منذ عرفت معنى الحياة، وهي لا تعرف سواه .. هو زوجها وحبيبها، وقبل كل شيء ابن عمها .. كان اختيار أهلها واختيارها كذلك .. وافقت عليه بلا تردّد .. وافقت مع أنّه ما يزال طالباً يأخذ مصروفه من والده .. تزوّجا، ولم ينتظر، طار بها إلى أمريكا بلاد الحرية والأحلام مثلما يظن ليكمل دراسته .. هناك… معه تحرّرت ممّا يغطّيها ويحجبها عن الأنظار، لقد عرف هواء الشوارع الطريق إلى وجهها، وصار يداعب خصلات شعرها!! هو لم يمنعها… بل لماذا يمنعها؟! هو لا يرضى أن يقال عنه رجعي في بلد متقدم .. أنجبت أحمد طفلها الأول، لقد قلب موازين حياتهم، إنّه فرحتهما الأولى، أصبح يأخذ كل وقتها .. لم تعد تشعر بالملل حين ينشغل عنها أبو أحمد بدراسته .. تغيّرت أمورها أكثر حين تعرّفت على أم عمر .. كانت امرأة متحجبة ذات خلق ودين .. أيام الغربة جمعتهما، همومهما الصغيرة مشتركة، الزوج والطفل، فأم عمر كان لها طفل واحد .. اطمأن أبو أحمد لتلك العلاقة التي بدأت تنمو بين زوجته وزوجة صديقه الحميم .. أصبحتا تخرجان للتسوق معاً .. كانت أم أحمد في البداية لا تهتم بما ترتديه حين خروجها، بدأت تلاحظ مدى اهتمام أم عمر بحجابها، تعاملها مع الباعة كان في حدود ضيقة .. جعلها ذلك تزداد احتراماً لها، أحست باختلاف بينهما، بدأت تنظر لأم عمر بعين أخرى. ** ** ** ** ** - هيّا يا أم أحمد، لقد تأخرنا.. صاحت من غرفتها… - لحظات وأنتهي.. أخيراً ظهرت أم أحمد، هي الآن مستعدة للذهاب لتناول العشاء، نظر إليها أبو أحمد مليّاً… - لماذا تنظر إليّ هكذا؟! وكأنك تراني للمرة الأولى!. - متأكدة أنّك أم أحمد. - لا أم سلطان!!!!!!. ضحك قائلاً… - ما هذه الموضة الجديدة؟!. - موضة!!! إنه حجابي وليس موضة.. - هل قالت لكِ أم عمر شيء؟! هل انتقدت ملابسك… مظهرك؟! - لا… لم يحدث من هذا شيء، بالعكس لم أصادف يوماً من هي في أدبها الجم وأخلاقها العالية.. ردّ مستغرباً… - ما الحكاية إذن؟! (ثم أكمل) عموماً لن أغضب إن خلعتِه .. لم يكد ينتهي من آخر كلمة حتى سقطت دموعها، تورّدت وجنتاها، واحمرّت أرنبة أنفها، هي المرة الأولى التي يرى دموعها منذ تزوّجا .. حاول تدارك الموقف، قال لها: - عزيزتي… لماذا البكاء؟! هل أزعجتك؟! ضايقتك بكلماتي؟!. هزّت رأسها نافية… - إذن لماذا هذه الدموع؟! لأول مرة يحس أبو أحمد أن زوجته مريم صغيرة، فهي لم تتجاوز الـ18 من عمرها، قطع تفكيره بكاء أحمد، مسحت مريم دموعها وأمسكت بابنها محاولةً تهدئته .. بعد هدوء أحمد، قال لها: - هل أستطيع الآن أن أعرف سبب دموعك تلك؟! لم ترفع وجهها، قالت له بهدوء… - إنّه عدم غضبك .. استغرب منها… - سبحان الله! تبكين لعدم غضبي!. مرّت لحظة صمت ثم أكمل مازحاً محاولاً تلطيف الجو… - ماذا كنتِ ستفعلين إن غضبت؟! لم ترد عليه… - مريم صارحيني… ما بكِ؟! - كل ما في الأمر أنّي انتبهت فجأة إلى شيء كنت غافلة عنه منذ أتينا إلى هنا .. - غافلة!! غافلة عن ماذا؟! مريم أنتِ لم تهمليني كي تقولي هذا الكلام .. لم أشعر منكِ تقصيراً .. أنتِ تقومين بواجباتك المنزلية على خير ما يرام.. - عزيزي… لم أقصد هذا. - إذن ماذا تعنين؟! أريد أن أفهم. - علي هل جلبنا معنا مصحف؟! أجاب متردداً… - على ما أعتقد نعم. - أين هو؟! - لا أذكر… ربّما في الدولاب أو المكتب… أو الحقيبة… ظلاّ ساعةً كاملة يبحثان عنه في الشقة حتى عثر عليه علي. - ها هو… لقد وجدته. حين اقترب منه ليلمسه… صاحت به: - لحظة لا تلمسه. - لماذا؟! - هل أنت على وضوء؟! حين سمع سؤالها أبعد يده عنه… أمّا هي فأمسكت به. مسحت ما عليه من غبار قائلة: - لا تخف فأنا على وضوء. ثم أكملت… - منذ وصولنا وأنا أحس أنّي إنسانة أخرى، ليست مريم التي أعرفها. رغم سعادتي معك إلاّ أنّي أحس بفراغ يملأ روحي، حتى بعد قدوم أحمد لم يفارقني ذلك الإحساس .. لكن حين تعرفت على أم عمر عرفت سر الفراغ أو الخواء الروحي الذي كان يتملّكني دائماً .. إنّه البعد عن الله… كان يتأملها وهو غير مصدق أن هذه التي تتحدث زوجته، استوقفته كلماتها، وأنصت لها… - علي منذ قدومنا لم نعد نهتم بالصلاة، القرآن هجرناه، عباءتي خلعتها، وشيلتي نسيتها منذ حطّت قدماي المطار.. كانت تلك الأمور شيء عادي بالنسبة لي ولك، وهي لم تكن كذلك يوماً .. مرّة صحبتني أم عمر إلى إحدى الأخوات الأمريكيات المسلمات .. لا تعرف يا علي كم أحسست بالخجل أمامها! الفرق شاسع بيننا ولا مجال أمامنا للمقارنة .. نظر إليها علي، لكن هذه المرة اختلفت نظرته لها… وقف، سألته مريم… - إلى أين؟! - سأتوضأ لأصلي، عسى الله أن يغفر لي السنوات التي فرّطتها في غربتي .. سقطت دمعة حارة بلّلت حجابها الجديد، وهي تردّد… - الحمد لله… الحمد لله… ** ** ** ** ** ربِّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء .. ربِّ لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .. هذه القصة من إبداع إحدى الأخوات جزاها الله خير الجزاء