فيلسوف وعالم وطبيب ومفكر تبوأ مكانة مميزة بين أقرانه من العلماء، وله كنز ضخم من المؤلفات، تولى القضاء في كل من أشبيلية وقرطبة، وقام بشرح كتاب أرسطو فأجاد في ذلك، وأصبح له الفضل في انتشار فلسفة أرسطو بين دول أوروبا في العصور الوسطى، وأطلق عليه الشاعر الإيطالي دانتي لقب "الشارح الأكبر".
النشأة
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ولد عام 520هـ بقرطبة، وينحدر من أسرة عريقة في الأندلس، فكان جده أبو الوليد محمد بن رشد يتمتع بشهرة فائقة في كل من الأندلس وبلاد شمال إفريقيا وذلك نظراً لفتاويه وخدماته السياسية والاجتماعية فكان الناس يلجأون إليه لسداد رأيه وحكمته، وقد ولي الجد القضاء بقرطبة ومثلما كان الجد كان الوالد فقد تولى هو أيضاً منصب القضاء وكان له حظ وافر من العلم.
الحياة العلمية والعملية
جاء ابن رشد لينتهج منهج الجد والوالد في العلم والمناصب فدرس القرآن الكريم، ثم درس الموطأ للإمام مالك واطلع على فقهه، وحصل العلوم العربية والإسلامية، وأقبل على دراسة الطب على أبي جعفر بن هارون، كما درس الفلسفة والحكمة وعلم الكلام والرياضيات والمنطق وأنكب على الكتب يقرأ وينهل من العلوم المختلفة.
وقد اتصل ابن رشد بكبار مفكري وعلماء عصره مثل الفيلسوف والوزير ابن طفيل، وكان على صلة وثيقة بالطبيب ابن زهر، كما اتصل ابن رشد بأسرة الموحدين وذلك عندما رحل إلى مراكش عام 548هـ بناء على دعوة من عبد المؤمن بن علي أول ملوك الموحدين وذلك ليدلي برأيه في إنشاء عدد من المدارس بمراكش.
شرحه لكتاب أرسطو
زاع صيت ابن رشد عقب قيامه بشرح كتب أرسطو، هذه المهمة التي أسندت إليه وأنجزها على أكمل وجه، وقد أخذت منه هذه الشروح الكثير من الوقت والجهد في سبيل إعدادها بشكل وافي متكامل، وساعد ابن رشد في إتمامها فهمه العميق لفلسفة أرسطو.
لم يكن ابن رشد يجيد اللغة اليونانية ولذلك لم يقرأ فلسفة أرسطو من مصادرها الأصلية، فقرأها من ترجمات غلب عليها التحريف والتشويه ولكنه تمكن بخبرته الفلسفية أن يتوصل إلى الكثير من الآراء الصائبة عن طريق المقارنة والمقابلة التي أجراها في سبيل فهمه لهذه الآراء والنصوص، وكان ابن رشد يتبع في شرحه مناهج معينة منها الشرح الأكبر وفيه أورد ابن رشد فقرة من كلام أرسطو وذكر شروحه عليها، أما المنهج الثاني فهو الشرح الأوسط وفيه اكتفى بعرض مطلع الفقرة فقط ثم بدأ في الشرح، أما الثالث فهو الشرح الأصغر وقام فيه بعرض كتاب أرسطو عرضاً حراً يحذف منه أو يضيف إليه، وفي الأخير قام بالموازنة بين كل من آراء أرسطو في الكتاب المشروح وآرائه هو في كتبه الأخرى، وخرجت شروحه في النهاية بعد الكثير من الجهد ليستفيد منها العالم بأسره.
واشتهرت شروح ابن رشد في غالبية الدول الأوربية، كما انتشرت فلسفته، وأطلق عليه دانتي في الكوميديا الإلهية لقب "الشارح الأكبر".
في رعاية الخليفة
تمثال لابن رشد بقرطبة
كان لابن طفيل الطبيب والفليسوف الفضل في اتصال ابن رشد بالخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن والذي عرف عنه اهتمامه بالعلم والعلماء وتقريبهم منه، بالإضافة لاهتمامه بجمع كتب العلم والفلسفة من أقطار المغرب والأندلس.
تقرب ابن رشد من الخليفة أبي يعقوب والذي أراد اختباره ذات مرة في أحد المسائل الفلسفية، فارتبك أبن رشد في بادئ الأمر ثم طمأنه الأمير وفتح أمامه المجال للحديث، فانطلق ابن رشد في شرح ما سئل فيه، فنال إعجاب الخليفة الذي اسند إليه بعد ذلك مهمة شرح كتاب أرسطو، كما قلده منصب القضاء بإشبيليه عام 565هـ، وظل ابن رشد في هذا المنصب لمدة عامين قبل أن يعود مرة أخرى إلى قرطبة ويتابع شروحه في كتاب أرسطو.
حظي ابن رشد بمكانة مميزة عند الخليفة والذي كان يستعين به للقيام بعدد من المهام الرسمية، وفي إطار ذلك تنقل ابن رشد بين كل من مراكش وإشبيليه وقرطبه، مهمة أخرى أوكلها إليه أبو يعقوب عندما دعاه إلى مراكش ليكون طبيبه الخاص، ثم ولاه منصب القضاء بقرطبة.
كثرة الحاقدين
نال ابن رشد مكانة عظيمة في عصره وذلك لعلمه أولاً ثم المناصب التي تقلدها وقربه من الخليفة أبي يعقوب يوسف، واستمرت مكانة ابن رشد المميزة بل أنها زادت عقب وفاة الخليفة أبو يعقوب يوسف وتولي ابنه أبو يوسف المنصور الحكم، فقربه الأمير منه ورفعه وميزه، وكما زادت مكانة ابن رشد زاد الحاقدين والخصوم من الفقهاء الذين كانوا ناقمين على الفلاسفة والعلماء يريدون الإطاحة بهم وإبعادهم وذلك لكي يستعيدوا المكانة التي كانوا يحظوا بها أيام حكم المرابطين.
وقد ظل حقد هؤلاء يسعى وراء ابن رشد حتى نجحوا في الكيد له عند الأمير، واتيحت لهم الفرصة عندما حضر الخليفة المنصور إلى بلاد الأندلس لمحاربة جيوش ألفونس ملك الأسبان عام 591هـ ، وعندما وصل الأمير عقب انتصاره أمر باعتقال ابن رشد ونفاه إلى أليسانة وهي قرية كانت لليهود واحرق كتبه، وأصدر قراراً للمسلمين بمنع قراءة كتب الفلسفة أو التفكير في الاهتمام بها وهدد بمعاقبة من يخالف أمره.
وبعد أن نفي ابن رشد لفترة أصدر الخليفة قراره باستدعاء ابن رشد إلى مراكش والعفو عنه عام 595هـ إلا أن ابن رشد لم ينعم بالعفو كثيراً حيث جاءت وفاته في نفس العام، فدفن في مراكش ثم نقلت رفاته بعد ذلك إلى مسقط رأسه بقرطبة.
محنة ابن رشد
تباينت أراء المؤرخون حول الأسباب التي أدت لمحنة ابن رشد بعد المكانة التي حظى بها في عصره، فقد أرجع البعض سبب غضب الأمير عليه إلى تبسطه في الحديث مع الخليفة، وارجع البعض الأخر السبب إلى ميل ابن رشد إلى حاكم قرطبة والذي كان أخاً للمنصور أبي يوسف، وسبب أخر ذكره المؤرخون هو أن أعداء ابن رشد الذين حسدوه لمكانته ورفعته في بلاط الخليفة قد دسوا عليه بعض العبارات التي تشهد بإلحاده، فقيل أنه أنكر بعض ما ورد من القصص عن الأمم التي خلت وجاء ذكرها في القرآن الكريم.
ومما يؤكد الرأي الأخير أن المنصور عاد مرة أخرى فعفا عنه وأحسن إليه، ولو كان السبب في غضب الخليفة إليه يرجع لإلحاد ابن رشد وإنكاره لقصص الأولين التي وردت في القرآن الكريم ما كان عفى عنه الخليفة.
الإرث العلمي
ترك ابن رشد كم هائل من الكتب والمؤلفات والتي تعتبر إرث علمي قيم لمن يأتي من بعده من العلماء، قال ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء أنها خمسون كتاباً، وذكر رينان أنها ثمانية وسبعون بين كتاب ورسالة، وضاع جزء كبير من كتب ابن رشد نتيجة للزمن والمحنة التي مر بها ونتج عنها حرق عدد من كتبه وإتلافها.
وتنقسم كتب ابن رشد إلى قسمين الأول يضم شروحاته لأراء فلاسفة اليونان وكتبهم مثل أفلاطون، وجالينوس وأرسطو وبطليموس، أما القسم الثاني فيضم المصنفات المبتكرة في الفلسفة، وكتابه الكليات في الطب والذي أتى منافساً لكتاب القانون لأبن سينا.
نذكر من شروحاته وملخصاته: جوامع سياسة أفلاطون "تلخيص كتاب الجمهورية"، ومن الكتب المشروحة لأرسطو جامع الطبيعيات والإلهيات " لخص قسماً من الحيوان"، وتلخيص عدد من الكتب مثل المنطق، البرهان، السماع الطبيعي، السماء والعالم، العقل والمعقول، الكون والفساد، الآثار العلوية، الخطابة وكتاب الشعر، ما بعد الطبيعة، الأخلاق، النفس، وشرح عدد من الكتب مثل القياس، البرهان، النفس السماء والعالم، السماع الطبيعي، تفسير ما بعد الطبيعة، ومن الكتب المشروحة لإسكندر الفردوسي شرح مقالة في العقل.
وله العديد من الشروحات، والتلخيصات الأخرى مثل تلخيص كتاب الإلهيات لنيقولاس الدمشقي، تلخيص كتاب المجسطي في الفلك لبطليموس، تلخيص كتاب القوى الطبيعية وكتاب العلل والأمراض وكتاب الحميات وكتاب المزاج لجالينوس، وتلخيص المقالات الخمس الأولى من كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، وتلخيص كتاب الأسطقسات لنفس المؤلف.
مقالة في ما خالف الفارابي لأرسطو في كتاب البرهان من ترتيبه وقوانين البراهين والحدود، الفحص عن مسائل وقعت في العلم الإلهي في كتاب الشفاء لابن سينا، الرد على ابن سينا في تقسيمه الموجودات إلى ممكن على الإطلاق وممكن بذاته وإلى واجب بغيره وواجب بذاته، شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، مختصر المستصفى للغزالي، شرح رسالة اتصال العقل بالإنسان لابن باجة.
أما كتبه التي ألفها في الفقه وعلم الكلام والمنطق والجدل الفلسفي فهي:فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، شرح عقيدة المهدي، الضروري في المنطق وغيرها الكثير.
تهافت التهافت
كتابي ابن رشد والغزالي
يعد كتاب ابن رشد "تهافت التهافت" هو أحد الكتب الهامة التي وضعها للرد على كتاب أبي حامد الغزالي "تهافت الفلاسفة" فقد وضع الغزالي كتاب "مقاصد الفلاسفة" والذي قام فيه بعرض مذاهب الفلاسفة والرد عليها وبيان تهافتها، ثم قام بتفنيدها في كتابه الأخر "تهافت الفلاسفة" والذي وصف فيه الفلاسفة بالتناقض في الرأي والظن السوء بالله، مظهراً قصورهم عن إثبات الحقائق نفسها بقوة البرهان، كما حاول إبطال ما يدعون وتوضيح ضعف عقيدتهم، وذلك بأسلوب جدلي يستند للدين أحياناً وللفلسفة أحياناً.
وقد رد ابن رشد على كل هذا من خلال كتابه "تهافت التهافت" فوصفه بالقصور والتشويش على الفلاسفة، فقد تحدث ابن رشد في هذا الكتاب عن التوفيق بين الدين والفلسفة وعن الفلسفة الطبيعية والفلسفة الإلهية، وقد استعمل ابن رشد نفس الاسم الذي استعمله الغزالي لكتابه إلا أنه لم يضفه إلى الغزالي فيقول "تهافت الغزالي" كما قال الغزالي "تهافت الفلاسفة" ولكنه اسماه "تهافت التهافت" لأن هذه التسمية قد تعني تناقض الغزالي في جانب من جوانبه.