في الطريق إلى المدينة كنت سارح البال، شارد الذهن، الأفكار تنداح في مخيلتي وبقايا من أحلام اليقظة تتصارع في ذاكرتي، كنت أعانق بناظري المشاهد الجميلة على جانبي الطريق، ولكن سرعة السيارة ما كانت تسعفني حتى أحدق ملياً في هذه المشاهد. أحياناً كانت تتوقف السيارة لتحمل المزيد من الركاب، أو يترجل بعضهم عن ظهرها، كانت الزيادة المفرطة في عدد الركاب، والأجساد المتلاصقة، والأنفاس المتتابعة من بعض الركاب تبعث في السيارة رائحة كريهة، فكنت أخرج رأسي من نافذة السيارة معلناً احتجاجي على هذا الوضع، ولكن السائق كان ذكياً إلى درجة أنه فهم مرادي فبادرني بقوله: - أرجو أن تتحمل من أجلي، فزيادة الركاب تعني زيادة الأجر، وهذا مهم لشاب مثلي. كانت دهشتي منه هي الدافع إلى تطفلي عليه ومجاراته في الحديث فقلت له: - حدثني عن نفسك يا أخي؟ نظر إليّ بصمت ثم كشف عن ابتسامة خفيفة، وهز رأسه ولكنه استدرك: - فيما بعد، فأنت آخر راكب سأوصله إلى المدينة والطريق طويل. كان شاباً نحيل الجسم، قمحي البشرة، نظارته القديمة أحدثت له علامة فارقة حول عينيه، أنفه الطويل يكاد يلامس شاربه الكثيف الممتد على طول فمه الصغير جداً. ووجهه الدائري يذكرني دائماً بأحد نجوم السينما القدامى. توقفت السيارة أخيراً ليترجل عن ظهرها آخر راكب عند تقاطع (2) ، نظر إليّ مرة أخرى، كانت ملامح وجهه قد تغيرت، خيوط من الغضب بدأت ترتسم على وجهه، وتباشير الحزن قد بدت واضحة في ملامحه، عندها قلت بلهفة: - قل لي بربّك ما وراء هذا الوجه العابس؟ - وراءه قصة طويلة. - إني في شوق إلى سماعها. أمسك بمقود السيارة وزفر زفرة قوية وكأنه يطلقها من فوهة بركان على وشك الثوران، ثم قال بعد أن أخذ مساره الصحيح في الطريق إلى المدينة: قبل سنتين كنت طالباً في الجامعة في المستوى الرابع في قسم الإعلام، لقد كنت طالباً متفوقاً، الأحلام السعيدة تتراقص أمام مخيلتي، والمستقبل المشرق ينتظرني، كان حلمي أن أصبح مذيعاً لامعاً يشار إليه بالبنان، وهو الذي كنت أسعى إليه، البرامج كثيرة، والمقترحات والأفكار كانت تنداح في ذاكرتي كما ينداح حجر الرحى، وتخرجت في القسم وبتقدير (ممتاز) فكان بيني وبين حلمي خطوات ليصبح (عبدالله العلي) أشهر مذيع محلي وربما عربي وربما عالمي، من يدري؟ وتوقف صديقي عن متابعة الكلام، كانت دورية المرور تقوم بعملها وسط الشارع، كانت الرخصة قديمة قد انتهت صلاحيتها ولم يجددها صديقي بعد، ولم تشفع توسلات صديقي في أن يشمله عفو رجل المرور الذي سخر منه. - صاحب سيارة أجرة، ولا يملك قيمة تجديد رخصة. . صدقني، لا أملك ذلك، لا أملك شيئاً أبداً!! - خذ هذه القسيمة فربما تتعلم درساً لن تنساه أبداً. بعد ذلك واصلنا سيرنا إلى المدينة، كان صديقي يتمتم بآيات الغضب على رجال المرور. - إنهم لا يفهمون شيئاً، نعم صاحب سيارة أجرة ولا يملك شيئاً، أقسم إنني لا أملك قوت يومي أحياناً. لفني شيء من الخجل أن أقول له أكمل ما بدأت، إلا أنه كان ذكياً كما توقعت فواصل حديثه: - حسناً ياصديقي.. وتخرجت في الجامعة إلا أن عميد الكلية رفض أن يعطيني (وثيقة التخرج) وعندما زرته في مكتبه أظهر لي حفاوة رائعة إلا أنه سرعان ما كشف لي عن مراده: - الحقيقة أنني أطمع في موافقتك على الإعادة في القسم. فرفضت ذلك بشدة متعللاً بالحلم الذي أسعى إليه منذ زمن، وبرغم محاولاته إلا أنني رفضت كل محاولاته، فقال لي عندها: - ستندم حيث لا ينفع الندم. في الطريق إلى التلفاز كانت أحلامي تعاود الرقص أمامي، والشهرة تفتح ذراعيها لتتأبطني، وقابلت مدير التلفاز، كانت دهشتي من ذلك البرود الذي قابلني به، إذ لم يكلف نفسه بالنظر إلى تقديري، واعتذر عن قبولي متعللاً بأعداد الشباب المتزايدة التي تريد العمل في الإعلام، لم أطل الصمت بل واجهته: - ألم تصرح بأنكم بحاجة إلى دماء جديدة؟ فلماذا تردونا إذاً؟ نظر إليَّ بحزم وأشار إليّ بالخروج، أظلمت الدنيا في وجهي وأنا أغادر مكتب المدير، إلا أن بصيص أمل بدا لي وأنا أشاهد قاسم القاسم صاحب البرنامج الشهير (هموم محلية)، إن كلماته مازال صداها يتردد في ذاكرتي وهو يقول في نهاية كل حلقة من حلقات برنامجه الشهير: - لقد جندت نفسي لهموم الناس ومشاكلهم، فقط اتصلوا بي وتفضلوا بزيارتي. استوقفته في أحد ممرات التلفاز، رمقني بنظرة ملؤها الاحتقار، فقلت له: أنا من الناس الذين جندت نفسك لهمومهم، ومشكلتي... قاطعني معتذراً بموعد خاص، عندها أمسكت بيده وأنا أقول له: ألست أنت القائل... تركني لذهولي ودهشتي، إلا أنني سمعته يتمتم من بعيد: - مساكين يصدقون كل ما يذاع. خرجت من مبنى التلفاز وأنا شبه محطم، في البيت كان أبي يطالبني بالعمل، ألسنة الناس لم ترحمني، الجميع يخوض في سيرتي وما آلت إليه، كنت أبحث عن أي عمل إعلامي، في التلفاز، في الإذاعة، في الصحافة، بل لقد وصل ولعي بالإعلام إلى أن أعمل مراسلاً في جبهات الحرب ومواطن المجاعة، إلا أن شمس أحلامي قد غربت، وأصبحت الشهادة كالعار الذي يلاحقني، فكرت في العودة إلى الجامعة والإعادة فيها ولكن سيلاً من السخرية قابلني به عميد الكلية، وكدت أصاب بصدمة نفسية لولا وقوف بعض الأصدقاء بجانبي وشراؤهم لي هذه السيارة بعد أن سلمت أوراقي ديوان الخدمة في انتظار الوظيفة! من بعيد كانت المدينة بدت وكأنها مدينة سحرية تخرج من قاع الأرض، نظرت إلى صديقي وهو يعيد نظارته إلى عينيه وقد أسبل بعض دموعه الحارة، ووصلنا المدينة ودفعت له أجرته، ثم وقفت أشيعه بنظراتي وهو في طريق العودة، ثم عدت إلى منزلي يلفني ضجيج المدينة وزحامها الشديد