في عالم المال يرددون العبارة الشهيرة: "رأس المال جبان"، كإشارة إلى هروب الاستثمارات من مناطق الصراعات، واحتياج التنمية الاقتصادية إلى الأمن.. ولكن هل الصراعات فقط هي التي تخلق عدم الشعور بالأمن؟ الإجابة حملها تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 الصادر عن الأمم المتحدة في بيروت يوم الثلاثاء 21 يوليو، والذي قدم نظرة شاملة للأمن تتخطى المفهوم التقليدي وهو مجرد المحافظة على حياة الإنسان، بل يشمل أيضا الحاجات الأساسية مثل الحصول على المياه النظيفة والمسائل المتعلقة بنوعية الحياة. وفي تعليقها على هذا المفهوم قالت أمة العليم السوسوة، والتي تشغل مركز الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية، في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: "هناك ميل إلى التفكير في الشأن الأمني من زاوية عسكرية محضة، أو عبر عدسة أمن الدولة حصرا"، مشيرة إلى أن أمن الناس لا يهدده النزاع والاضطرابات الأهلية وحسب. وأضافت: "مصادر التهديد تشمل أيضا التدهور البيئي، والتمييز، والبطالة، والفقر، والجوع". وإذا كانت التنمية مرادفا في أذهاننا للرفاهية، فإن الرسالة التي يهدف التقرير إلى توصيلها أن هذه الرفاهية لن تتحقق إلا إذا تمكنت الدول العربية من تحقيق الأمن بهذا المفهوم الأوسع. عدسة أشمل وانتقل التقرير بعد ذلك إلى وضع مجموعة من الوسائل التي تمكن الدول العربية من تحقيق الأمن بهذا المفهوم؛ وهو ما لخصته السوسوة بقولها: "التعريف الشامل يمنحنا عدسة جديدة ومفيدة لرؤية ما تواجهه التنمية البشرية في المنطقة العربية من تحديات، وما يمكن طرحه من حلول". وكانت أولى التحديات التي رصدها التقرير هي قضية الحريات، وأشار في هذا الصدد إلى وجود حظر كامل على تشكيل الأحزاب السياسية في ستة بلدان عربية، بينما تجعل القيود المفروضة على النشاط السياسي والمنظمات المدنية هذا الحظر حقيقة على أرض الواقع في البلدان العربية الأخرى. وليس ذلك فحسب، بل إن التدابير التي تتخذ بحجة حماية الأمن القومي، كإعلان حالة الطوارئ على سبيل المثال، تمهد السبيل أمام تعليق الحقوق الأساسية، وإعفاء الحكام من القيود الدستورية، ومنح أجهزة الأمن سلطات واسعة. ونموذج الدولة المدنية التي تحكمها القوانين هي الحل الأمثل لهذه المشكلة، كما ترى مضاوي الرشيد أستاذة علم الإنسانيات في جامعة كنجز كولج في لندن، وعضو الفريق المركزي لتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009، لكنها تقول: "الدول بعيدة كل البعد عن الالتزام بهذا النموذج". البيئة ثم المرأة ومن التحدي السياسي انتقل التقرير لمشاكل البيئة والتي لا يزال ينظر لها بالمنطقة العربية بعين الاستهتار رغم خطورتها، وشدد على خطورة مشكلة التصحر التي تهدد حوالي 2.9 مليون كيلومتر مربع، أو ما يعادل خمس المساحة الإجمالية للبلدان العربية. هذا إلى جانب استنزاف الموارد الطبيعية بوتيرة مخيفة في ظل تزايد الضغوط السكانية؛ حيث يصل معدل الخصوبة في البلدان العربية إلى 3.6 مواليد حي لكل امرأة، مقابل معدل عالمي قدره 2.6. وبهذا المعدل يتوقع أن يرتفع عدد سكان المنطقة من 330 مليون نسمة حاليا إلى 385 مليون نسمة بحلول عام 2015. فماذا سنترك لهذه الأعداد لو ظللنا نهمل بيئتنا؟ الإجابة لخصتها مديرة المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بقولها: إن "أمن الإنسان في المنطقة العربية يعتمد في الدرجة الأولى والأهم على صحة البيئة التي ترعانا". ويحتاج ذلك منا إلى تحرك سريع حددت ملامحه مديرة المكتب الإقليمي في عدة مسارات هي: تدعيم المؤسسات المعنية بالبيئة، ووضع القوانين وتنفيذها، وإدخال القضايا البيئية في التخطيط الإنمائي، ورفع مستوى الوعي عبر تثقيف الشباب. ولم يغفل التقرير -كعادة كل التقارير الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة- قضية العنف تجاه النساء في المنطقة العربية.. وأوضحت منيرة فخرو، أستاذة علم الاجتماع في جامعة البحرين سابقا وعضو الفريق الاستشاري للتقرير، أن العنف البدني وإن كان قد تم الحد منه، فإن أشكال العنف الأخرى غير المرئية لا تقل خطورة، بل تزيد. واعتبرت منيرة فخرو أن الهيمنة الذكورية الراسخة في المجتمعات العربية والتمييز المقنن لصالح الذكور يمثلان أبرز مظاهر هذا العنف. اقتصاد أكثر تنوعا وتقضي النظرة الشاملة لمفهوم الأمن معالجة البنية الضعيفة للاقتصاد العربي المعتمد على النفط، والتوجه نحو اقتصاد أكثر تنوعا مبني على المعرفة، وقادر على توليد ما يكفي من فرص العمل. فالبلدان العربية -وفق ما أوضح التقرير- معرضة بشدة لتقلبات أسعار النفط الذي يشكل حوالي 70% من صادرات المنطقة، كما تعاني بلدان المنطقة من معدل البطالة الأكثر ارتفاعا في العالم 14% مقارنة مع المعدل العالمي الذي يصل إلى 6.3%. وبالنظر إلى الوتيرة الحالية للنمو السكاني، يتوجب على البلدان العربية أن تولد خمسين مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2020 من أجل استيعاب الحجم المتوقع للقوة العاملة.
ويحتم علينا ذلك ضرورة الخروج من نفق النفط إلى آفاق أوسع؛ لأن مشكلة الثروة النفطية -كما يقول وليد خضوري عضو الفريق المركزي- أنها تضعنا أمام صورة مضللة لأوضاعنا الاقتصادية، وتخفي وراءها الضعف البنيوي للعديد من اقتصاديات المنطقة. ويسير جنبا إلى جنب مع هذه المشكلة كارثتا الفقر والجوع، اللتان ستزداد معدلاتهما إذا لم يحدث تنويع لمصادر الاقتصاد؛ فعلى الرغم من وفرة الموارد المالية في المنطقة العربية ككل، بسبب النفط، فإن واحدا من كل خمسة أشخاص في المنطقة العربية يعيش تحت خط الفقر المعترف به دوليا، المتمثل بدولارين أمريكيين في اليوم. أما نسبة الذين يعيشون على أكثر من ذلك بقليل ولا يستطيعون تحمل تكاليف الحاجات الأساسية فيفوق هذه النسبة بأشواط. ومن ثم يخلص التقرير إلى أن حوالي خمسي سكان المنطقة العربية يعيشون في ظل الفقر. ونتيجة طبيعية لهذه الحالة تواجه قطاعات واسعة من سكان بلدان الدخل المنخفض حرمانا كبيرا من أبسط الحاجات مثل عدم الحصول على المياه الصالحة للشرب، وازدياد حالات نقص الوزن بين الأطفال، وتزايد عدد الأشخاص الذين يعانون قصور التغذية في المنطقة من حوالي 19.8 مليونا في فترة 1990-1992 إلى 25.5 مليونا في فترة 2002-2004. الأمن الصحي وكما اهتم التقرير بالأمن الغذائي والاقتصادي، اعتبر أيضا الصحة تدخل ضمن المفهوم الشامل للأمن. وأوضحت رفيعة عبيد غباش، رئيسة جامعة الخليج العربي وعضو الفريق الاستشاري للتقرير، أن النظر لموضوع الصحة من زاوية أمن الإنسان يفرض التعامل معه ليس فقط بهدف معالجة الأمراض، وإنما باعتباره سعيا لتحقيق حالة صحية سليمة ومتكاملة، جسدا وعقلا. وقالت: "لن يتحقق ذلك إلا بالتعامل مع الصحة بوصفها حقا من حقوق الإنسان". ويأتي الحصول على الرعاية الصحية بكلفة معقولة ونوعية جيدة في قائمة المطالب التي يبرزها التقرير لضمان وصول هذا الحق للمواطنين، كما طالب بالتركيز على الطب الوقائي، ومواجهة الممارسات السائدة المؤذية لصحة المرأة، وإطلاق حملات عامة تثقيفية لشرح مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، على أن تكون هذه الحملات واعية لحساسية الموضوع وأهميته، مع الحرص على رفع مستوى الفحوص المتعلقة بالمرض، وكذلك مستوى المعالجة. وكتأكيد على النظرة المختلفة لمفهوم الأمن، وضع التقرير في الختام النظرة التقليدية لهذا المفهوم والمتعلقة بالنزاعات المسلحة، وكشف في هذا الإطار أن 17 مليون إنسان أجبروا على مغادرة مواطنهم في المنطقة العربية تحت ضغط النزاع المسلح؛ ما يجعل عدد اللاجئين والمهجرين داخليا في المنطقة العربية الأعلى بين مناطق العالم. وأوضح أن هذا الوضع أصاب المجتمعات العربية بآلام إنسانية، وقضى على عقود من النمو الاقتصادي، وزعزع التقدم المتواضع الذي تم تحقيقه على صعيد الإصلاح السياسي؛ وذلك من خلال تعزيز قوى التطرف وإضعاف أصوات الاعتدال. وخلص التقرير في النهاية إلى نتيجة أن تحقيق الرفاهية مرهون بإنجاز البنود التي يتضمنها المفهوم الشامل للأمن.