فى ركن صغير من صفحة الحوادث فى «أهرام» الثلاثاء الماضى نُشر خبر يقول إن وزارة الصحة امتنعت عن تنفيذ حكم يقضى بإعادة الشاهدة الرئيسية فى قضية توريد أكياس الدم الفاسدة إلى عملها بعد نقلها تعسفيا منه. كانت السيدة سهير الشرقاوى هى صاحبة الفضل فى الكشف عن تلك الفضيحة التى كان بطلها نائب الحزب الوطنى، عضو لجنة السياسات، هانى سرور. وقد رفضت أن تأكل السُحت وعَفَتْ نفسها عن الحرام وأبلغت الرقابة الإدارية. فى بلد يكافح الفساد، سوف يجرى تكريم تلك الموظفة، وسوف تُمنح فضلا عن الرفيع من الأوسمة والنياشين، مناصب نافذة تساعدها على تعقب الفساد وكشف الانحراف، على أن الوضع فى مصر ليس كذلك. جرى التنكيل بها، فنقلت من عملها إلى مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية– باعتبار النزاهة مرضاً نفسياً يتعين علاجه- ودخلت إلى نفق جهنمى لا يبدو ثمة أمل فى الخروج منه. أقامت دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى فأنصفتها وأعادتها على رأس عملها. رفضت الوزارة تنفيذ الحكم، اعتصمت فى الوزارة ثم فى الحزب الوطنى فوعدوها بأن يُعِيدُوها إلى عملها، ولكن متى كان الحزب الوطنى يفى بالوعد؟ ولم تجد فى النهاية إلا النيابة الإدارية تلجأ إليها طلباً للإنصاف فمن يدرى؟ فى شركة تتبع البنك الأهلى المصرى هى مؤسسة «إنفوكو» لم يترك رئيس اللجنة النقابية أحمد غازى جهة قضائية أو سياسية إلا وتقدم إليها بالشكاوى حول شبهات فساد واسع النطاق أدى إلى أن تخسر المؤسسة سبعة عشر مليونا من الجنيهات فى عام واحد، فلم تحظ شكاواه بأى عناية، قامت الإدارة بفصله من عمله مع سكرتير اللجنة النقابية رمضان مرسى، ويقف الرجلان اليوم وحيدين أمام غول الفساد، الذى يستعد للإجهاز عليهما. حتى رجال الأعمال الذين يتصدون للفساد يواجهون معارك كسر عظم، فبعد أن أبلغ صاحب شركات الريف الأوروبى عبدالله سعد عن الفساد فى وزارة الزراعة، وقُبض على مستشار الوزير أحمد عبدالفتاح متلبساً بتقاضى رشوة، تعرض رجل الأعمال النزيه إلى حملة من داخل الوزارة أطاحت باستثماراته أو كادت عقاباً له على ما قام به، وتخويفا لغيره من القيام بمثل ما قام به. أصبح الإبلاغ عن الفساد فى مصر طريقا معروفة نهايته، فالفساد ليس جريمة فردية، وكلما زاد حجمه زاد عدد المنخرطين فيه والمستفيدين منه. لا أعرف السبب الذى من أجله تتراخى الحكومة المصرية فى تنفيذ التزاماتها بحماية الشهود وفقا لما نصت عليه المادتان ٣٢ و٣٣ من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واللتان تلزمان الدول الموقعة على الاتفاقية– ومصر منها– باتخاذ إجراءات فعالة لحماية الشهود والمبلغين عن الفساد من أى إجراءات تعسفية قد تُتَخذ ضدهم، نتيجة بلاغاتهم هذه، ولكننى أعرف أن الفساد فى ازدياد، فبعد أن كانت مصر تشغل الترتيب السبعين على العالم عام ٢٠٠٥ زاد الفساد، فأصبح ترتيبها المائة وخمسة عام ٢٠٠٧، ثم استفحل أكثر عام ٢٠٠٩، فأصبحت مصر فى المرتبة المائة وخمسة عشرة من أصل مائة وثمانين دولة، ودخلت بذلك نادى كبار الفاسدين. لا أتصور أن البرلمان المصرى بتركيبته الحالية– ولا حتى بالتركيبة التى من المنتظر أن تفرزها الانتخابات القادمة– قادر على إصدار تعديلات تشريعية مناسبة تكفل حماية المُبلغين والشهود فى قضايا الفساد من التنكيل والملاحقة، ولكننى أتصور أنه حتى فى حدود القوانين الحالية يمكن اتخاذ عدد من الخطوات لحمايتهم. أولى تلك الخطوات هى إنشاء جهاز مشترك بين الشرطة والنيابة العامة لحماية الشهود، يكون من ضمن صلاحياته توفير الدعم والمساندة لهؤلاء الشرفاء إما بالبحث عن وظائف مناسبة بعيدا عن الأماكن التى حاربوا الفساد فيها، وإما بتوفير دعم معنوى لهم عن طريق متابعة أحوالهم، للتأكد من أن أوضاعهم بعد الإبلاغ ليست أسوأ من أوضاعهم قبله، ومن الممكن أن يتلقى المبلغون عن الفساد بعض المساعدات العينية أو المادية من هذا الجهاز، لتوفير الاستقرار لهم إن حاول الفاسدون التلاعب باستقرارهم. أما الخطوة الثانية فهى تشجيع إنشاء جمعيات أهلية يكون هدفها الوحيد رعاية المُبَلغين ومساعدتهم وشرح معاناتهم، ومتابعة أحوالهم، ومحاولة توفير فرص عمل بديلة لهم خارج الحدود، فالشرفاء مازالوا مطلوبين فى أماكن كثيرة لم يضربها الفساد بعد. لابد للشرفاء فى مصر من حُماة، لابد لهم من حماية.. من يحميهم؟