلقة .. أو أنثى .. تواجه بؤس الواقع لوحدها .. وتتحسى سم الظلم .. والقهر ، صباح .. مساء ..
،
،
.. ولأنهـا (خواطر طفلية) .. فإن عجز الاطفال يعتريني ، فأعمد إلى البكـاء .. الصامت .
أبكي .. حتى يذوب قلبي من كمد .. وتذوي نفسي ، حتى يرى ذلك في عيني .. اللتان تتحولان إلى بئر هائلة العمق .. لا ترى إلا لجتها السوداء ..
ابتلعت الدمع .. والضوء .. وغاض منها بريق الحياة ..
هكذا هي الحالة التي تلبستني حينما رأيت أم موضي .. أو أم محمد ، كما هي كنيتها ..
ما أقسى الألم .. حينما يكون إمرأة ..
وما أتعس قلبا .. لا يرى العالم .. إلا من خلال إمرأة ..
كأن العناء الذي أثارته موضي لا يكفي ..
ذكرت لها أني سآتي عصر الخميس ، لآخذ الاطفال إلى مركز ترفيهي ، ليتسلوا ببعض الالعاب . حينما جئت يوم الخميس ، كانـوا بانتظاري .. محمد وإبتسام وعبدالالة . سألتهم عن نوف ، فقالوا إن والدتهم لم تسمح لها ، وقالت لها ، أنت كبيرة .. لا يجوز أن تخالطي الرجال . بقدر ما أسفت أنها لن تفرح مثل بقية الاطفال ، في سنها ، إلا أنني ثمنت الموقف التربوي لوالدتها ، وحرصها على أخلاقها .
أخذتهم إلى مركز ألعاب ، وأطلقتهم يلعبون كما يشاؤون .. كنت أطرب حينما يأتي أحدهم ،
ويقول :
"عمي لو سمحت .. خلني ألعب في هذي اللعبة .." ..
كان قلبي يرقص معهم .. وفرحت كما لم أفرح من قبل في حياتي .. وحينما ركبت معهم في إحدى الالعاب ، ومالت بنا .. وظنوا أنهم سيسقطون ، ألتصقوا بي كالافراخ ، إذ تلوذ بأمها ..
في تلك اللحظة شعرت أني كلي صرت قلبا ، يهتز فقط .. ليمنحهم الحياة ..
ولما طوقتني سواعدهم في إحدى المرات .. شعرت أني أعلو ، وأن روحي تتحلل من ربقة الجسد .. فأنا محض روح ..
خرجنا من مركز الالعاب ، وكان قد بقى على صلاة المغرب ما يقرب من ساعة ..
أقترحت عليهم أن نأكل شيئا .. فضجوا ، فرحا وابتهاجا . دخلنا مطعم وجبات سريعة ، وأكلنا ، وطلبت أكلا للذين بقوا في البيت .
،
،
،
كان وقت صلاة المغرب قد حـان ، عندما غادرنا المطعم . صليت أنا ومحمد في مسجد قريب ، ثم أنطلقنا إلى
البيت . عند الباب كانت في استقبالنا .. كان للأطفال صراخ ، وضحكات متقطعة ، وضجيج ..
فتح الباب بعد طرق لم يتعد ثواني .. من خلف الباب سمعتها تلهج لي بالدعاء ..
طلبت مني أن أدخل لأتناول كأسة شاهي .. فاعتذرت لإنشغالي بارتباط .. جاء صوتها ترجوني :
- لن نؤخرك .. إشرب شاهينا .. حتى لو إنه .. (ماهو قد المقام) ..
- أشرب شاهيكم يا أم محمد .. ولا تقولي هذا الكلام مرة أخرى .. فإنه يؤذيني ..
جلست في نفس المكان ، وبعد لحظات جاء الشاهي في صينية معدن متثلمة ، وعليها ثلاث كأسات شاهي ، كل واحدة من صنف مختلف .
جلست أمامي القرفصاء ملتفة بعباءتها .. وبجانبها عبدالاله . وصبت كأسة شاي وناولتني إياها ، بأطراف أصابعها ، وكفها مازالت ممسكة بعباءتها ..
محاولة أن تكسر جمود الصمت بيننا .. قالت :
- كلفنا عليك .. في ميزانك .. إن شاء الله .
- ليس أجمل من ضحكة طفل .. إلا شعوره بالامتنان تجاهك .. لقد ضمتني إبتسام .. دون أن تتكلم .. لو تدرين يا أم محمد .. تطحننا الحياة أحيانا .. بلا رفق ، بإيقاعها السريع .. ونحتاج إلى ضمة كهذه .. لتبتل قلوبنا التي قتلها العطش ..
خرجت من عندهم ، ووعدت بزيارة في مطلع الاسبوع القادم دون أن أحدد وقتا معينا ..
انشغلت يوم السبت ، لكنني جئت في الموعد نفسه مساء الأحد . طرقت الباب وأنا أحمل طعاما ، وبعض الحلويات ..
تأخر الرد هذه المرة .. ثم حينما فتح الباب ، ظهر محمد مترددا .. ناولته الأغراض ، بعد أن سلمت عليه ، وداعبته .. لكنه لم يستجب لدعابتي .. قلت ..
ربما أغضبه أحد .. لكنه أيضا ، لم يستلم الأغراض مني .. وتراجع ، وقال ، وهو يشرع في إغلاق الباب :
- أمي تقول .. لا نريد منك شيئا .. ولا نريد أن نراك ثانية ..
وقفت مشدوها أمام الباب ..
ما الذي حدث .. خاطبت نفسي ..؟
تركت الأغراض في مكانها ، وعدت إلى سيارتي أجر خطواتي جرا ..
شعرت أني مكلوم الفؤاد ..
مثل عاص طرد من الرحمة ..
ركبت سيارتي ، لكني عجزت عن تشغيلها ..
عدت إلى الباب ثانية وطرقته .. وألححت في الطرق .. فجاءني صوتها من وراء الباب:
- أرجوك أن تدعنا وشأننا ..
- لن تريني ثانية .. خذي الأغراض التي عند الباب .. إنها للأطفال .. أرجوك ..
لم أنم تلك الليلة .. قلبني الهم والوجع ..وتعذبت ..
شعرت كأنما دخلت التيه من جديد .. كطفل فقد أمه في زحام ..
فارغ القلب .. فارغ العينين .. يصرخ .. وصوته ضائع في الضجيج ..
سيطر علي إحساس أن الأمر له علاقة بموضي .. في الصباح الباكر إنطلقت ، قبل أن يبدأ الطلاب والطالبات الخروج إلى المدارس ..
جلست أرقب البيت من بعيد .. كلهم خرجوا إلا هي ..
من الغد .. صباح الثلاثاء ، فعلت الشئ نفسه .. لم تخرج موضي ..
بعد المغرب كنت عند الباب . طرقت .. جاء الرد بأسرع مما توقعت ..
كانت إبتسام هي التي فتحت ، يضيء وجهها بابتسامة ، شعرت بوهجها يلمع في عيني ..
- ماما .. محمد عند الباب ...
سمعت الصوت يأتي من الداخل ...
- أغلقي الباب ... يا بنت ..
كان معي في جيبي حلاوة ، فأخرجتها ، ولوحت بها لإبتسام ..
فجاءت تركض نحوي ..
طبعـت على جبينها قبلة ، وأعطيتها الحلاوة .. وأخذت أمازحها .. استبطأت أمها عودتها ، فجاءت إلى حيث الباب ، فرأتها معي .. صرخت :
- تعالي يا بنت ..
ثم وجهت الكلام لي :
- لم لا تكفينا شرك ..؟
- أم محمد .. أنا سأذهب .. لكن ، ليس قبل أن أعرف السبب ..
- أما تخاف الله .. تستغل حاجتنا .. وضعفنا .. وقلة حيلتنا لتخدع فتاة بريئة ..
أحسست كأنما دق في صدري وتد هائل .. انقبض قلبي وزادت دقاته .. وعجزت أن اتنفس .. وشعرت بحاجة للجلوس .. فارتميت على عتبة الباب ..
وخانني الدمع .. فتفجرت عيناي ..
رفعت وجهي إليها ، الذي غدا ، والدمع يملؤه ، كغدير ماء ضحل خاضت فيه السنابك ..
- إتق الله .. فأنا لا أتحمل مثل هذا الكلام .. ولن أغادر عتبة بابك حتى أعرف القصة كاملة ..
كأنما شكت فيما لديها ، مما تعتقد أنه (حقائق) ، وهي ترى الألم .. والذهول .. والصدمة .. تتصبب من قسمات وجهي صبا ..
أو هكذا ظننت ..
- تفضل ..
دخلت وأخذت مكاني المعتاد في المجلس .غابت عني دقائق ثم عادت ومعها موضي .. ووقفت أمامي .. ثم قالت ، وهي تشير إلى موضي بصوت مملوء بالغضب ..
- ما قصة هذه الملعونة ..؟
ثم لطمتها لطمة أطارت غطاء وجهها ..
كان مشهدا صدع قلبي .. ذلك الوجه اللؤلؤي البديع غدا كقطعة كهرمان .. من الكدمات السود التي انتشرت فيه ، نتيجة لتعرضه لضرب قاس وعنيف ..
إلتقطت موضي غطاء وجهها ، ولحظتني بطرف كسير .. أتى على البقية الباقية من نفسي .. ثم قبعت عند الباب .. كما أمرتها أمها ..
حكيت لها قصتي مع موضي كلها .. ثم قلت :
- أريد أن أحدثك حديثا خاصا .. قبل أن أمشي ..
أشارت إلى موضي بالانصراف ..
- البنت طفلة بريئة .. ضحية ظروف كثيرة ، لا تستحق هذه القسوة .. والقسوة لا تحل مشكلة ..
إن كانت موجودة ..
هي قد ارتكبت خطأ .. نعم .. لكن تم تداركه والحمد لله ..
- محمد ..
هكذا نادتني .. باسمي مجردا .. والبكاء يغلبها ..
إنها لحظة الضعف البشري .. التي تنسى كل (البروتوكلات) ..
لحظة .. يتحول الانسان كله إلى ما يشبه (يد) غريق .. تمتد من خلال الموج .. لتتمسك بأي قشه ..
- أنت لا تعرف أي شئ مثلت لي خلال هذا الأسبوع ، قبل أن أكتشف قصة موضي..
زوجي مات في السجن .. وهو قبل أن يموت فعلا .. كان بالنسبة لنا ، فـي عداد الاموات ..
تورط في تعاطي المخدرات ، ثم ترويجها .. وانتهى النهاية المتوقعة لسلوك مثل هذا ..
وأنا إمرأة ضعيفة .. أم بنات .. مشلولة الارادة .. مستهدفة .. أعيش حالة من الذل مستمرة .. إن ذهبت للبقالة .. لا يخلو خطاب العامل الهندي لي من تلميحات .. إن سرت في الشارع .. كل الرجال يعتقدون أني مستعدة لتقديم شيء ..
قبل أن أتوقف عن الذهاب إلى (الذل الجماعي) الذي يسمونه (الضمان الاجتماعي) .. كنت أعاني العذابين .. لو لم يكن فيه من بلاء إلا مكانه .. لكان يكفي ..
في ذلك البناء المتهالك في (الغرابي) .. حيث طوابير العمال .. نظراتهم الجائعة .. تنهش جسدي .. أتعثر مرة .. وأقوم أخرى .. لأعود بفتات تافه حقير .. لا يكفي دفاتر ، ومراسم لهؤلاء الاطفال ..
ثم وصلـت إلى لحظة من الضعف .. فبدأت تبكي كالاطفال .. وحاولت أن تتكلم ، فلم تقدر.. شعرت أن جوارحها كلها تصرخ .. وتتدافع إلى حنجرتها ،لتأخذ دورها في الشكوى ..
ثم قالت ، وهى تنتزع آهة من أعماقها .. وبصوت يشبه العويل :
- لا يمر أسبوع إلا وتمر علي (أم سعد) .. تغريني كثيرا .. وتهددني بخطـف بناتي أحيانا ..
- من هي أم سعد ..؟
- قواده ..
وحاولت أن تستمر ، لكن غلبها البكاء .. فتوقفت .. وأخذت تنشج ، حتى ابتل غطاء وجهها ..
استأنفت الحديث ، بعد أن تمالكت نفسها :
- قواده ..
تقول لي .. مـرة في الاسبـوع .. أربعـة ألاف ريال في الشهر .. ومصروف جيب للأولاد .. و "تحبين يدك مقلوبة" ..
بسرعة ترى شبابك ينقص كل شهر .. وليس كل سنة ..
حقيقة .. لم استطع أن أتكلم .. أو أعقب ، واستمرت هي في الكلام ..
- في كل مرة تجيء بسيارة أحسن من التي قبلها .. آخر مره قالت لي :
"إسمعي نصيحتي يا ساره ، إذا أنت مبسوطة من عيشة النكد والفقر التي أنت فيها .. (حرام) تحرمين موضي من فرصتها .. موضي بنية حلوة .. وكثيرون سوف يدفعون ..
لقد كاد أن يصيبني الجنون ، عندما اكتشفت قصة موضي بالصدفة .. قلت .. أكيد صادتها (أم سعد) .. أنا أعيش كابوس اسمه (أم سعد) .. الله يلعن القوادات ..
أنا من يفكني منها ..؟
من يفكني ..؟
تلومني يا محمد إذا طردتك ..؟
تلومني إذا (كفرت) بالبنت .. وضربتها بهذا الشكل ..؟
في البداية .. قلت ، أنت نازل علي من السماء .. ثم لما غلطت موضي ، وقالت لإخوانها أنها أكلت في
مطعم .. حسبت أنك .. حاشاك .. من (كلاب) أم سعد ..
استمرت تتكلم وأنا مطرق رأسي .. عقدت لساني الصدمة .. وأخرسني الألم ..
وأخذت أشعر أني أتضاءل أمام معاناتها .. تتشبث بي .. وأنا أفكر بالفرار ..
لا أستطيع أن أتحمل معاناتها .. وأشعر بالعجز حيال ما تواجهه ..
كيف (أفكها) من أم سعد ..؟ كيف أساعدها ..؟
كيف استطيع أن أقف معها ..؟ وإلى متى ..؟
بين كل عبارة وأخرى تكرر ..
"حنا محتاجينك" ..
وأنا قد سيطر علي تفكير واحد .. أن أنسحب ..
أن أهرب .. إلى عالمي (الأناني) .. البليد ..
أفكر بربطها بإحدى المبرات الخيرية .. وأخرج من عالمها .. وأرتاح ..
قلت .. وأنا أنهض :
- أستأذن يا أم محمد ..
- ستتركنا ..؟
- سأسعى لوضع ترتيب لكم مع إحدى الجمعيات الخيرية ..
- نحن لا نحتاج خبزا وزيتا ..
ثم أضافت والعبرة تخنقها ..
نحتاج إنسانا يقف بجانبنا ، ويحمينا ... نحتاجك ..
وأجهشت بالبكاء ..
- أنا شخص مشغول .. وأنتم بحاجة إلى جهة تلتزم تجاهكم بكل شئ ..
- ستتركنا ..؟
انتزعت الكلمة هذه المرة ، من أعماقها ، والدمع يكاد يشرقها ..
- من الأفضل لك أن أبتعد .. ترددي عليكم قد يثير حولك أقوال .. أنت بغنى عنها ..
قلتها ، وأنا قد امتلأت بالدمع حتى فاض ، أو كاد أن يفيض .. من عيني ..
- لكننا نريدك ..
ثم أضافت .. :
- كل الناس حولي هنا لا يسلمون من كلام مثل هذا .. قدر المحرومين ، والبؤساء أن يحرموا حتى من السمعة الطيبة .. لكن ، أنت شيء مختلف ..
- .....
لم أرد .. وكنت ما أزال واقفا .. حينما ألقت علي عرضا مثل القنبلة :
- أزوجك موضي ..
فاجأني كلامها .. فلم أدر ما أقول .. ولم تعطني فرصة للتفكير .. فأضافت :
- أنا أعرف ماذا يدور في ذهنك .. صحيح نحن لسنا (قبائل) .. كما يقولون .. لكن الحمد لله .. محافظون على أخلاقنا .. وديننا ..
ثم .. إذا لم نكن (قبائل) .. وهذا قدرنا .. ماذا نفعل ..؟
ونحن .. كذلك .. لم ننزل من القمر ..
أحسست بالدوار ، والغثيان .. والمقت ، وتذكرت صديقا لي ، دائما ما يفخر بقبيلته ، ويتحدث عن (أمجادها) العريقة .. وكثيرا ما يستهجن موقفي المتميع ، كما يقول ، من قضية الخضيري والقبيلي .
قال مره ، وقد جمعنا مجلس : "فلان تزوج خضيرية .. الله يخلف على الأصول" ..
صاحبي هذا .. (الاصيل) .. شقيقه متزوج من أمريكية ..
قلت له :
- نايـف .. أنا مللت هذه الاسطوانة القبيحة .. التي لا تفتأ ترددها علينا باستمرار .. أنت تعلم ، من واقع معرفتك بالمجتمع الامريكي ، أن كل فتاة أمريكية .. إلا في القليل النادر ، لابـد أن تكـون لها علاقات جنسية قبل الزواج .. وربما عاشرت أكثر من شخص ..
وتعلم كذلك أن هناك نسبة من الامريكيين يولدون سفاحا ، إما نتيجة علاقات جنسية قبل الزواج ، حيث لا يتم الزواج بين والديهم إلا بعد ولادة الطفل الأول .. أو الثاني .. أو يولدون من علاقات عابرة .. وما أكثر حمل المراهقات في المجتمع الامريكي ..
أين (الأصالة) .. التي تتحدث عنها .. أو يتحدث عنها أولئك الذين يجوبون مدن العالم يلتقطون النساء من حاراتها الخلفية .. يتزوجونهن .. لا يعرفون لهن أصلا .. ولا فصلا ، ولا نسبا (عريقا) ..
.. وإذا ما تربعوا في المجالس تحدثوا عن الشريفات .. العفيفات :
"هذه خضيرية .. ليست أصيلة .." .
أذكر أنه غضب مني .. وخرج من المجلس ، ولم يعد يحدثني بعدها .. لكنني كنت مرتاح الضمـير .. لأنني شفيت صـدري ..
من واحدة من أكثر تناقضات مجتمعنا ، قبحا .. وغباء ..
لم يكن لدي شيء اقوله لها .. وأستدرت خارجا ..
قبل أن أصل الباب الخارجي سمعت صوت عبدالإله خلفي .. يناديني :
- محمد .. محمد .. وهو دائما يناديني هكذا ، باسمـي مجردا من أي لقب .. ألتفت إليه .. فالتقـت عينانا ، أنا بما بقى لي من نظرة واهية كسيرة .. خضبها الدمع .. وأضناها الألم ..
وهو بنظرة اختزلت ذل اليتم .. والعجز .. والحاجة ..
ونقاء الطفولة .. إذ يشرع القلب لها أبوابة .. بلا مقاومة ..
قال :
- صحيح .. أنت قلت أنك سوف تخرج بنا إلى البر .. نلعب كوره ..؟
- صحيح يا حبيبي ..
- متى ..؟
عند هذه اللحظة كان العناء .. والألم ، والصراع النفسي ، قد بلغ لدي درجة ، صرت أشعر فيها أنني قد تحولت إلى كتلة من الدمع والأنفس الحرى .. وأنني أحتاج إلى صدر لأدفن فيه رأسي .. وأبكي .. ثم أبكي .. ثم أبكي .. قلت له :
- الآن يا حبيبي ..
أقتربت منه .. وجلست أمامه وأخذته إلى صدري .. وضممته ..
ثم وضعت رأسي على كتفه .. وبكيت ..
لا أدري كم بكيت .. لكنه استسلم لي .. ومنحني كفا .. مسح بها رأسي .. وعبث بها شعري ..
وسلمني كتفه لأبكي عليه ..
حينما أفقت من سكرة الألم هذه .. ورفعت رأسي .. كانت إبتسام واقفة قريبا منا ، في عينيها دمعتان .. وألقيت نظرة على وجه عبدالاله .. كان الوجه الصغـير مخضلا بالدموع ..
من داخل البيت كان صوت جهاز التسجيل يأتي ، محملا بكلمات أغنية .. تقول :
أحبك .. لو تكون ظالم ...
أحبك .. لو تكون هاجر ... أحبك .. لو تكون غادر ..
وأمشي معاك .. للأخر ... أنا أمشي معاك .. للآخر ..
لم يكن قلبي بحاجة لمثل هذا الكلام .. كان ينزف ..
قلت لإبتسام :
- من الذي يشغل المسجل ..؟
- موضي ..
عرفت أنها توجه لي رسالة ..
- قولي لها تغلقه .. أنا لا أحب سماع الأغاني ..
قبل أن أنهي عبارتي كانت قد انطلقت إلى داخل البيت .. تصرخ في موضي ، تطلب منها إغلاق المسجل .. لأنني "ما أحب سماع الأغاني" .. ثم أضافت من عندها ..:
" وإلا ترى ما نأخذك معنا للبر .." .
ركبنا السيارة جميعنا .. ومررت على أحد المطاعم ، وطلبت لنا عشاء .. ثم توجهت إلى الدائري الشرقي .. في منطقة بين مخرج (9) و (8).. وأخذنا مكانا منعزلا ..
أخرجت بساطا ، أحمله معي في السيارة ، وفرشته لهم .. وأعطيتهم الأكل ، بعد أن أخذت نصيبي ..
مشيت مبتعدا .. وأنا أسمع ضحكاتهم تدوي في أذني .. وتهديدات إبتسام ، بأن الذي لا يسمع الكلام "لن يخرج معنا مرة ثانية" .
كنت قد ابتعدت ، غابت الأصوات .. ولم يبق إلا كلمات الأغنية .. تتردد في ذهني ..
ودقات قلبي .. الذي ما زال ينزف ..
د . محمد الحضيف