كنت مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ،، أراه بعد المغرب في الخامسة عشرة من عمره ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ،، لا لم يكن يقرأ كان يوهمنا أنه يقرأ ،، كان يختلس النظرات الينا الحين بعد الحين ،، يريد ان يعرف ماذا نفعل ،، كان يسترق السمع الفنيـة بعد الاخرى ،، يريد أن يعرف ماذا نقول ،، وكلما نظرت اليه غض طرفه وعاد الى قراءته كأن لم يفعل شيئا ،، كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة ،، وينظر تلك النظرات الراهبة ،، بعد انتهاء صلاة العشاء ،، عزمت على التعرف عليه . أنا اسمي سلمان أدرّس في حلقة القرآن الكريم بالمسجد ،، وأنا اسمي خالد عجباً !!! قالها بسرعة كأنه كان يحضر الاجابة ويتوقع السؤال . أين تدرس يا خالد ؟؟ - في السنة الثالثـة المتوسطة ،، وأحب القرآن جـداً ،، إزداد إعجابي !!! ما ضرورة تلك الجملة الاخير ؟!! تشجعت وقلت له ،، خالد هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب ، نأنس بوجودك معنا في حلقة القرآن الكريم . هـاه !! القرآن ،، الحلقة ،، نعم ،، نعم ،، بكل سرور ،، سوف آتي ان شـاء الله إذن ،، موعدنا غداً ان شاء الله . أمضيت ليلتي وانا افكر في حال هذا الفتى العجيب ،، استعصى علي النوم حاولت أن اجد اجـابـة لمـا رأيت وسمعت ، فما استطعت قلت في نفسي : تبدي لك الايام ما كنت جاهلاً -- ويأتيك بالاخبار من لم تزود وضعت جنبي على شقي الايمن .. لفني اللي بين أدرانه ،، وأخذني النوم في أحضانه اللهم اسلمت وجهي اليك ،، وفوضت أمري اليك ومضت الايام ،، وخالد مستمر معنا في حلقة القرآن ،، كان نشيطاً في الحفظ والمراجعة ،، أحب الجميع ،، وأحبه الجميع ،، كان لا يفارق المصحف ،، ولا يترك الصف الاول ،، لم نكن ننكر عليه أي شيء ،، إلا شيئاً واحداً !!؟؟ شروده الطويل ،، وتفكيره الساهم ،، فأحياناً نحس أن جسمه معنا ،، لكن روحه تمضي ،، سابحة في ملكوت اخر ،، غارقاً في دنيا اخرى ،، كنت افاجئه احياناً ،، فلا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني ،، وشروده الفكري ويعتذر بعذر ،، وهو يعلم أننا لا نصدقه اخذته يوماً الى شاطئ البحر ،، فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير فيفرغ ما في نفسه من هم ،، ويخرج ما في روحه من الم وصلنا الى البحر ،، ومشينا على شاطئه ،، كان الوقت مساءاً ،، وكان القمر بدراً منظر عجيب ،، التقى فيه سواد الماء مع سواد البحر ،، ووقف نور القمر الفضي ،، حائراً بينهما كوقوفي حائراً أمام خالد تسري خيوط القمر البيضاء الهادئة الصامته على صفحة هذا البحر الهادئ الصامت ،، ووقفت أنا أمام هذا الفتى الصامت ،، المنظر كله صمت في صمت ،، فلا صوت هناك يُسمع سوى صوت الصمت فجــأة !!!؟ يخترق هذا السكون الصامت ،، صوت بكاء حار ،، ونحيب مــر صوت خالد وهو يبكي ،، لم أشــأ أن اقطع عليه لذة البكـاء ،، وطعم الدموع فلعل ذلك يريح نفسه ،، ويزيل همـه وبعد لحظات قال ،، أني احبكم ،، احب القرآن ،، وأهل القرآن ،، احب الصالحين ،، والطيبين ،، ولكن ،، أبي ،، أبي أبـوك ؟؟!! وما بال أبيـك يا خـالد ؟؟ أبي يحذرني دائماً أن امشي معكم ،، يخاف منكم ،، يكرهكم ،، كان دائماً يبغضني فيكم ،، ويستشهد على ذلك بقصص وحكايات وأساطير وروايات ،، ولكن عندما كنت أراكم في الحلقة تقرؤون القرآن ،، كنت أرى النور في وجوهكم ،، النور في كلامكم بل كنت ارى النور في صمتكم كنت اشك بكلام والدي ،، فلذلك كنت دائماً أجلس بعد المغرب ،، أنظر اليكم وأتخيل نفسي معكم ،، اقتبس من نوركم ،، وأرشف من معينكم . أتذكر ؟ ،، أتذكر يا استاذ سلمان ؟؟ اتذكر ،، عندما اتيتني بعد صلاة العشاء ؟ ،، لقد كنت انتظرك منذ زمن بعيد ،، تُمسك بروحي ،، وتجعلها تحلق مع أرواحكم ،، في عالم الطهر والعفاف والنور والاستقامة ،، تشجعت ،، دخلت الحلقة ،، اجتهدت ،، لم أكن أنام ،، كانت ايامي وليالي كلها قرآن ،، لاحظ ابي التغيير الذي طرأ على حياتي ،، عرف بطريقة أو باخرى ، انني دخلت التحفيظ ومشيت مع ( المطاوعة ) حتى كانت تلك اللية السوداء ،،كنا ننتظر حضوره من المقهى ،، كعادته اليومية ،، لنتناول طعام العشاء سوياً دخل البيت ،، بوجهه المظلم ،، وتقاطيعه الغاضبة ،، جلسنا على سفرة الطعام ،، الكل صامت ،، كالعادة ،، كلنا نهاب الكلام في حضوره ،، ثم قطع الصمت بصوته الاجش الجهوري ،، وبصراحته المعهودة لقد سمعت أنك تمشي مع (( المطاوعـة )) ؟؟؟؟ أصيب مقتلي ،، عُقـد لساني ،، ذهب بياني ،، اختلطت الكلمات في فمـي ،، لم ينتظر الاجـابـة ،، تناول إبريق الشاي ،، ورماه بقـوة في وجهي ،، دارت الدنيا في رأسي ،، واختلطت الالوان في عيني ،، وأصبحت لا أميز سقف البيت من جدرانه ،، من أرضـه ،، سقـطت ،، حملتني امي ،، صحوت من اغمائتي الخفيفة ،، على يديها الدافئة ،، وإذا بالصـوت الجهـوري ،، يقول اتركيه ،، والا اصابك ما أصابه ،، استللت جسمي من بين يدي امي ،، تحاملت على نفسي لاذهب الى غرفتي ،، وهو يشيعني بأبشع الشتائم ،، واحط الالقاب ،، لم يكن يمر يوم إلا وهو يضربني ،، ويشتمني ،، ويركلني ،، يرميني بأي شيء يجده أمامه ،، حتى أصبح جسمي لوحـة مرعبـة ،، اختلطت فيها الالوان الداكنـة ،،كرهته ،، أبغضته ،، امتلأ قلبي بالحقد عليه يومٌ من الايام ونحن على سفرة الطعام ،، قال قـم ولا تـأكل معنــا وقبل ان اقوم ،، قام هو وركلني في ظهري ركلة ،، اسقطتني على صحن الطعام ( تخيـلـت ) انني اصـرخ في وجهـه وأقـول لـه ،، سوف أقتص منك ،، سوف اضربك كما ضربتني ،، سوف اكبر واصبح قوياً ،، وسوف تكبر وتصبح ضعيفاً ،، عندها ،، افعل بك كما تفعل بي ،، واجزيك شر ما جزيتني ،، ثم هربت ،، خرجت من المنزل ،، اصبحت اجري واجري على غير هدى ،، وبدون هدف ،، حتى ساقتني رجلي الى هذا البحر ،، الذي تغسل امواجه هموم نفسي ،، وآلام فؤادي ،، وامسكت بالمصحف اقرأ فيه ،، حتى اني لم استطع ان اواصل من كثرة البكاء ،، وشدة النحيب عندها نزلت من خالد بعضاً من دموعه النقية ،، التي سطعت في ضوء القمر كما يسطع اللؤلؤ تحت ضوء المشاعل ،، لم انبس بكلمة واحدة ،، فقد ربط العجب لساني واستعجـم بيـاني ،، هل اعجب من هذا الاب الوحشي ،، الذي خلا قلبه من معاني الرحمة ،، وعشعشت في قلبه شتى انواع القسوة ،، ام اعجب من هذا الابن الصابر الذي اراد الله عز وجل له الهداية ،، فألهمه الثبات ،، ام اعجب منهما الاثنين ،، حين استحالت رابطة الابوة والبنوة بينهما أشلاء ،، صارت علاقتهما كعلاقة الاسد بالنمر ،، والثعلب بالذئب اخذت بيده ،، مسحت دموعه بيدي ،، وصبرته ودعوت له ،، ونصحته ببر والده والصبر على أذاه ،، ولو حصل منه ماحصل وفعل ما فعل ،، ووعدته بأن اقابل والده واكلمه واستعطفه مرت الايام وانا افكر في الطريقة التي افاتح بها والد خالد في موضوع ابنه ،، وكيف اتكلم معه ،، وكيف اقنعه ،، بل كيف اعرفه على نفسي ،، وكيف سأطرق عليه الباب ،، واخيراً استجمعت قواي ،، ولممت افكاري ،، وقررت ان تكون المواحهة ،، اقصد المقابلة اليوم ،، الساعة الخامسة ،، سرت الى منزل والد خالد ،، وسارت معي افكار الكثيرة ،، وتساؤلاتي العديدة ،، طرقت الباب ،، ويدي ترتجف ،، وساقي تعجز عن حملي ثم فُتح الباب ،، وإذا بذلك الوجه العابس ،، وتلك التقاطيع الغاضبة ،، فابتسمت ابتسامة صفراء لعلها تمتص نظرته السوداء ،، وقبل ان اتكم !!! (( امسك بتلابيب ثوبي ،، وشدني اليه )) ،، وقال : - انت ( الموطـع ) الذي تدّرس خالداً في المسجد ؟؟،، قلت : ن ،، ع ،، م - قال ،، والله لو رأيتك تمشي معه مرة اخرى كسرت رجلك ،، خالد لن يأتيكم بعد الان . ثم ،، جمع (( مـادة فمـه )) ،، وقذف بها دفعـة واحـدة في وجه الفقير الى الله ،، واغلق الباب ،، كان ختـامهـا مسكـاً مسحت عن وجهي ما أكرمني به ،، ورجعت ادراجي وأنا اسلي نفسي واقول ((رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام ،، فُـعل به أكثر من هذا ،، كذبه قومه شتموه ،، رموه بالحجارة ،، أدموا رجله ،، كسروا رباعيته ،، وضعوا القاذورات فوقه ،، اخرجوه من وطنه ،، وطردوه من أرضه )) ومرت الايام ،، تلو الايام ،، والشهور تلو الشهور ،، ونحن لا نرى خالداً ،، فأبوه يمنعه من الخروج حتى للصلاة ،، ونحن يمنعنا من رؤيته وزيارته ،، دعونا له ونسيناه في غمرة الحياة ،، ومرت السنون ،، وفي ذات ليلة ،، بعد صلاة العشاء ،، في المسجد إذا بيـد غليظة تمسك كتفي انها ذات اليد التي امسكت بعنقي قبل سنين ،، انه نفس الوجه ،، ونفس التقاطيع ،، ونفس الفم الذي اكرمني بما لا استحق ولكن ؟!! هناك تغيراً كبيراً !! الوجه العابس ،، أضحى منكسراً ،، التقاطيع الغاضبة ،، امست ذليلة هادئة ،، والجسم هدته الالام والهموم ،، والجسد اضعفته الاحزان والغموم ،، اهلا يا عم ،، قبلت رأسه ورحبت به ،، وأخذنا زاوية في المسجد ،، انفجر باكياً !!!!!!! ،، سبحان الله ،، ما كنت أظن ذلك الجبل سوف يصبح في يوم من الايام سهلاً ،، ولا ذلك البحر الهادر ،، يمسي غديراً منسابا ،، تكلم يا عم ،، واخرج ما في نفسك ،، كيف حال خالد ؟؟؟؟ خالد!! وكأن بكلمتي هذه قد غرست في احشاءه خنجراً ،، واودعت في فؤاده سكيناً تنهد بعمق ومضى يقول ،، اصبح خالد يا بني ،، ليس خالداً الذي تعرفه ،، ليس خالد الفتى الطيب الهادئ الوديع ،، منذ ان خرج من عندكم ،، تعرف على شلة من شلل الفساد ،، فهو اجتماعي بطبعه ،، وهو في سن يحب فيها ان يخرج ويدخل ويلهو ويلعب بدأ بالدخان ،، شتمته وضربته ،، لا فائدة فقد تعود جسمه على الضرب ،، واستساغت اذناه الشتائم والسباب ،، كبر بسرعة ،، كان يسهر معهم طويلاً ،، لا يأتي إلا مع خيوط الفجر ،، طرد من المدرسة ،، أصبح يأتينا في بعض الليالي وكلامه ليس ككلامه ،، ووجه لي كوجهه ،، لسانٌ يهذي ،، ويـدٌ ترتعش ،، اصبح جسماً مهترئاً ضعيفاً ،، تغير ذلك الوجه الابيض النقي ،، اصبح وجهاً اسوداً عليه غبار الخطيئة والضياع ،، وتغيرت تلك العينان الصافيتان الخجولتان ،، اصبحت حمراء كالنار ،، وكأن ما يشربه او يتناوله تبدو عاقبته على عينيه في الدنيا قبل الاخرة ،، ذهب ذلك الخجل والاستحياء ،، وحلت مكانه الرعونة وسؤ الادب ،، ذهب ذلك القلب الطيب البار ،، واستحال قلباً قاسياً كالصخر أو أشد ،، اصبح لا يمر يوم إلا ويشتمني ،، أو يركلني ،، او يضربني ،، تصور يا بني ،، أنا أبوه ويضربني ؟؟!!!!! ،، ثم عاود البكاء الحار ،، ونحيبه المر ،، ثم مسح دموعه ،، ارجوك يا بني ،، يا سلمان ،، زوروا خالد ،، خذوه معكم ،، سوف اسمح لكم ،، بيتي مفتوح أمامكم ،، مرّوا عليه ،، انه يحبكم ،، سجلوه في حلقة تحفيظ القرآن ،، خذوه معكم في رحلاتكم ،، لا مانع عندي ابداً .. بل انني راض ان يعيش في منازلكم ،، وينام معكم ،، المهم ،، المهم ان يرجع خالد كما كان ،، ارجوك يا بني اقبل يديك ،، والثم رجليك ،، ارجوك ،، ارجوك ،، ومضى في بكائه ونحيبه ،، وحسراته ،، حتى انهى ذلك كله ،، فقلت له ياعم ،،، ( ذلك رزعك .. وهذا حصادك ) ،، ورغم ذلك ،، سـوف احـاول . يقول راوي القصة :