كانت الأزمة التى اندلعت بين مصر والجزائر فى نهاية العام الماضى، على خلفية تنافسهما الشرس على التأهل لنهائيات كأس العالم ٢٠١٠، منحطة ومشينة بدرجة كبيرة، ولا شك أنها جلبت العار لكل من أسهم فى تأجيجها والرقص على إيقاعاتها عن خيبة أو جهل أو انتهاز وتملق، لكنها مع ذلك تركت، مع المرارة والخجل، بعض الحسنات والفوائد. من بين ما تركت تلك الأزمة من فوائد أنها أطلعت النخب والجمهور، فى الداخل والخارج، على الطريقة التى يمكن أن يتعاطى بها السيد جمال مبارك مع قضايا سياسية تمس المصلحة العامة وتتسم بقدر من الالتباس والخطورة، فضلاً عن أنها كشفت عن تأييد قطاع بين المواطنين «البسطاء الطيبين» لفكرة ترشح شقيقه علاء لمنصب الرئاسة، لكونه أظهر اتساقاً أكبر مع مشاعر العوام حيال الجزائر، بعد مباراة أم درمان الشهيرة. ليس أخطر من اكتشاف أن الرجل، الذى رشحته دوائر عديدة معتبرة لخلافة والده فى حكم هذا البلد العريق، يمكن أن يكون على هذا النحو من الاندفاع والقابلية للاستفزاز والتصرف بغضب من دون حساب دقيق للوقائع والعواقب، سوى الصعود اللافت لشعبية شقيقه، لمجرد أنه أبلى بلاء حسنا فى تشجيع المنتخب الكروى والنيل من كرامة «خصومنا» الجزائريين. فى الخامس من نوفمبر الماضى، كتب جوزيف مايتون مقالاً فى صحيفة «جارديان» البريطانية، اعتبر فيه أن جمال مبارك «يمثل كل ما هو خطأ فى المجتمع والسياسة فى مصر، وأن ما يحتاجه المصريون لا يستطيع أن يقدمه هذا الشاب»، مشيراً إلى أن الصعود الكبير له فى الحياة السياسية المصرية لم يحصل سوى لأنه نجل الرئيس، فى بلد اعتاد توريث المناصب والوظائف والحرف. يمكن القول إن جمال مبارك ركز جل اهتمامه على ملفين رئيسين منذ مطلع العقد الراهن؛ أولهما يتعلق بإدارة الاقتصاد، حيث بات واضحاً أن التقدم الدفترى الذى طرأ على هذا الملف لم ينعكس بشكل عادل عند توزيع عوائده، فثمة نحو ٤٠% من المواطنين تحت خط الكفاية. والاحتجاجات العمالية المتتالية، وطبيعة المطالب التى تقام من أجلها الاعتصامات - تشير بوضوح إلى مستوى الفقر الذى تعانيه البلاد، فضلاً عن تغول الفساد والتهامه العوائد والأصول ومعها اللحم الحى للبنية الاقتصادية والاجتماعية المصرية. أما الملف الثانى الذى تصدى له جمال مبارك فكان إعادة تنظيم الحزب الوطنى تحت شعار «الفكر الجديد»، وهى محاولة أعطت للجمهور كل المعلومات اللازمة لتكوين الانطباعات عن قدرة الرجل على اختيار المعاونين والأنصار والوسائل وحماية سمعة الحزب وتقديمه للمجال العام باعتباره تنظيماً سياسياً لا تجمع مصالح يضم فاسدين وانتهازيين. قبل أيام قليلة جمعنى لقاء مع سياسى مرموق من رجال الحزب الوطنى النافذين، حيث هيمن موضوع استهداف حصة مصر من مياه النيل على حديثنا، وحين سألته ببراءة شديدة عن رؤية السيد جمال مبارك وموقفه من المسألة، أجاب ببراءة أشد: «وما دخل جمال مبارك بالأمر» (...). لطالما عوّل عرّابو مشروع التوريث على القبول والدعم الخارجيين لجمال مبارك سواء عالمياً أو إقليمياً، خصوصاً ما يظهر فى الصحافة العالمية، التى دأبت قبل سنوات على الحديث عن ليبراليته وتعليمه الجيد وعلاقاته الجيدة بالغرب والتزامه الأسس الاستراتيجية التى قام عليها حكم والده فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية تحديداً. لكن من يتابع الإعلام الخارجى حالياً يعرف أن ما بات ينسب إلى جمال مبارك يتعلق عادة بكونه «لا يحظى بتأييد شعبى»، و«لا يرتبط بعلاقات قوية مع الجيش»، و«حقق تقدماً اقتصادياً رقمياً لم يحل مشكلات الفقر والتنمية»، و«ارتبط بمجمع مصالح رجال الأعمال»، وأخيراً «يمثل كل ما هو خطأ فى السياسة والمجتمع». فى خطابه الأخير فى عيد العمال، حرص الرئيس مبارك على القول بوضوح: «إننى كواحد من أبناء مصر أجد نفسى اليوم، وأكثر من أى وقت مضى، أقوى عزماً وأشد تصميماً على ألا ترتد حركة مجتمعنا إلى الوراء»، ما اعتُبر رسالة واضحة إلى كل من فكر للحظة أنه يمكن أن يتخلى عن سلطته ودوره قبل أن يلفظ «آخر نفس فى صدره وآخر نبض فى قلبه»، كما كان قد أكد فى وقت سابق. من يقرأ تاريخ الرئيس مبارك بعناية يعرف أنه سيظل قابضاً على سلطته حتى اللحظة الأخيرة، ويعرف أيضاً أن تفاقم الفساد وفقدان الرؤية والتردى العام الذى بلغته البلاد فى نهاية العقد الثالث من رئاسته، لم تنل مما يتمتع به من ولاء، وقوة صلبة وناعمة، وشرعية، وإحساس بكونه «ضمانة للاستقرار والاستمرار وحائلاً دون الفوضى». فى يناير الماضى، نشرت «المصرى اليوم» حواراً مميزاً مع الدكتور مصطفى الفقى، استبعد فيه أن يرشح السيد عمرو موسى نفسه أمام الرئيس مبارك، لأن «العين ما تعلاش على الحاجب»، وهو توصيف يتمتع بعمق وإيحاء شديدين رغم بساطته. سيظل مبارك يحكم «حتى آخر نفس فى صدره.. حاجباً قد لا تعلوه عين»، دون أن يعين نائباً أو يوّرث حكمه فى حياته، وبعدها ستكون الفرصة سانحة للبرادعى، وموسى، وصبّاحى، أو عسكرى نافذ محترم، وربما غيرهم، للتنافس فى معركة ستربحها أى عين أمام أى حاجب.