السذاجة فى أزمة النيل

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : علاء الغطريفى | المصدر : www.almasry-alyoum.com

السذاجة.. تصلح عنوانا لأزمة حوض النيل التى جاءت عرضاً لأمراض عُضال، تكشف عن تداعٍ يضرب مؤسسات الدولة المصرية، والأمر هنا يسرى على الجمهور والإدارة الرسمية، فالاثنان ينظران إلى المسألة بمنطق ساذج يعتمد على التسطيح دون تشريح القضية وطرح أبعادها وتفكيك تفاصيلها للوصول إلى قناعة جيدة، يمكن البناء عليها بقرارات استراتيجية ستؤثر بالقطع على حياة أولادنا وأحفادنا فى المستقبل.

أحد المذيعين بتفاهة وسذاجة مفرطة طرح سؤالاً فى إذاعة «نجوم. إف إم» على المستمعين قال فيه «ماذا لو لم نجد نقطة مياه فى نهر النيل غداً؟»، ليكون مثاراً لنقاش وتعليقات على مدار ساعتين، جاء معظمها معبراً عن جهل وغياب معرفى عن شريان حياتنا، زاده المذيع بسطحيته، ولكن ما أزعجنى تعليق من أحد المستمعين قال فيه «نشترى مياه معدنية ومفيش مشكلة»، الطرح الساذج القاسى، لا يتحمله هذا الشاب بمفرده، بل هو عنوان لفشل دولة فى ترسيخ قيمة سبب الحياة فى نفوس شباب، يستطيع إحصاء أسماء مطربى البوب الأمريكيين، ولا يعلم من أين ينبع نهر النيل، ولم يقرأ ولم يدرس ما كتبه العظيم جمال حمدان.

مصر الرسمية، وتحديداً الدبلوماسية، تراكمت أخطاؤها، بعد عهد عبدالناصر، بعد تراجع أفريقيا كأولوية فى أجندة السياسة المصرية، وتحول التراجع إلى تجاهل تام بعد حادث أديس أبابا، الذى لم ينصرف على إثيوبيا بل تعداه إلى هذه المنطقة بأكملها، رغم مشروع تجمع الكوميسا والمحاولات الخجولة للبقاء فى الصورة.

فى زمن عبدالناصر حققت مصر وجوداً راسخاً من خلال مخابراتها والغطاء التجارى الذى عملت من خلاله لدرجة أن مصانع النسيج المصرية خصصت خطوط إنتاج لصناعة الأزياء الشعبية لهذه المنطقة، خاصة الملابس ذات الورود الكبيرة. رؤية عبدالناصر الثاقبة هى التى أبقت الحال مستقراً لعقود، ولكن البناء لا يبقى مستقراً، ما لم تكن هناك دعائم وأدوات يمكن استخدامها تبدأ بالقوة الناعمة وتنتهى بالقوة الخشنة، وإذا كانت الدبلوماسية المصرية مشغولة بـ«الشوبنج» فى أوروبا وتكره السفر إلى أفريقيا، وكرست نفسها لمهنة ساعى البريد فى الصراع العربى الإسرائيلى، فمن الواجب محاكمة مسؤوليها عن ضياع هيبة مصر فى منطقة حوض النيل، لتتجرأ علينا دول مازالت تحبو، باتت تمثل تهديداً حقيقياً لمستقبلنا.

النيل لن ينضب غداً، ولكن التأثير على حصة المياه القادمة من قلب القارة الأفريقية، هو التحدى الذى يواجهنا فى ظل زيادة سكانية لا تقابلها زيادة فى حصتنا من مياه النيل، فمصر دخلت فى حزام الفقر المائى، فالفرد المصرى لابد أن يحصل على ١٠٠٠ متر مكعب سنويا فى حين أننا ٨٠ مليوناً، ومن ثم نحتاج الى ٢٥ مليار متر مكعب أخرى زيادة على حصتنا الحالية البالغة ٥٥ مليار متر مكعب.

السذاجة الرسمية لم ترتبط بالأداء فحسب بل انتقلت إلى الخطاب الرسمى، فغرق فى «الطبطبة» و«المحلسة» لدول حوض النيل، فوزير الرى نصر علام يتحدث عن دول حوض النيل واصفاً إياها بالشقيقة، وخص بالذكر إثيوبيا، تقابله فى الجهة الأخرى تصريحات نارية كان أهمها تصريحات «ميليس زيناوى» رئيس الوزراء الإثيوبى لقناة الجزيرة «مصر مازالت تسيطر عليها أفكار بالية، وهى أنها تمتلك مياه النيل وهى من تحدد وحدها الحصص بين دول حوض النيل»، ولم يكتف بما سبق، بل إنه شدد أيضاً على أن مصر ليس من حقها منع إثيوبيا من إقامة سدود على نهر النيل. الأمر لا يحتاج إلى بيان، فالمواقف تصنعها سياسات، وعند غياب الرؤية تتخبط التصريحات وتختلط الأوراق، وتصير الأمور باعثة على الضحك والبكاء فى آن واحد، بكاء على ما ضاع فى أفريقيا، وضحك على تصريحات رسمية تصف دولاً ناصبتنا العداء بـ«الشقيقة».

السذاجة الرسمية فى قضية حوض النيل، تذكرنى برواية «مائة عام من العزلة» لـ«جابرييل جارسيا ماركيز».. كانت الفتاة ذات الجمال الفاتن والبراءة المدهشة «ريميديوس»- تلك الفتاه التى لا يراها أحد إلا ويقع فى حبها ويفتتن بها- حينما رآها قائد الحرس الشاب وقع فى حبها وجاء إليها ليصارحها بحبه الصادق لها فصدته عنها، لأن تلهفه عليها أزعجها وأخافها ونظرت إلى صديقتها وقالت: «انظرى إلى سذاجته، قال لى إنه سيموت بسببى كأننى مرض معدى يؤدى إلى الموت»، وحينما عثروا على الشاب صريعاً ميتاً تحت نافذتها من شدة حبه لها، قالت لصديقتها بكل برود: «ألم أقل لك إنه ساذج؟».