المسيرة التى نظمها عدد من نواب الشعب وقيادات الحركات الاحتجاجية، يوم الاثنين الماضى، كشفت عن حقيقة أساسية تدمغ المشهد السياسى المصرى. وهى أن الحكومة «مش عارفة» تحكم، والمعارضة «مش عارفة» تعارض. فقد أراد منظمو المسيرة أن يتحركوا من مسجد عمر مكرم إلى مجلس الشعب لكى يعرضوا مطالبهم الإصلاحية على أعضائه. ولأن المشاركين لم يستطيعوا السير خطوة واحدة بسبب جحافل الأمن، فقد تحولت المسيرة إلى «وقفة»، ولأن الحكومة تجيد «ترقيص» المعارضة أكثر مما تجيد «الحكم» فقد أفلحت فى زرع الفتنة بين المحاصرين لينقسموا إلى فريقين يهتف أحدهما ضد الآخر!.
والحكومة ترفض المطالب الإصلاحية للمعارضة لأنها تريد أن تكون البطل الأوحد فى الفيلم السياسى المصرى، ولا يهمها ما يترتب على ذلك من قتل وتدمير للعمل السياسى ككل. والدليل على ذلك أن السياسات الحالية التى تنتهجها الحكومة تنبئ عن أن مسؤولى الحزب الوطنى قرروا أن يتم طبخ انتخابات الشورى والشعب بشكل يؤدى إلى حصول مرشحى الحزب على نسبة لا تقل عن ٨٥ % من المقاعد حتى يتيسر لهم «اللعب على الخلا» وأن تطلق الحكومة لنفسها العنان فى تنفيذ مخططاتها لبلع هذا البلد، بما سوف يترافق مع ذلك من تفاقم فى حجم الفساد، وزيادة الاحتكار، وارتفاع الأسعار، وعدم الاستجابة لمطالب الناس فى الحصول على دخل مناسب يحقق لهم ما يستحقونه من حياة كريمة. وفى ظل عدم اهتمام الحكومة بتنفيذ أى مطالب إصلاحية تصبح «البالونة الشعبية»، مهددة بالانفجار فى أى لحظة بشكل يقصف عمرها!.
ولو أن حكومة الحزب الوطنى تفهم فى «الحكم» لبادرت إلى الاستجابة إلى الكثير من مطالب المعارضة حتى تطيل عمرها!. فماذا لو ألغت قانون الطوارئ؟ هل سيمنعها ذلك من القبض على من تحب وقتما تحب؟! إن تاريخ الحكومات المتعاقبة فى مصر – ما بعد الثورة - يشهد على أن عدم وجود الطوارئ لم يعقها عن القبض على خصومها والتنكيل بهم حتى يتوبوا على يد كهنتها!. وماذا لو تم تعديل المادة ٧٦ من الدستور ودخل الدكتور البرادعى أو غيره فى سباق انتخابات الرئاسة؟ هل معنى ذلك أن مرشح الحزب الوطنى، سواء كان الرئيس مبارك أو نجله، سوف يخسر؟ من المؤكد أن الحكومة تعلم أكثـر منا جميعاً أن كل الأمور فى جيبها، لكنها لا تفعل لأنها فاشلة فى «الحكم»!.
ويبدو أن الرئيس السادات، رحمه الله، كان أكثر «حرفنة» فى الحكم، فقد بدأ جمهوريته بإعداد الدستور الدائم للبلاد عام ١٩٧١ الذى نص على أن مدة الرئاسة هى ست سنوات ويجوز إعادة الانتخاب لمدة تالية، مما يعنى أن رئيس الجمهورية يحكم لمدتين فقط. وبهذا السلاح الذى يؤكد تبنى مفهوم ديمقراطية الحكم امتلك السادات أداة استطاع أن يواجه بها خصومه السياسيين الذين عارضوا وجوده على كرسى الحكم عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. وكان هذا التعديل هو السبب المباشر فى منح السادات عمراً أطول فى الحكم، بعد أن كاد يعصف به رجال عبدالناصر.
وقد فعل السادات ذلك وهو مطمئن أشد الاطمئنان إلى قدرته على تغيير هذا النص وقتما يريد، وقد قام بذلك فعلاً عام ١٩٨٠، حين تم تعديل الدستور لينص على حق رئيس الجمهورية فى الحكم لمدد أخرى (مفتوحة). وقد كان من الممكن أن تمر الأمور دون أى مشكلة لولا الخطأ الذى ارتكبه السادات عندما اعتقل رموز جميع التيارات المعارضة فى سبتمبر ١٩٨١ (وتم ذلك للعلم فى ظل غياب قانون الطوارئ) ليصل إلى مرحلة (اللعب على الخلا)، وهنا كان مشهد النهاية لنظام حكمه!.
إن التجربة السياسية المصرية تؤكد أن قتل المعارضة ليس له سوى معنى واحد هو وفاة الحكم. حدث هذا عندما حاصر عبدالناصر معارضيه واستفرد بالحكم معتمداً على وجود مد شعبى مؤيد له. فكانت النتيجة هزيمة ١٩٦٧ التى قتلت الرجل بالحياة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمره حتى لقى وجه ربه عام ١٩٧٠، أما اعتقال ومطاردة المعارضين من الإخوان واليسار المصرى – فى عصره - فقد كانت نتيجتها منح هذه التيارات السياسية عمراً أطول. وقد تكرر السيناريو نفسه مع الرئيس السادات بعد انقضاضه على المعارضة التى صنعها على عينه!. والعجيب أن حكام مصر المتعاقبين يفعلون ذلك مع معارضة لا تفهم فى المعارضة أصلاً!، فيمنحونها عمراً أطول فى الوقت الذى يخصمون فيه من أعمارهم!.
فكيف نتـصور أن المعارضة التى تطالب الحكومات الفاسدة بالإصلاح تستوعب المعنى الأصيل للمعارضة؟ إن المطلب الأول لأى معارض حقيقى هو التغيير الكامل للنظام، أما الحديث عن الإصلاح فهو كلام فارغ ومراوغ. فكيف تصلح دستوراً من خلال تعديل مادة أو مادتين منه فى الوقت الذى تطفح فيه جميع نصوصه بالعوار؟
وكيف تصلح مجلس شعب يحتكره حزب واحد – بالذوق أو بالعافية – بمجرد أن تنادى بالسماح لأقلية من المعارضين أو الأقباط أو السيدات بالوجود ضمن تشكيلته؟ وكيف تصلح أوضاعاً اقتصادية تأسست على الفساد والاحتكار من خلال إجراءات تهدف إلى زيادة الرواتب بضعة جنيهات؟ إن المعارضة تتخلى – بهذه الحزمة من المطالب الإصلاحية – عن وظيفتها الحقيقية فى مواجهة النظام السياسى فى مصر بصورة صريحة تؤدى إلى تغييره بطريقة سلمية.
إن المعارضة الناضجة تفهم أن دورها الوحيد هو مخاصمة النظام «وش» مع السعى إلى إزالته لتصل إلى الحكم برؤية وبرنامج جديد فى الإصلاح يرتكز على أسس واضحة. أما المعارضة الحالية فهى تمنح النظام فرصة كاملة للمواصلة والاستمرار وتقصف عمرها بيديها، من منطلق أنها لا تريد الحكم!.
فالإخوان ليسوا طلاب حكم بل إصلاح، والدكتور البرادعى لا يحلم بالحكم فى حد ذاته بل بالإصلاح ، والحركات الاحتجاجية لا تريد الحكم بل تستهدف الضغط على النظام حتى يتخذ إجراءات تؤدى إلى تحسين الظروف المعيشية للناس، والأحزاب تريد المزيد من الحرية وليس الحكم. إذا كان ذلك كذلك فكيف يمكن أن يحدث التغيير فى هذا البلد؟ وإذا كانت المعارضة تتحدث عن أن نظام الحكم القائم هو الأمل فى الإصلاح فما جدوى وجودها؟.
لقد ذكرت فى مقال الأحد الماضى أن الحكومة هى الضمانة الوحيدة لتغيير الأوضاع فى هذا البلد بما ترتكبه من حماقات سوف تؤدى إلى اشتعال الشارع ضدها، اللهم إلا إذا انتابتها لحظة ذكاء مفاجئة واندفعت إلى إلغاء الطوارئ وتعديل بعض مواد الدستور بما يمنح نظام الحكم عمراً أطول ليتجاوز المرحلة التى بلغها حالياً.. مرحلة أرذل العمر!.