عندما دخلت ليال ومايا إلى المقهى ظهر على تصرفاتهما الارتباك والحياء مما جعل كل من في المقهى يلتفت نحوهما ، وقد ظهر هذا الارتباك واضحاً عندما قامتا بتبديل طاولتهما عدة مرات ، فجلستا في المرة الأولى في وسط المطعم ، ثم عادتا وانتقلتا إلى الطاولة التي تقع قرب النافذة ... إلى أن استقرتا أخيراً في مؤخرة المطعم بعيداً عن أعين المتطفلين ... ما أن جلستا على الطاولة حتى بادرت ليال مايا بالاعتذار ، فقالت : - آسفة لأني وضعتك في هذا الموقف الحرج ، ولكني لا أستطيع أن آتي لوحدي ، ولا أعرف أحد غيرك ... آسفة. * لا عليك ، المهم ان ننتهي من هذا الموقف السخيف في أقرب فرصة ... ولكن اسمعي لقد جئت معك هذه المرة ، ولكن في المرة القادمة لن آتي ... اتفقنا ... - اتفقنا ، فقط هذه المرة أعدك ... ما رأيك كيف أبدو ؟ هل سأعجبه ؟ * طبعاً ستعجبيه ، ولكن ألم تقولي لي إنه يعرفك ، وأنك أرسلت له صورتك؟ - بلى ، بلى ، ولكن كما تعرفين الصورة غير الواقع ... الصورة الواقعية دائماً تبدو أحلى وأجمل من الصورة الفوتوغرافية ... أليس كذلك ؟ انا خائفة ... لقد تأخر . * معك حق ، آسف على التأخير ... التفت كل من مايا وليال خلفهما لينظرا إلى مصدر الصوت ... وفتحت كل منهما فاهها من هول ما رأت ... رجل طويل القامة ، ضخم الجثة ، علامات السنين تبدو على محياه وإن كان يحاول أن يخفيها بصبغة شعر سوداء داكنة لم تستطع أن تخدع إلا صاحبها ... عندما رأى الشاب علامة الاستغراب بادية على وجه الفتاتان ، مدّ يده نحو ليال وقال لها : كيف حالك ؟ تداركت ليال الموقف وحاولت أن تخفي دهشتها وتتصرف بشكل طبيعي ، إلا أن احمرار وجهها كشفها ، وأحست مايا بالحرج الشديد الذي تعاني منه صديقتها ، فتساءلت بينها وبين نفسها : - مسكينة يا ليال ... هل هذا هو الشخص الذي كنت تعقدين عليه الآمال ؟ إنه أكبر من والدك !! غريب ... كيف هذا ؟ مع أنني رأيت الصورة ، كان يبدو شاباً ... يا سبحان الله !! وكأنه ابن الشخص الموجود الآن ... يا مسكينة يا ليال ... ولكن هذا أفضل ... هكذا ستتعلمين درساً لن تنسيه ، فلطالما حذرتك من مخاطر الدردشة على الإنترنت ... ولكن لم تستمعي إليّ ... واستعادت مايا في تلك اللحظة شريط ذكرياتها مع ليال ، وأخذت تتنقل من ذكرى إلى أخرى تقلِّبها في ذهنها كما تقلّب صفحات كتاب ما ، فتذكر في الصفحة الأولى كيف كانت ليال تحدِّثها عن حسن أخلاق هذا الشخص ، مخبرة إياها عن صدقه ... وعن فكره العميق ... وعن حبّه الشديد لها ... وتقلّب الصفحة التالية لتتذكر كيف كانت ليال قبل أن تتعرف على هذا الشخص ، وذلك منذ حوالي السنة تقريباً ... إذ كانت نموذجاً للفتاة الهادئة الرصينة المجتهدة الخجولة ... إلا أنها بعد أن تعرّفت عليه، تحوّلت إلى فتاة شرسة الطباع ، لا تكلّم أحداً ، دائماً شاردة الذهن ، ... كثيراً ما كانت تأتي إلى الجامعة وعيونها حمراء ووجهها شاحب من قلة النوم ... يا مسكينة ... كل هذا التعب لتكون هذه هي النتيجة ... بقيت مايا فترة من الزمن وهي تسرح في خيالها بعيداً عن أحاديث ليال ورفيقها إلى أن شعرت بوخز يصيبها في رجلها ، كانت هذه رجل ليال تحاول أن تلفت انتباهها كي تنقذها من الموقف... * أوه ... ليال ... يجب أن نذهب لقد تأخرتُ على البيت هناك ضيوف سيأتون لزيارتنا ، آسفة أستاذ سنضطر للانصراف ... تشرفنا في معرفتك ... - وأنا أيضاً تشرفت ... ولكن لا زال الوقت مبكراً ؟ ... سأكلمك يا ليال ... كي نحدد موعداً آخر ... - طبعاً ... طبعاً ... هيا بنا ... أمسكت ليال بيد مايا تجرّها ، وهي تضع رأسها في الأرض محاولة أن تخفي وجهها تماماً كالمذنب الذي قبضت عليه العدالة وهو يخفي وجهه خجلاً من فعلته ... ولكن هيهات أن تستطيع ذلك وقد كسا وجهها الطفولي الاحمرار حتى بدت وكأنها مريضة بارتفاع الضغط ... _ لا تتفوهي بأية كلمة ... مفهوم ... هيا بنا ... **** ما أن جلست الصديقتان في السيارة حتى أدارت ليال محرك السيارة وانطلقت مسرعة وكأنها سجين أطلق سراحه منذ وقت قليل إلا ان هاجس الخوف من أن تعاود الشرطة القبض عليه لا زال يراوده ... بقي الصمت مسيطراً على الفتاتين إلى أن وصلتا إلى منتصف الطريق ... عندها تحوّل الموقف فجأة وبدأت ليال بالضحك والقهقهة بصوت عال ... تضحك في غير وعي وإدراك ... تضحك وتضحك ... وتقول : يا حسرة على الوقت الذي أضعته ، يا حسرة على المشاجرات التي كانت تحصل بيني وبين أهلي نتيجة سهري الطويل وانشغالي عنهم ... وأنا أقول في نفسي : عندما يتعرفون عليه سيشعرون أن وقتي لم يذهب سدى ... وسيفخرون بي ... ها... ها ... وبدأت تضحك وتضحك ، إلى أن تحوَّل هذا الضحك فجأة إلى بكاء مرير ، أوقفت ليال نتيجته السيارة على زاوية الطريق ، وبدأت تضرب بكلتا يديها مقود السيارة وتقول : لقد خدعني ... لقد خدعني. بقيت مايا محافظة على صمتها ، ولم تتكلم إلا بعد أن هدأت ليال قليلاً وتحوّل ضحكها وبكاءها إلى صمت طويل ، فقالت لها : * اسمعي ، لقد طلبت مني أن لا أتحدث ولكن لن أستطيع أن أصمت أكثر من ذلك ... فهناك كلام يجب أن تسمعيه قبل أن تعودي إلى البيت ... لقد وضعت اللوم على الطرف الآخر ، مع أنه كان من الأولى لك أن تلومي نفسك ... لأنك أنت من وضع نفسك في هذا المأزق ... وأنا حذرتك مراراً من هذا الأمر ... لذا فلا تقولي أنه خدعك ، بل أنت خدعت نفسك لأنك أدخلتها في متاهات عجزت عن الخروج منها. أتذكرين كم مرة قلت لك بأن تتوقفي عن استخدام الإنترنت لأنك إن لم تفعلي فسيصبح عندك إدمان لا يقل خطورة عن إدمان المخدارت والكحول ... حذرتك ولكنك لم تستمعي إليّ واتهمتني بالتخلف والجهل ومحاربة التطور ... بعد ذلك بفترة رأيتك تزيدين من ساعات جلوسك على الإنترنت ، وكنت كلما أحاول الاتصال بك أجد خط الهاتف مشغولاً ... وأذكر أيضاً ذلك اليوم الذي جئتني مرعوبة خوفاً من غضب والدك عندما يعلم بقيمة فاتورة الهاتف المرتفعة جداً ، ولقد كنت محِقَّة في خوفك ، إذ إن غضب والدك من هذا الأمر استمر فترة طويلة ، وهو لم يدفع فاتورة الهاتف إلا بعد أن عمل على قطع خط الإنترنت من البيت ... أذكر هذه الفترة جيداً ... أذكر توترك الشديد في تلك الأثناء ... وأذكر توسلاتك لوالدك بان يُعيد خط الإنترنت مهددة تارة بالدراسة التي قد تتضرر نتيجة حاجتك الشديدة إلى الأبحاث ، ومتوددة تارة أخرى باستخدام الحلفان والوعود بأنك لن تستخدميه إلا ساعة واحدة فقط ...كل هذه الأساليب لم تنفع في ثني والدك عن موقفه الأمر الذي جعلك تبحثين عن البدائل ، حتى أنك في لحظة جنون فكرت في شراء خط هاتف خاص بك ، تتحمّلين أنت مصاريفه ... وأذكر جيداً أنك في تلك الفترة كنت شديدة التوتر وكنت تزدادين شراسة وعنفاً، ولم يهدأ لك بال ، ولم تستعيدي توازنك النفسي إلا بعد أن اتفقت مع شركة كابل وقمت بنفسك بدفع المبلغ الشهري المطلوب ... وارتاح والدك من دفع المال كما ارتاح أيضاً من عصبيتك وتوترك ، أما أنت فقد فقدت راحتك بشكل كليّ وزاد إدمانك على الإنترنت ... ها ... ماذا ؟ أتتذكرين تلك الفترة ؟ -... * مرة أخرى عدت ونبّهتك إلى خطر تحوّلك إلى مدمنة ، كان ذلك في حفلة عرس آسيا زميلتنا ... فلقد أصرّت عليك المسكينة أن تأتي لحضور عرسها فتحجّجت بأن والدك لا يسمح لك بهذا ... بينما أنا كنت أعلم أن الإنترنت هو السبب ، ولكن في تلك الفترة لم أكن على علم بعلاقتك مع هذا الشخص ، بل كنت أحسب أنك تقومين بالأبحاث كما كنت تدّعين دوماً ... لذا قلت لك أن المعلومات التي تجدينها في الإنترنت لا يمكن أن تغنيك عن الكتاب لأنها معلومات مبتورة مبعثرة يحتاج الإنسان في التعامل معها إلى قدرة كبيرة على التمييز بين الغث والسمين ... وقلت لك أيضاً أنك تستبدلين عائلتك وزميلاتك بالإنترنت ... حتى أن بعض الزميلات بدأن يتندرن عليك وعلى الإنترنت ، ولكن كل هذا لم ينجح في جعلك تبدّلين موقفك ، فبدل أن تستمعي إلى نصائحهن قمت بالتخلي عنهن وما عدت تجتمعين مع أحد منهن ، وشيئاً فشيئاً لم يبق لديك صديقة ... وأنا عندما نبّهتك إلى خسارتك صديقاتك قلت لي : غير مهم لقد أصبح لديّ من الأصدقاء أكثر بكثير مما لدي الآن؟ وعندها قلت لك أنه لا يمكن أن تتكوّن صداقة حقيقية عبر الإنترنت ، لأن مراسل الإنترنت لا يستطيع أن يتفاعل معك كما تتفاعل معك صديقتك التي ترينها بشكل دائم، تعانقك عند فرحك ، تربّت على كتفك في حزنك ... قلت لي يومها : إذا كنت منزعجة أنت أيضاً من صحبتي تستطيعين أن تتركيني ... وأنا لن أحزن إذا فعلت هذا ... وقد كنت صادقة فيما تقولين ... لأنك كنت تريدين التخلص من توجيهاتي ... لقد حزنت يومها من كلامك ولكني كنت متشبثة بصداقتك ... لأنني أعرفك جيداً ... أكثر مما يعرفك أصحاب الإنترنت ... وكنت متيقنة أنك ذات يوم ستتغلبين على الأمر وسينتهي هذا الكابوس ... يا عزيزتي ، ما لم تنتبهي إليه هو أنك كنت باستخدامك الإنترنت تهربين من مواجهة مشاكلك اليومية ، لذا كنتِ على استعداد أن تحبّي أي شخص أيّاً كان ، لأنك كنت تبحثين عن وهم ... كنت تحبّين الفكرة وليس الشخص ... وتأكدي أنك لو لم تتعلقي بهذا الشخص لكنت تعلّقت بأي عابر سبيل آخر ... وأنت لو تفكّرت قليلاً لوجدت أن الأسباب التي دفعتك إلى التحدث مع هذا الشخص هي نفسها التي دفعته إلى استخدام هذه الوسيلة التكنولوجية ... أتعرفين ما هي هذه الأسباب؟ إنها الفراغ والوحدة والملل والضياع والبحث عن الذات ... أتعلمين ؟ هذا الرجل الذي كنت معه الآن ، ربما كان متزوجاً ولديه عائلة ولا تدري زوجته المسكينة أن زوجها يخونها ، وقد قرأت مرة أن هناك مصطلح جديد يُعرِّف بهؤلاء النسوة ، يسمونهن : " أرامل الإنترنت " ، ويراد به " النساء اللواتي يعانين من انشغال أزواجهن بالإنترنت لساعات طويلة " ... - انا لم أكن أعلم أنه متزوج ، وهو لم يخبرني أبداً بذلك ... حتى أني لم أكن أعلم عمره الحقيقي ، ولقد سبق أن أريتك الصورة ، لقد كان شاباً يافعاً ... وسيماً ... يا ألله ... كم أنا مغفلة ، يا رب ... سامحني ... عدا ذلك أرأيت كيف كان يجلس وكرشه أمامه ؟ أم كيف كان يأكل ويصدر أصواتاً ؟ معقول ؟ أنا أحب رجلاً مثل هذا؟ معقول ؟ وبدأت تضحك وهي تهزّ رأسها وتقول : غير معقول ... غير معقول ... لقد خدعني ... * هل تعرفين ما الذي حصل ؟ الذي حصل أنك كنت تتكلمين مع آلة وليس مع إنسان ، هذه هي حقيقة الحوار الذي كان يتم بينكما ، أنت تكلمينه ولا ترين الآثار التي تبدو على وجهه ، لا ترينه وهو يتصرف في كل المواقف ، كيف يكلّم الناس ، كيف يأكل ، كيف يضحك ، حتى الضحك على الإنترنت تعابيره مختلفة عن الواقع ... أنت يا صديقتي أحببت آلة ولم تحبي إنساناً ... أتعلمين لماذا يلجأ كثير من الناس إلى الحوار عبر الانترنت ؟ لأنه يسمح لهم بالتواصل مع الآخرين دون أن يتيح لهم فرصة كشف هويتهم الحقيقية ... وهكذا يستطيع الواحد منهم أن يعبّر عما يريد ، ويقول ما يريد ، طالما أن أمره غير مكشوف ... - معك حق ... ما تقولينه صحيح ... فأنا أستحق ما جرى لي ... أستحقه ... ها قد وصلنا إلى بيتك ... سامحيني لقد أخذت الكثير من وقتك ... سامحيني ... * لا عليك ... المهم أن تنتهي من هذا بأسرع وقت ... السلام عليكم ... - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . *** عندما دخلت ليال إلى البيت كانت والدتها في المطبخ ووالدها في العمل ، اتجهت مباشرة إلى غرفتها ... ونامت على سريرها من شدة التعب والبكاء ... عندما استيقظت بعد ساعتين من النوم العميق كانت العائلة مجتمعة في غرفة الجلوس ، دخلت ليال وجلست معهم ، وبدأت تحدثهم وتسألهم عن أخبارهم ، وهم يجيبونها مستغربين هذا التصرف غير المعتاد منها التي ما لبثت أمها ان سألتها عنه : * ليال ، هل تشكين من شيء ؟ أليس لديك عمل على الإنترنت ؟ كيف جرى أنك جالسة معنا اليوم ؟ هل تشعرين بتعب يا حبيبتي ؟ - لا يا أمي ، لا شيء ... لماذا تستغربين ؟ أتريدين مني أن أذهب ؟ * ليال ... ليال ... كان هذه صوت أختها الصغرى تناديها من غرفة الطعام ... - ما بك ؟ ... ماذا هناك ؟ توجهت ليال إلى الغرفة لتجد أختها جالسة على الحاسوب وتقول لها : انظري ... كنت أفتح الإنترنت وقرأت هذه الرسالة ... انظري إنها لكِ ... - من سمح لك أن تفتحي رسائلي ؟ ومنذ متى وأنت تستخدمين الانترنت ؟ * أنا ... ليس من زمن بعيد ... أنا استخدمه فقط في خلال النهار ... فالمعلمة طلبت منا بعض المعلومات ... - بعض المعلومات ... هكذا يبدأ الأمر ... اسمعي حبيبتي ... منذ اليوم لا يوجد لدينا خط إنترنت ... أخبري معلمتك بذلك ... أخبريها بذلك ... وسحبت ليال خط الإنترنت لتعود ثانية إلى غرفة الجلوس لتكمل الحديث وتقول: ماذا كنا نقول؟