بعد أن تمّ لموسى بن نصير فتح بلاد المغرب، وبعد استقرار الإدارة العربية في شمال إفريقيا أخذ يتطلع لفتح أسبانيا، وبدأ يعدّ من مدينة القيروان الخطط لنشر الإسلام في هذه البقعة من أرض أوربا، ويجمع الأخبار عنها، ويستفسر عن أحوالها، وصارت مدينة طنجة مركز عمليات موسى بن نصير في تلك المرحلة الاستطلاعية؛ بسبب قربها من أسبانيا، ولموقعها المباشر على بحر الزقاق (مضيق جبل طريق) المؤدي إلى تلك البلاد الأوربية، وأقام في طنجة منذ تَمّ فتحها أشهر قادة البربر المسلمين؛ وهو طارق بن زياد الذي صار الساعد الأيمن لموسى بن نصير في إعداد خطة فتح أسبانيا، وفي سائر العمليات الحربية الكبرى التي تطلبها تنفيذ تلك الخطة. وساعد طارقا في تلك المرحلة عاملان: أوّلهما أنه من البربر؛ السكان الأصليين لإفريقية والخبيرين بأحوال أسبانيا، وما حفلت به من خيرات وثروات، وثانيهما: أنه ثمرة من ثمار القوة الجديدة للدولة العربية الإسلامية؛ فهو من قبيلة نفزاوة، ومن أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام؛ إذ أسلم والد طارق أيام عقبة بن نافع الفهري، والتحق هو بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، الأمر الذي جعله من أشدّ المقرّبين إلى موسى بن نصير، ومن الطبقة الأولى من رجال البربر الذين اختصّهم بسرّه وثقته المطلقة، وأشركه مشاركة عملية في رفع راية الإسلام، وأثبت طارق بن زياد أنه خير أمين على تنفيذ خطط موسى بن نصير التي بدأ يعدّها لفتح أسبانيا؛ ذلك أن موسى بن نصير - بعد أن فتح طنجة - اتجه إلى مدينة سبتة التي كان يحكمها إذ ذاك رجل من الروم يدعى يوليان، ولكن هذه المدينة استعصت عليه؛ فآثر إرجاء الاستيلاء عليها.. وكلّف طارق بن زياد الذي عيّنه على طنجة مهمّة الاتصال بهذا الحاكم ، وجعل مدينة سبتة نافذة يطلّ منها المسلمون على أسبانيا ودراسة أحوالها، وكشف موسى بن نصير بذلك عن مقدرة سياسية فائقة حين آثر العمل في هذه المرحلة بطريق غير مباشر، وتقديم طارق بن زياد للقيام بالعمل في هذه الجبهة؛ ذلك أن طارقا كان أقدر على الاتصال بالبربر التابعين لحاكم سبتة، وكلهم ممن خبروا أسبانيا وانتقلوا بين أرجائها، ولم تلبث تطورات الأوضاع في سبتة أن هيّأت لطارق بن زياد السير قدما في سبيل تنفيذ خطط موسى بن نصير؛ فقد رأى يوليان حاكم سبتة أن الحكمة تفرض عليه التقرّب من القوة الإسلامية الجديدة التي صارت تجاور أملاكه مباشرة، وأن يقيم معها علاقات ودّية تعوّضه عن الضعف الذي دبّ إلى سلطانه في سبتة.. وكان يوليان أصلا عاملا من عمّال دولة الروم، وحكم إقليم مرطانية الطنجية بحكم كونه قائدا عامّا مفوّضا من قبل الامبراطور، وتولّى يوليان إدارة هذا الإقليم وهو صغير السن، ثم طال به الزمن دون أن تتمكّن دولة الروم من عزله أو استبدال غيره به؛ بسبب انشغالها بالحروب ضد العرب المسلمين الفاتحين في شمال أفريقيا، وأصبح يوليان مطلق التصرف في ولايته، وله صلات ودّية كثيرة مع أهلها من البربر وزعماء القبائل المجاورة له؛ حتى صار خبيرا بتقاليدهم وعاداتهم، وأجاد القيام بها إلى درجة جعلته يبدو كأحد أبناء البلاد الأصليين، لا تابعا لإمبراطورية الروم، ولا يمكن كشف حقيقة لونه السياسي في سهولة ويسر؛ فاختلط على كثير من المؤرخين أمر يوليان حتى ذكر البعض أنه من البربر، على حين قال البعض الآخر : إنه من القوط دون أن يفطنوا إلى تبعيّته أصلا لإمبراطورية الروم.. ولما انهار سلطان الروم في إفريقية بعد الفتوح العربية أخذ يوليان يعمل على تقوية روابطه بدولة القوط في أسبانيا على نحو ما فعل مع جيرانه من البربر؛ ليدعم مركزه ويحفظ أملاكه، ورحّب ملك القوط إذ ذاك - واسمه غيطشة - بولاء يوليان؛ بسبب أهمية سبتة لحماية دولته؛ فهي تتمتع بمركز جغرافي فريد يجعلها مفتاح أسبانيا والحارس الذي يحميها من هجوم قد يشنّ عليها من الجانب الإفريقي؛ فهي قبالة الجزيرة الخضراء من أرض أسبانيا، وتسيطر على المياه التي بينها وبين تلك الرقعة الأسبانية، هذا وتتمتع أسبانيا بموقع طبيعي يجعلها حصنا منيعا في استطاعته أن يقاوم زمنا طويلا أيّ هجوم مفاجئ قد تتعرض له؛ فيوجد على بعد ميلين منها جبل موسى (نسبة إلى موسى بن نصير)، كما يحيط ماء البحر بها من ثلاث جهات مما زاد في مناعتها وقوتها، هذا إلى أنه قام على مقربة منها دار لصناعة السفن التي استخدمت في العبور إلى الأندلس. ورأى يوليان على الرغم من دعم صلاته بدولة القوط في أسبانيا أنّ تطوّر الأوضاع في بلاد المغرب , واستقرار الفتوح الإسلامية بها يفرض عليه حسن الجوار مع الإدارة العربية الجديدة وتجنّب الاصطدام بها؛ ولذا رحّب يوليان بسياسة موسى بن نصير الذي آثر عدم الاستمرار في الاستيلاء على سبتة، وكان موسى قد ترك لقائده طارق بن زياد في طنجة مهمة تنظيم علاقة الجوار مع حاكم هذه المدينة الهامّة الذي يعتبر مفتاح بلاد الأندلس، ونجح طارق في دعم صداقته ليوليان، وبدأ يطلّ من هذه المدينة على أسبانيا , ويدرس أحوالها دون أن يثير مخاوف القوط أو يبعث الريبة في نفوسهم باستعدادات المسلمين الحربية.. وسارت الأمور بعد ذلك في سبتة بما ساعد موسى بن نصير على أن يكمل دراسته الخاصة بفتح أسبانيا , ويعرف المزيد من الأخبار التي تهيّئ للمسلمين القيام بفتوحهم في هذا الميدان الجديد؛ وسبب ذلك أن دولة القوط في أسبانيا تعرّضت لاضطرابات شديدة تردّد صداها في مدينة سبتة، ودفعت بحاكمها يوليان إلى الانتقال من سياسة حسن جواره للمسلمين إلى سياسة التحالف والاتّفاق على تحقيق المصالح المشتركة بينهما، ذلك أن أحد كبار رجال القوط - واسمه رودريك، وهو الذي عرفه العرب باسم لوذريق - استطاع أن يطيح بالملك الحاكم وهو غيطشة، ثم اعتلى العرش، ولم يكتف لوذريق بذلك وإنما أخذ يعمل على إنزال أشدّ ألوان الأذى بأبناء غيطشة وسائر آل بيته. وآتت هذه السياسية الخرقاء من جانب لوذريق ثمرة لم يكن يتوقعها على الإطلاق؛ ذلك أن أبناء غيطشة حين اشتدت بهم المتاعب , وسدّت في وجوههم السبل أخذوا يلجئون إلى جهة أخرى يستمدون منها العون والمساعدة على استرداد حقّهم المسلوب، وكان موسى بن نصير قد بدأ يتطلّع إلى أسبانيا عن طريق نافذة سبتة، ولم تلبث الأحداث أن جعلت سبتة تقوم بدور مباشر في نقل صورة كاملة عن تلك الأحوال السائدة في أسبانيا إلى موسى بن نصير، فضلاً عن قيامها بدور الوساطة بين أبناء غيطشة وموسى بن نصير، ووجد أبناء غيطشة من يوليان حاكم سبتة رسولا إلى موسى بن نصير، وساعِدا ومعاضدا لمشاريعهم؛ بسبب سوء العلاقات التي وقعت إذ ذاك بين هذا الحاكم وبين لوذريق، وتذكر المراجع أن سبب سوء العلاقات يرجع إلى اعتداء لوذريق على شرف ابنة يوليان التي كانت تتعلّم في طليطلة، وكانت العادة قد جرت على أن يبعث كبار رجال الدولة من القوط بأبنائهم إلى طليطلة ليتأدّبوا بآداب البيت المالك، وليكون ذلك سبيلا لتأليف القلوب. وأسهبت المراجع في قصة ابنة يوليان؛ فوصفتها بأنها بارعة الجمال، فلما صارت عند لوذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبّها حبّا شديدا، ولم يملك نفسه حتى أكرهها، فاحتالت حتى أعلمت والدها بذلك سرّا بمكاتبة خفيّة؛ فأحفظه شأنها جدّا واشتدّت حميّته وقال: ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه، ولأحفرنّ تحت قدميه! ورأى يوليان أن يحتال أوّلا لاستدعاء ابنته من بلاط لوذريق؛ فخرج بنفسه في يوم من أيام الشتاء البارد دون أن يأبه بمخاطر الطريق، وعندما وصل إلى طليطلة أوجس منه لوذريق خيفة بسبب حضوره في ذلك الوقت غير الملائم، وسأله عمّا لديه، وما جاء فيه، ولِمَ جاء في مثل وقته؟ فأجاب يوليان بأن سبب حضوره هو أن زوجته مريضة مرض الموت، وأنها في شدّة شوقها لرؤية ابنتها التي هي عنده، وتمنّيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحبّ إسعافها ورجا بلوغ أمنيتها منه، وانخدع لوذريق بهذه الحجّة وسمح لابنة يوليان بالعودة إلى أبيها بعد أن استوثق منها بألا تطلعه على ما حدث بينهما. وبعد أن استقرّ يوليان ومعه ابنته في سبتة بدأ يكشف نواياه صراحة، وأخذ يساعد أبناء غيطشة والعناصر المناوئة للوذريق في أسبانيا، فأعدّ يوليان حملة نزلت بأسبانيا، واشتركت مع الثوّار في أعمالهم الحربيّة، لكن قوّات لوذريق استطاعت الحصول على النصر، ودمرت حملة يوليان واضطرّتها للعودة إلى سبتة، وما أن انتهت هذه الحروب في أسبانيا عن فوز لوذريق حتى أيقن يوليان أنه لم يعُد أمامه مفرّ من الاتجاه نحو السلطات العربية في القيروان وطلب مساعدتها ضدّ لوذريق، واتصل يوليان بطارق بن زياد طالبا مساعدة العرب له ضدّ لوذريق، ونقل طارق أخبار المفاوضات التي دارت بينه وبين يوليان إلى موسى بن نصير الذي وجد أن الوقت قد حان لفتح الأندلس، ثم تحقّق موسى من صدق ما نقله إليه طارق حين ذهب يوليان نفسه إلى القيروان ليعرض وجهة نظره على السلطات العربية هناك؛ إذ أكّد يوليان لموسى بن نصير الخير الوافر الذي سيعود على العرب من القيام بغزو الأندلس ومساعدتهم له ضدّ لوذريق، ووجد موسى بن نصير أن كلّ الظروف قد أصبحت سانحة للانتقال إلى ميدان جديد حافل بالمجد والفخار، وأعلن موافقته على مساعدته ضدّ لوذريق، واستطاع بذلك أن يستفيد من الموقف السياسي الذي ساد حكام الأندلس، وأن يسخره لخدمة الجيوش الإسلامية المجاهدة. وكتب موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح تلك البلاد، ويشرح له اضطراب أحوالها وأنّ الفرصة غدت مواتية بعد مؤامرة يوليان ضدّ لوذريق، غير أن الخليفة أمر موسى بأن يختبر الأندلس ويدرس أحوالها بنفسه بإرسال حملات استطلاعية إليها، وعهد موسى بن نصير إلى يوليان نفسه القيام بإغارة على جنوب أسبانيا ليتحقّق بذلك من أمرين: أولهما أن يوليان جادّ في دعواه ضدّ لوذريق، وكراهيته له ولحكومته في أسبانيا، وثانيهما: أن يعرف مِن المقاومة التي يتعرض لها يوليان مدى قوّة القوط وما لديهم من استعداد حربي، وقام يوليان فعلا بإغارة سريعة على جنوب أسبانيا، ورجع منها محمّلا بالكثير من الغنائم والسبي. فتح جزيرة طريف: وأراد موسى بن نصير أن يقف بعد ذلك بنفسه على أحوال أسبانيا؛ فأعدّ حملة من المسلمين جعل على رأسها أحد قادته المشهورين بالمغامرة والشجاعة، وهو أبو زرعة طريف بن مالك؛ فبعث هذا القائد إلى الأندلس في أربعمائة من خيرة الفدائيين، وذلك على سفن قدّمها لهم يوليان، ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة اسمها بالوماس، وهي التي صارت تحمل بعد ذلك اسم القائد المسلم وعرفت بجزيرة طريف، وبادرت قوّة مكونة من أبناء غيطشة التي اشتركت في الحملة إلى مساعدة المسلمين وحراسة المضيق، وذلك في شهر رمضان عام 92هـ يوليو 711م، وشنّ طريف من مركزه بتلك الجزيرة عدّة حملات استطلاعية على سواحل أسبانيا الجنوبية، حيث درس تحصيناتها وعرف الكثير من أحوال أهلها ومدى علاقتهم بحكامها من القوط، وأخيرا عاد طريف إلى بلاد المغرب؛ فقدّم تقريرا مفصّلا عن إغاراته إلى موسى بن نصير، وشرح له في إسهاب أحوال أسبانيا، وقد أكّدت غارة طريف لموسى بن نصير صدق الأقوال التي نقلها إليه يوليان عن انهيار الأحوال في أسبانيا وافتقارها إلى أسباب الدفاع؛ بسبب انشغال القواد بملاذهم وانصرافهم إلى أعمال الطغيان وسلب ثروات البلاد لأنفسهم؛ فلم يلق طريف نوعا من أنواع المقاومة، كما لم يقابل قوّة من قوات القوط أثناء استطلاعه لأحوال جنوب أسبانيا .. هذا إلى أن مبادرة أفراد بيت غيطشة إلى مساعدته وحراستهم لخطوط مواصلات المسلمين جاء دليلا واضحا على الانقسام الذي ساد الطبقة الحاكمة من القوط، وأن لوذريق لا يحكم إلا بالعنف والقسوة، وهو أمر لن يكفل له مقاومة المسلمين طويلا عندما يبدأ الفتح الإسلامي للبلاد، هذا إلى أن يوليان برهن مرة أخرى بما قدّمه من مساعدات لحملة طريف على أنه كاره فعلا للوذريق، وأن المؤامرة التي دبّرها مع أبناء غيطشة ضدّ هذا الحاكم المستبدّ مؤامرة لها خطرها، وأن خيوطها صحيحة وسليمة وبعودة حملة طريف انتهى موسى بن نصير من دور الحملات الاستطلاعية، وبدأ الإعداد الفعلي للفتح المنظّم لأسبانيا، وأثبت موسى بن نصير مقدرة حربية فائقة في هذا السبيل؛ إذ دارت الاستعدادات الحربية التي قام بها دون أن يتسرّب أمرها إلى القوط، ودون أن يتنبّه يوليان نفسه إلى حقيقة أهدافها وجوهر مراميها؛ فقد استطاع موسى بن نصير أن يوهم يوليان بأن استعداداته الواسعة النطاق التي أعقبت حملة طريف ما هي إلا حملة قوية لمساعدة أبناء غيطشة ضدّ لوذريق، وأخفى عنه تماما أنها ستكون الحلقة الأولى في سلسلة الفتح المنظّم لأسبانيا، وأعدّ موسى بن نصير حملة مكوّنة من خمسة آلاف جندي حتى لا يثير كثرة عددها ريبة يوليان أو مخاوفه، وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير في ذلك الإعداد على النهج الذي سارت عليه الفتوح الإسلامية الكبرى في شتىّ الجهات، وهو القيام أوّلا بإرسال حملة صغيرة العدد يتبعها إمدادات لا تنتهي - سواء من حيث الكثرة أو حسن الاستعداد - حتى يتم تحقيق الأهداف الحربية، وانتدب موسى لقيادة هذه الحملة الأولى على الأندلس أحسن قادة المسلمين إذ ذاك وأشدّهم ثقة به وهو: طارق بن زياد جاء اختيار موسى بن نصير لطارق بن زياد لقيادة هذه الحملة خطوة موفّقة، وأكّد بُعد نظر موسى وسعة خبرته الحربية؛ فطارق من البربر الذين عرفوا أرض الأندلس معرفة وثيقة؛ لأنهم يرونها امتدادا لبلادهم لا فارق بين بيئتها وبيئتهم، يضاف إلى ذلك أن طارقا هو الذي تولّى بنفسه جمع المعلومات عن بلاد الأندلس، وتولّى مفاوضات يوليان، وصار خبيرا بالميدان الجديد في سائر نواحيه الحربية والسياسية، وعمل موسى بن نصير على أن يشدّ أزر طارق الذي عهد إليه بالقيادة العليا للحملة؛ إذ ضم إليه هيئة من كبار رجال الحرب من العرب والبربر ليكونوا بمثابة مجلسه الاستشاري ومساعديه في إدارة المعارك، ومن أولئك القادة العرب: عبد الملك بن أبي عامر المغافري، وعلقمة اللخمي، وأحد موالي الخليفة الوليد بن عبد الملك ، واسمه مغيث الرومي، وكان القائد الأخير يعتبر مندوب الخلافة الحربي في تلك الحملة التي أعدّها موسى بن نصير، وحلقة الاتصال بين السلطات المركزية في دمشق ومقرّ القيادة الإسلامية في القيروان، وكلّف موسى بن نصير بعد ذلك يوليان بأن يقدّم للقوات الإسلامية السفن اللازمة لنقلها إلى أسبانيا، كما يتولى حراستها ويقوم بمهمة الدليل لها، وكان السبب في إصرار موسى بن نصير على الاعتماد في نقل الجند بسفن يوليان هو حرصه الشديد على إخفاء تحركات هذه الحملة عن العيون والجواسيس؛ فالأسطول الإسلامي كان قد تمّ إعداده على عهد موسى بن نصير ، وصارت له قاعدة هامة في تونس، كما ظهر نشاطه في السيطرة على الجزر الهامة في غرب البحر المتوسط، ولذا كانت تحركات هذا الأسطول محطّ أنظار الجميع ولا يمكن إخفاء أمرها .. ولما كان موسى بن نصير يستهدف مفاجأة القوط بالأندلس لم يكن أمامه سوى الاعتماد على سفن يوليان التي لا تثير الريبة في نفوس من يشاهدها وهي تعبر بحر الزقاق (مضيق جبل طارق)، وكان لدى يوليان أربع سفن لا تتّسع لنقل أفراد الحملة مرّة واحدة، ولذا تمت عملية عبور بحر الزقاق على دفعات، وأخذت كل جماعة يتمّ نقلها تختفي في جهات خصّصت لها على الشاطئ الأسباني، حتى انتهى الجميع من العبور وذلك عام 92هـ (711م). وبادر طارق بن زياد بتحصين القاعدة الأولى التي استولى عليها في جنوب أسبانيا قبل التوغّل في داخل البلاد، ثم استولى على بلدة الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، وصار بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) في قبضة المسلمين وعلى اتصال وثيق بسبتة قاعدة الاتصال الأولى ببلاد المغرب. وتمت المرحلة الأولى بذلك من نزول الحملة الإسلامية في أسبانيا دون مقاومة تذكر، وكان السبب في ذلك هو أن موسى بن نصير اختار وقت قيام حملة طارق وفق أدقّ المعلومات التي وصلته، وكانت المخابرات الإسلامية تتبع حركات لوذريق وتتحيّن الوقت المناسب لبدء الحملة، وسرعان ما سنحت الفرصة حين ذهب لوذريق إلى أقصى شمال أسبانيا ليخمد ثورة قام بها سكان جبال البرانس المعروفة باسم القبائل البسقاوية، وكانت تلك الجموع القبلية مشهورة بالمراس وقوة الشكيمة، مما جعل لوذريق يأخذ معظم جيشه معه، وأصبح جنوب أسبانيا خاليا تماما من أسباب الدفاع عنها، ولذلك لم تشعر سلطات القوط بنزول المسلمين في جنوب البلاد إلا بعد أن استقرّت دعائمهم ومكّنوا لأنفسهم على بحر الزقاق، فعبأت قوات سريعة وأرسلتها على عجل للهجوم على المسلمين تحت قيادة (بنج) المعروف باسم (بنشو) في المراجع الأسبانية، ولكن القوط لقوا هزيمة فادحة لم ينج منهم إلا واحد استطاع الهرب والذهاب إلى معسكر لوذريق في أقصى الشمال، ونقل إليه أنباء تلك الكارثة وهجوم المسلمين على البلاد .. وكان لوذريق يقيم في مدينة بنبلونة بأقصى الشمال حيث يدير الحرب ضد القبائل البسقاوية، ولذا صمّم العودة سريعا إلى الجنوب والهجوم على المسلمين قبل أن يتوغّلوا في داخل البلاد، وكان لوذريق من أشهر رجال القوط في ميدان الحروب؛ إذ قدّر تماما الخطر الذي أحاط بدولته بسبب نجاح المسلمين في اتخاذ قاعدة لهم عند جبل طارق، وأدرك أنهم جاءوا للفتح وليس للإغارة من أجل السلب والنهب والحصول على المغانم كما راجت الإشاعات بذلك، ومن ثم عمد إلى جمع صفوف القوط لمواجهة المسلمين؛ فاتصل بأبناء غيطشة وصالحهم ليكونوا جميعا يدا واحدة، ولكن أعمال لوذريق في تلك السبيل جاءت متأخرة؛ لأن بيت غيطشة ظلّ على ولائه سرّا للخطة التي وضعها يوليان، ولم ينس ما حلّ به من أذى واضطهاد وتشريد على يد لوذريق، وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء هذا البيت في اعتقادهم أن المسلمين لم يأتوا للفتح ولكن للحصول على المغانم مقابل مساعدتهم في القضاء على لوذريق .. وزحف لوذريق بجيشه سريعا واحتلّ قرطبة؛ ليحول بين المسلمين وبين الاستيلاء عليها؛ لأنها المفتاح الذي يسيطر على سهول الأندلس الجنوبية الشرقية، ويمكن لصاحبها من الاستقرار في البلاد. وكان طارق بن زياد يريد فعلا الاستيلاء على قرطبة؛ فقد زحف على هذه المدينة بعد انتصاره في جنوب أسبانيا، وسلك الطريق المارّ بجزيرة طريف (الجزيرة الخضراء) ثم زحف شمالا بعد ذلك حتى اقترب من بحيرة الخندق التي يخترقها نهر صغير يسمى البرباط، وفي ذلك المكان مدينة صغيرة سمّاها المسلمون (بكة) ونسبوا إليها النهر الذي صار يعرف باسم وادي بكة، وحرف بعض المسلمين هذه التسمية إلى وادي لكة، وعند وادي بكة عرف طارق بن زياد عن طريق عيونه أن لوذريق علم بنبأ الحملة الإسلامية وأنه وصل إلى قرطبة واستولى عليها، كما أنه تابع زحفه جنوبا واتخذ معسكره عند بلدة شذونة في سهل البرباط، وأنه صار بذلك على أهبة القتال .. وذكرت بعض المراجع أن جيش القوط بقيادة لوذريق بلغ عدده مائة ألف مقاتل وضمّ عددا عظيما من الفرسان، ويرجح أن هذا العدد مبالغ فيه، وأدرك طارق بن زياد أن العدد الذي معه من جند المسلمين لا يكفي لقتال قوات لوذريق الهائلة؛ ولذا أرسل إلى موسى بن نصير يشرح له الموقف ويطلب إليه إرسال الإمدادات بسرعة، فأمدّه موسى بن نصير بحملة عددها خمسة آلاف مقاتل بقيادة طريف بن مالك الذي قاد أول حركة استطلاعية في أرض أسبانيا، ونقل هؤلاء الجنود مرّة واحدة على سفن الأسطول العربي إلى أسبانيا، ووصلت الإمدادات الإسلامية إلى طارق في اللحظة الحاسمة التي كان القوط على وشك شنّ الهجوم على المسلمين .. وأعدّ طارق بن زياد قواته للمعركة، ثم وقف بين جنده خطيبا يحثّهم على الاستبسال في القتال، شأنه في ذلك شأن قادة الفتوح العربية الذين دأبوا على رفع روح جندهم المعنوية بإلقاء خطاب حماسي بينهم قبل نشوب المعركة، وتعتبر خطبة طارق من روائع الأدب العربي، ومما جاء في هذه الخطبة: "أيها الناس! أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر والصدق، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوّضت القلوب عن رعبها فيكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفة الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي؛ فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقبان، المصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.. أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه؛ فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة الراحة من المهانة والزلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة فإنكم إن تفعلوا - والله معكم ومفيدكم - تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه؛ فاحملوا بحملتي". وفي الوقت الذي أثرت فيه خطبة طارق تأثيرا كبيرا في نفوس جنوده ورفعت من روحهم المعنوية كانت العناصر الحانقة على لوذريق تحدث أعمالها وتدفع بكثير من أولئك الغاضبين إلى الانضمام إلى جيش طارق، ووقف الفريقان على ضفتي النهر أخيرا استعدادا للقتال، وكان المسلمون ببساطتهم ويقظتهم موضع الهيبة في النفوس، على حين كان منظر القوط يدعو إلى السخرية والازدراء؛ إذ جلس لوذريق في عربة مطهمة يجرها جوادان وعليه أثواب الحرير البراقة، وهو يحاول عبثا بثّ روح الحماسة في جنده، وكان في جيشه اثنان من إخوة غيطشة، وهما: أبه وششبرت اللذان صالحهما بغية توحيد صفوف القوط، وجعل أحدهما على الخيالة التي كانت عماد جيش القوط، وفي يوم الأحد 28 من رمضان عام 92هـ (19 يوليو 711م) .. بدأت المناوشات بين الجانبين على وادي البرباط بالقرب من بلدة شذونة، واستمرت المناوشات ثلاثة أيام أظهر فيها كل من الجانبين الكثير من ضروب الشجاعة والبسالة دون أن يحصل أحدهما على نصر يذكر، غير أن أتباع يوليان نشطوا في أثناء القتال وبثّوا رجالاتهم وسط جند لوذريق ليصرفوهم عنه ويؤكدوا لهم أن المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس للفتح والاستقرار ولكن للقضاء على هذا الطاغية، وأنه إذا تمّ القضاء على حكم لوذريق عادت البلاد ملكا لهم ينعمون بخيراتها، ونجحت دعايات يوليان بين فرسان القوط، خاصة تلك التي كان يتولى قيادتها أحد إخوة غيطشة ملك القوط السابق الذي قضى عليه لوذريق، وفي اليوم الرابع من المعركة ظهرت نتائج دعايات يوليان بين صفوف جيش لوذريق؛ فقد تخلى عنه جماعات الخيالة التي كانت العامود الفقري للعمليات الحربية، وأدى ذلك إلى وقوع الاضطراب بين سائر جند القوط وهرب الكثيرون منهم طلبا للنجاة، هذا إلى أن غالبية الجيش اشتملت على أعداد كبيرة من العبيد الساخطين على حكم القوط المتمنين زواله، ووجدوا في تلك المعركة فرصتهم للخلاص مما حلّ بهم من ظلم واضطهاد، ولما أخذت مظاهر الفوضى تسود الجيش بسبب انسحاب الخيالة تراخى العبيد عن القتال وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وفرّ لوذريق تاركا عددا كبيرا من القتلى على أرض الميدان، وحسب البعض أن لوذريق غرق في النهر الذي دارت المعركة بقربه؛ لأن الجند وجدوا على الشاطئ بعد انتهاء القتال خفّه دون أن يعثروا له على أثر، غير أن لوذريق أبى الاستسلام بعد الهزيمة الساحقة التي نزلت به، وفرّ إلى داخل البلاد دون أن يكشف أحد أمره، مستهدفا جمع فلول القوط مرة أخرى والانتقام ممن انضمّ من رجاله إلى المسلمين.. وبعث طارق بأنباء انتصاراته إلى موسى بن نصير الذي أبلغها بدوره إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، وبدأت راية الإسلام تعلو خفاقة فوق غرب أوربا للمرة الأولى في التاريخ، وازدادت قوات طارق بن زياد بعد معركة وادي بكة؛ لأن الإمدادات انهالت عليه من المغرب، ورأى طارق أن يتابع زحفه دون إبطاء ليستولي على قرطبة ويقضي على ما بها من بقايا جيش القوط، غير أنه لقي في الطريق إلى هذه المدينة مقاومة عنيفة جعلته يعدل عن خطته ويبادر بالاستيلاء على طليطلة عاصمة دولة القوط ويتوج بذلك انتصاراته في أسبانيا، وكان السبب في هذا التطوّر الجديد هو ما بلغ طارقا من أن أنصار لوذريق حين ترامت إليهم الشائعات بأن ملكهم لم يقتل بدءوا يجمعون صفوفهم مرّة أخرى في طليطلة لمقاومة المسلمين، ومن ناحية أخرى أخذ أنصار الملك السابق غيطشة يجتمعون في طليطلة ويتشاورون فيما بينهم لإعلان أحدهم ملكا مكان لوذريق المهزوم، ولذا عجل طارق بإرسال جزء من جيشه للاستيلاء على قرطبة ليحمي ممتلكاته بجنوب أسبانيا، على حين انطلق بنفسه سريعا إلى طليطلة قبل أن يتمكّن أتباع لوذريق من تحصينها، وقبل أن يصل أبناء غيطشة أيضا إلى قرار يصعب على المسلمين مواجهته، ذلك أن بيت غيطشة ظلّ واهما حتى تلك الأحداث بأن المسلمين ما جاءوا إلا للمغانم مقابل مساعدة أبناء غيطشة للوصول إلى العرش .. واستولى طارق بن زياد على مدينة طليطلة في سهولة ويسر؛ لأن القوط آثروا تجنّب لقاء المسلمين انتظارا لما تسفر عنه استعداداتهم، وحاول طارق أن يتتبع فلول القوط الهاربة من طليطلة حتى بلغ مدينة أطلق عليها (المائدة) على مقربة من هنارس، وهناك عثر المسلمون على كنز ثمين، عبارة عن مذبح كنيسة طليطلة المحلى بأغلى ما كان لدى القوط من الذهب والجواهر، غير أن طارقا اضطرّ إلى العودة إلى طليطلة لأن الصيف كان قد انقضى؛ فآثر البقاء في العاصمة دون أن يعرض جنده لبرد الشتاء القارس، وفي طليطلة بلغه أن جيشه الذي بعث به إلى قرطبة قد استولى عليها وقد شعر موسى بن نصير أن زحف طارق وراء فلول القوط يوشك أن يعرض الفتوح الإسلامية في البلاد الأسبانية المترامية الأطراف لخطر محقّق، ذلك أن خطوط مواصلات المسلمين فيما بين طليطلة والجزيرة الخضراء وبلاد المغرب صارت غير آمنة؛ لأن المعاقل الكبرى المبعثرة على امتداد تلك الخطوط لم تخضع للمسلمين، ولم يسيطر طارق إلا على قرطبة فقط من بين تلك المعاقل المتعددة، هذا إلى أن قرطبة لم يكن بها سوى حامية صغيرة لا تستطيع أن تؤدي رسالتها كما ينبغي إذا انبعثت أية حركة مقاومة بين صفوف القوط .. وأول من شعر بالخطر الذي بات يهدّد المسلمين في أسبانيا هو القائد يوليان الذي قام إذ ذاك في الجزيرة الخضراء ليؤمن خطوط مواصلات المسلمين بين أسبانيا والمغرب، وذلك في الوقت الذي اندفع فيه طارق بن زياد إلى طليطلة عاصمة القوط، فقد بعث يوليان مجموعة من رجاله مع المسلمين عند توغّلهم في البلاد، واستطاعت بفضل خبرتها وأهلها أن تدرك ما يدور في نفوس القوط من غدر، وأنهم يتجمّعون وفق خطة مرسومة لإنزال الهزيمة بالمسلمين، أفضى يوليان إلى طارق بما جاءه من أخبار وطلب منه القيام بعمل حاسم لتأمين ظهر جيوشه، غير أن طارقا آثر البقاء في طليطلة دون القيام بأية أعمال توسيعية، ثم كلّف يوليان بأن يتصل بموسى بن نصير في القيروان ، ويطلب إليه سرعة المجيء إلى أسبانيا لإنقاذ الموقف. ولما جاءت استغاثة طارق إلى موسى بن نصير أدرك أن مخاوفه من انطلاق طارق في فتوحه بعد معركة وادي بكة لها ما يسوغها، وأسرع موسى بإعداد جيش مكوّن من ثمانية عشر ألفا من خيرة جنده، وكان معظمهم من العرب والبربر الذين عرفوا بقوّة الشكيمة وشدّة المراس، وممن اشتهروا ببلائهم في ميدان الحروب ببلاد المغرب، وغادر موسى بلاد المغرب على عجل، وقسّم موسى بن نصير جيشه بحسب القبائل ليسهل عبورها إلى الأندلس دون أن تقع فوضى في صفوف الجند، وفي رمضان عام 93هـ (يونيه 712م) كان موسى بن نصير قد غادر المغرب ووصل إلى الجزيرة الخضراء في الأندلس، وشيّد بها مسجدا وانتظر هناك حتى تمّ عبور سائر الجند واطمأنّ على سلامتهم وحسن ترتيبهم .. وفي تلك الأثناء أسرع يوليان إلى لقاء موسى بن نصير وعقد معه مجلسا حربيا للتشاور في هذا الموقف الخطير، وقرر هذا المجلس الحربي أن الضرورة تقضي بالسيطرة أوّلا على المعاقل التي تركها طارق والتي باتت خطرا يتهدد المسلمين، وبعث موسى بن نصير عقب هذا المجلس الحربي الهام رسالة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالانتظار في طليطلة، وألا يقوم بعمل حربي إلا بإشعار آخر. وردّدت بعض المراجع أن موسى لم يقدم على هذا العمل والعبور إلى الأندلس إلا منافسةً لطارق ورغبة استبدت به لينال بدوره نصيبا كبيرا من الغنائم، وأن الحسد كان يأكل قلبه، وأنه صمّم على محاسبة طارق على أعماله، وأنه رأى أن يتولى بنفسه فتوحا أخرى أعظم مما قام به هذا القائد. وقد وقعت تلك المراجع في هذا الخطأ الفاحش لأنها صوّرت موسى وطارقا تصوير القائدين المختلفين، وأنّ كلا منهما كان يعمل دون علم الآخر، والمعروف أن طارقا لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن نصير الذي تولى القيادة العليا ورسم الخطط، وأمدّ طارقا بكل المساعدات الحربية ولا سيما في ساعة الخطر بعد معركة وادي بكة، هذا إلى أن طارق بن زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدّم المسلمين خطوة خطوة، مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب، ومن ثمّ لم يكن هناك سبب يدعو موسى لأن يحقد أو يحسد طارقا على ما تم على يديه من فتح؛ لأنه شارك في هذا الفتح وأعدّ خططه، هذا إلى أن موسى لم يكن يتطلع بعبوره إلى الأندلس إلى الحصول على مغانم؛ لأن توزيع الغنائم وغيرها من ممتلكات القوط كان هو المرجع الأخير فيه والحقيقة أن موسى بن نصير باعتباره القائد الأعلى قد أفزعه زحف طارق السريع بعد معركة وادي بكة، وتعريضه خطوط مواصلات المسلمين لخطر محقّق؛ بسبب تركه الكثير من المعاقل والمدن الهامة جريا وراء مطاردة القوط، ولذلك بادر موسى برسم خطة للسيطرة أوّلا على المراكز الحربية وغيرها في المدن التي كانت تهدّد خطوط مواصلات المسلمين، وليدعم فتوح المسلمين قبل الذهاب إلى طارق في طليطلة. وتنهض هذه الخطة التي وضعها موسى دليلا على أنه لم يكن يهدف إلى القيام بفتوح جديدة تغطي أخبارها وعظمتها ما قام به طارق، وأن مجيئه إلى الأندلس كان ضرورة حربية ملحّة وإصلاح خطأ وقع فيه قائده طارق فتح إشبيلية وماردة: وعمد موسى بن نصير إلى تأمين خطوط مواصلات المسلمين بين الجزيرة الخضراء التي نزل فيها وبين قرطبة التي تعتبر مفتاح السيادة في جنوب الأندلس؛ فعجل بالسير في بلدة شذونة، ومنها زحف إلى قرمونة ورواق واستولى عليهما، وبذلك أصبحت المحطّات الهامة على الطريق إلى قرطبة في أيدي المسلمين، وصار في استطاعتهم التقدّم من تلك القاعدة نحو الغرب، وفتح مدينة إشبيلية التي كانت أكبر مدن القوط بعد العاصمة طليطلة ومصدر الخطر المباشر على القوات التي كانت تحت قيادة طارق في داخل البلاد، وكانت إشبيلية تعتبر نقطة التقاء للطرق الهامة في جنوب الأندلس، ولا سيما التي تربط الجزيرة الخضراء بداخل البلاد، فكانت هناك طريقان يربطان إشبيلية بالجزيرة الخضراء التي جعلها موسى مركزا لالتقاء جنده في أسبانيا، وكان أحد هذه الطرق بحريا والآخر بريا، وعلى كل منهما محطات كثيرة ومعاقل هذا إلى أن إشبيلية اشتهرت بأسوارها الحصينة ومتاجرها الواسعة، وبهذا أصبحت قاعدة كبيرة من قواعد الفتوح الإسلامية في أسبانيا. وبعد أن استولى موسى بن نصير على مدينة إشبيلية اكتفى بوضع حامية بها، وأسرع إلى الاستيلاء على مدينة ماردة التي كانت معقلا خطيرا في أيدي القوط خلف خطوط المسلمين، ووجد موسى بن نصير مدينة ماردة قوية الحصون وأشدّ منعة من إشبيلية؛ فكان لها أسوار منيعة يعلوها الأبراج والحصون القوية، ثم إن فلول القوط وأنصار لوذريق جعلوا تلك المدينة ملجأ لهم بسبب بعدها عن طريق المسلمين، كما كانت المسالك إليها وعرة صعبة، ولذا استغرق حصار المسلمين لها آخر الصيف والشتاء التالي له دون أن يسيطروا عليها، ودار حولها قتال عنيف سقط فيه كثير من الضحايا، فقد أعدّ موسى بن نصير كمائن كثيرة أخفاها في جهات صخرية مواجهة للمدينة، أنزلت ضربات قاصمة بالقوط كلما رغبوا في الخروج إلى معاقلهم، وقتل كثير من المسلمين أيضا في محاولاتهم ثقب سور المدينة. ولم يستقرّ الأمر لموسى في ماردة إلا بعد جهد شاق بذل فيه الكثير من الوعود لأهلها الذين سلموا بعدها في شوال عام 94هـ (يونيو 713م). وبعد أن غادر موسى بن نصير مدينة إشبيلية وبدأ حصار ماردة جمع القوط فلولهم في المدن المجاورة وفاجئوا الحامية الإسلامية في إشبيلية وقتلوا منها ثمانين فردا، وأجبروا الباقين على الخروج من المدينة، وآثر موسى بن نصير الاستمرار في حصار ماردة حتى استولى عليها، ثم بعث بابنه عبد العزيز إلى إشبيلية لطرد القوط منها. واختار موسى بن نصير بعد ذلك للمدن التي استولى عليها نفرا من خيرة قادته ممن اشتهروا باليقظة والبطولة. واضطر موسى بن نصير أمام تلك المقاومة العنيفة التي لقيها جيشه إلى أن يريح جنده في مدينة ماردة مدة شهر تقريبا قبل أن يستأنف السير إلى طليطلة لمقابلة طارق، وأدرك موسى بن نصير أن القوط يهدفون إلى الهجوم على المدن التي يستولي عليها؛ من أجل دفع طارق بن زياد إلى مغادرة طليطلة لنجدة موسى بن نصير ثم يستردون مدينة طليطلة في غيبة القوات الإسلامية عنها، ولذا عمد موسى إلى تشتيت خطة القوط بأن يظلّ يقاومهم أطول فترة ممكنة دون أن يطلب إلى طارق مساعدته. ولكن ما كاد موسى يغادر مدينة ماردة حتى جاءته الأخبار أن لوذريق نفسه - ملك القوط الذي فرّ بعد معركة وادي بكة - بدأ ينظم فلول جيشه ويجمع أتباعه استعدادا للهجوم على المسلمين مرة أخرى، ثم إن لوذريق بعد أن آثر البقاء ساكنا ليضرب ضربته الأخيرة في عنف وشدة، اختار قوات موسى بن نصير لتكون هدفه ليهدم بذلك خطط الفتوح الإسلامية كلها في الأندلس مرة أخرى، واتخذ لوذريق مركز مقاومته في شعاب الهضاب التي تلي وادي آنه إلى الشمال في جبال سيرا دفرانشيا على أبواب قشتالة واستراما دورة في السهل المنبسط الذي يحيط بمدينة سلمنقة. وأجاد لوذريق إخفاء قواته في تلك الجهة الوعرة حتى إن موسى بن نصير اضطرّ أن يتخلى عن خطته، وأن يطلب من طارق بن زياد الخروج من طليطلة وأن يلقاه في منتصف الطريق بين تلك العاصمة وماردة؛ لينقذ المسلمين إذا ما دهمهم خطر مفاجئ. وسار طارق نحو مائة وخمسين ميلا، واتخذ مكانه في الجهات المعروفة باسم العرض بين التاجة ونهر التتار، وسار موسى بن نصير مع قواته في طريق روماني قديم يصل ماردة وسلمنقة، وبجوار نهر حمل اسمه فيما بعد، وهو نهر (فاموتا) أي نهر موسى، وذلك بعد أن اتخذ كل الاحتياطات حتى لا يؤخذ على غرة. ولما وصلت القوات الإسلامية إلى منتصف الطريق السالف الذكر اعتقد لوذريق أن الوقت قد حان ليضرب ضربته الأخيرة، وأن المسلمين لن يجدوا من ينقذهم أو يبادر إلى مساعدتهم، وعند ناحية اسمها السواقي على مقربة من ثمامس شنّ لوذريق هجومه دون أن يدري أن موسى بن نصير قد اتخذ كل الوسائل ليحمي قواته ويجنبها الأخطار، ولذا صمد المسلمون لهجوم القوط وأنزلوا بهم خسائر فادحة، وقتلوا كثيرا منهم من بينهم لوذريق نفسه الذي قتله مروان بن موسى بن نصير، وصار الطريق إلى طليطلة مفتوحا أمام موسى بن نصير فسار حيث التقى بطارق بن زياد وقواته التي كانت قد غادرت تلك المدينة في سبيلها إلى مقابلته في عرض الطريق استعادة فتح طليطلة: ولما كان هجوم لوذريق على قوات موسى بن نصير شعبة من مؤامرة مزدوجة استهدف طرفها الثاني السيطرة على طليطلة وانتزاعها من المسلمين إذا ما خرج طارق منها لنجدة إخوانه؛ فإن جماعات من القوط انتهزت خلوّ العاصمة من الحامية الإسلامية واستولت عليها إكمالا لحلقة المقاومة ضدّ المسلمين، غير أن القوات الإسلامية المشتركة بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد تمكنّت من هزيمة القوط والسيطرة على طليطلة مرة ثانية، وبذلك انتهت مقاومة لوذريق وجنده بمجيء قوات موسى بن نصير على عجل، ولولا ذلك لانهارت أعمال طارق وأصيب جنده بكارثة مروعة. وفي مدينة طليطلة أخذ موسى بن نصير يحاسب طارقا على اندفاعه الذي كاد ينزل بالمسلمين كارثة محقّقة، ولا سيما بعد أن ثبت عمليا أن القوط كانوا قد أعدّوا حركة مقاومة عنيفة، ورددت بعض المراجع أن موسى شدّ وثاق طارق وحبسه وهمَّ بقتله لولا تدخّل مغيث الرومي مندوب الخلافة في الحملة الإسلامية إلى أسبانيا وإسراعه بإبلاغ الحادث إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أمر موسى بعدم إنزال الأذى بطارق، غير أن هذه الرواية استندت إلى شائعات مغرضة ردّدها القائد مغيث الرومي الذي كان بينه وبين موسى بن نصير سوء تفاهم؛ فانتهز فرصة ذهابه إلى دمشق ليبلغ الخليفة أنباء انتصارات المسلمين وأساء إلى هذا القائد، غير أن المقطوع به هو أن موسى بن نصير عنّف طارقا أو حدث عتاب بينهما؛ لأن طارقا كان قد تقدّم في الفتح أكثر مما ينبغي ولما تثبت أقدام المسلمين في البلاد بعدُ متحديا بذلك أوامر مولاه، لكن موسى كان من الحكمة بحيث أنه سرعان ما اتفق مع طارق واشترك الرجلان اشتركا كاملا في العمل. واستقرّ رأي كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير على القيام بمسح شامل لسائر الأراضي الأسبانية التي لم تفتح بعد، ونشر الإسلام بين ربوعها، وتطهيرها تطهيرا شاملا من جيوب القوط وفلولهم، وأثبت موسى بن نصير بذلك أنه ما زال يولي طارق بن زياد ثقته المطلقة. وأتبع موسى هذه الخطوة بعمل إداري رائع لتنظيم أحوال البلاد؛ فأمر - وهو في طليطلة - بضرب عملة ذهبية دفع منها رواتب الجند العاملين تحت إمرته، ويعتبر سكّ هذه العملة الذهبية دلالة على سيطرة موسى بن نصير على الأوضاع في تلك البلاد الأوربية الجديدة، وعلى مهارته الفائقة في بناء إدارة عربية مستقرة الأركان في أسبانيا منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي بها، وكانت هذه العملة الذهبية على غرار العملة التي سكّها موسى بن نصير في بلاد المغرب؛ فكان على وجه هذه العملة اسم (محمد رسول الله)، وعلى الوجه الآخر نجمة ذات ثمانية أذرع، وإلى جانب ذلك أمر موسى بن نصير بضرب عملة برنزية صغيرة لمساعدة الناس في تسهيل عملياتهم اليومية. وبعد أن أتمّ موسى بن نصير تنظيماته الإدارية استأنف الجهاد، واتفق مع طارق ابن زياد على الزحف معا نحو الشمال الشرقي لفتح حوض نهر الإبرو وما فيه من مدن، واشترك طارق مع موسى في هذه الحملة لأن المقاومة الشديدة التي سبق أن أظهرها القوط حملت القيادة الإسلامية على جمع جهودها وتنسيق أعمالها بما يجنب المسلمين الأخطار مرة أخرى. وقصدت القوات الإسلامية بقيادة موسى بن نصير مدينة سرقسطة، واقتربت منها على حين غفلة من أهلها، وأراد أسقف المدينة ومن معه من الرهبان جمع دخائرهم وكتبهم المقدّسة والفرار بها، غير أن موسى بن نصير بعث إليهم رسولا من قبله أزال مخاوفهم وأعطاهم العهود والمواثيق بالأمان، وبذلك استولى المسلمون على المدينة دون قتال، وشيّدوا بها مسجدا صار فيما بعد أحد المراكز الكبرى لنشر الدين الإسلامي وحضارته في أسبانيا، وقام ببناء هذا المسجد أحد التابعين في جيش موسى بن نصير وهو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني الزحف شمالا نحو البرانس: وتابع موسى زحفه بعد ذلك، واستولى على كثير من المدن الهامة في تلك الجهات، وظلّت القوات الإسلامية تتابع زحفها حتى بلغت مشارف جبال البرت (البرانس)، وشاهد المسلمون سكان تلك الجبال من القبائل البسقاوية (البشكنس)، واستمعوا إلى لغتهم الغريبة التركيب والأصوات. وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يبذل كل ما لديه من جهد لتأمين ممتلكات المسلمين شمالي مدينة سرقسطة جاءه مندوب الخلافة وهو مغيث الرومي، ومعه أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لكل من موسى بن نصير وطارق بن زياد بالمجيء إلى البلاط ومقابلته شخصيا في دمشق، ورأى موسى بحنكته الحربية ومقدرته السياسية أن هذا الاستدعاء جاء في وقت غير مناسب؛ لأن مطاردة القوط لم تنته بعد، كما أن فتح البلاد يتطلب السيطرة على المعاقل الشمالية الجبلية، أضف إلى ذلك أن موسى أحسّ أن أمرا قد دبّر له في دمشق، ويحتمل أن هذا التدبير هو السرّ في استدعائه إلى عاصمة الخلافة، ولذلك ألَحّ على مغيث الرومي أن يؤجل تنفيد طلب الاستدعاء حتى ينتهي من العمليات الحربية، ومنحه قصرا في قرطبة يقيم فيه ريثما يفرغ المسلمون من مهمّتهم. وتقدّم موسى بقواته نحو مدينة قشتاله؛ لأنها تعتبر المركز المباشر الذي يمكن أن يهدّد منه القوط مدينة طليطلة وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم إن اقترابها من الجهات الجبلية الوعرة يساعد من يتحصن بها على أن يبقى على المقاومة زمنا طويلا، ولذا قسّم موسى بن نصير قواته قسمين عهد بواحد منهما إلى طارق بن زياد وجعل مهمته السير غربا، على حين قاد هو الشطر الثاني واتجه في البلاد شرقا. وقصد طارق بن زياد إلى جبال كنتبرية، وأخضع جماعات البسقاوية غربي نهر الأبرو، ودخل كثير من سكان تلك الجهات في الإسلام على يد طارق بن زياد، وصاروا يكوّنون نواة كثير من الأسر الأندلسية الإسلامية التي قدّر لها أن تمثّل دورا هاما في تاريخ البلاد فيما بعد. وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير على الضفّة الشرقية لنهر إبرو في إقليم قشتالة، ورحّب به زعماء البلاد كذلك، ودخلوا في طاعة المسلمين، غير أن نفرا من فلول القوط آثروا الفرار أمام الزحف الإسلامي إلى المناطق الجبلية الساحلية الشمالية، واعتصموا بمكان اسمه الصخرة، فطارد موسى تلك الفلول حتى بلغ خيخوت، وجعل منها حصنا يحمي ما تم على يديه من فتوح في تلك الجهات القاصية، وصارت تلك الجهات أقصى ما وصل إليه المسلمون في منطقة اشتريس، حيث بدأ موسى بن نصير يعد العدة للعودة من تلك البلاد النائية. وتمّ في ذلك الوقت أيضا إخضاع المنطقة الساحلية بين مالقة وبلنسية، وإخماد الفتن التي حاول القوط القيام بها، وقام بهذه المهمة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي اشترك مع والده في إكمال الفتوح الإسلامية في أسبانيا، وسار هذا القائد على نهج والده في معاملة أهالي البلاد المفتوحة بالرفق والتسامح والعدل في فرض الضرائب، ومن ذلك ما حدث حين زحف عبد العزيز بن موسى على مالقة ثم غرناطة ثم أريوله، وهي كلها سلمت دون قتال. ارتياح أهالي الأندلس للحكم الإسلامي: وقد شعر أهالي الأندلس مع امتداد الفتح الإسلامي طلائع المساواة، وخاصة في الضرائب، وهو أمر لم يألفوه منذ زمن طويل، هذا إلى احترام حرية العقيدة وإزالة الاضطهاد الديني، وردّد كثير من الباحثين في التاريخ الأوربي المظاهر الجديدة التي سادت الشطر العربي من أوربا في بلاد أسبانيا عقب الفتح الإسلامي، وسجلت بهذا الدين الحنيف مظاهر الحياة الجديدة التي نفحها في تلك البلاد، وذكروا أن الفتح العربي كان من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون، وتحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزّعت الأراضي توزيعا عادلا؛ فكان ذلك حسنة سابغة وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم الإسلامي، ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة؛ إذ كان الإسلام أكثر معاضدة لتحرير الرقيق من النصرانية كما فهمها أحبار المملكة القوطية، وكذلك تحسّنت أحوال أرقاء الضياع؛ إذ غدوا من الزرّاع وتمتعوا بشيء من الاستقلال والحرية. وكان موسى بن نصير حريصا على أن يظلّ المسلمون العاملون تحت رايته - سواء من العرب أو البربر - مثلا أعلى أمام شعب أسبانيا؛ فلم يترفّع أولئك الفاتحون المسلمون على أبناء البلاد، وإنما امتزجوا معهم وصاهروهم وشاركوهم أيضا في مباهج البلاد ومسرّاتها؛ يطلبون العيش في سلام جنبا إلى جنب مع أهلها، وكان شعب أسبانيا من العنصر الأيبيري المسالم المحبّ لحسن العشرة، ومن ثم أنس إلى الفاتحين الجدد سواء من العرب أو البربر، وأقبل عليهم طواعية لا عن ضغط وإرهاب، ووجد فيهم محرّرين من بطش القوط وظلمهم الفاحش، ولم يحاول الفاتحون إدخال أبناء الشعب قسرا في الدين الإسلامي، وإنما حرصوا أوّلا على بيان فضائل هذا الدين حتى يتنبّه الناس ويدخلوا في رحابه إيمانا بأركانه وقواعده. ثم إن موسى بن نصير عمد إلى تنظيم الأحوال المالية للبلاد حتى يجنبها الاضطرابات ويهيئ لها أسباب الاستقرار، وقد طبق على أسبانيا القواعد التي اتبعها المسلمون الفاتحون في شتى الجهات التي استولوا عليها، فالأراضي التي فتحت عنوة قسمت بين الفاتحين بعد أخذ الخمس لبيت المال، أما الجهات التي فتحت صلحا فتركت بيد أصحابها مقابل دفع العشر من نتاجها، ولا شكّ أن هذا التنظيم المالي لم يكن عملا هيّنا بالنسبة لموسى بن نصير، وبخاصة في تلك الجهات من غرب أوربا التي لم تعرف منذ زمن بعيد لونا من ألوان الإدارة العادلة؛ فالمعروف أن القوط كانوا يستبيحون لأنفسهم ثروات البلاد ويعتبرون السكان أقنانا يعملون في الأرض، ولا همَّ لهم إلا إنتاج ما يحتاج إليه سادتهم من القوط، ولذا جاءت تنظيمات موسى بن نصير في أسبانيا وسيلة جيدة لخلق الامتزاج السليم بين الفاتحين وأهل البلاد الأصليين؛ فالأراضي المنبسطة في الجنوب - أي جنوب الوادي الكبير - اعتبرها موسى ابن نصير أرضا مفتوحة عنوة؛ فقد تم الاستيلاء عليها بعد معارك عنيفة ضد لوذريق.. وقسم موسى أربعة أخماس هذه الأراضي إلى قطاعات بين الفاتحين، على حين بقي الخمس ملكا للدولة، أما بقية أرض الأندلس فقد اعتبرت أرض صلح وهي الأراضي الواقعة شمال نهر الوادي الكبير من شبه جزيرة ايبريا، فأخذ كل ناحية لأنفسهم عهدا، وهذا العهد يقرر ما عليهم من مال للدولة، وبذلك سار الاستقرار في بلاد أسبانيا سريعا حيث سار موسى بن نصير، وبدأ العرب والبربر ينتشرون في شتى الجهات في طمأنينة وسلام، واستقر العرب دائما في المناطق المنبسطة والمنخفضات، أي في النواحي الدافئة قليلة المطر في الجنوب والشرق والغرب وفي ناحية سرقسطة، أما البربر فاختاروا المناطق الجبلية التي سبق أن ألفوا مثلها في وطنهم ببلاد المغرب، بينما نزل العرب في المناطق الواطئة بجنوب أسبانيا مثل شذونه واستجة، فضَّل البربر منطقة رنده الجبلية واختاروها سكنا لهم، ونزل بعض البربر في مناطق متفرّقة كذلك أو في بعض الهضاب حسبما راق لهم ذلك، واستطاع كل من العرب والبربر الامتزاج بأهالي البلاد الأصليين وارتبطوا معهم برباط الزواج، وكان للبربر خاصة أثر عظيم جدّا في انتشار الإسلام في الأندلس بسبب قرب مزاجهم وطباعهم من أولئك السكان، هذا إلى أن البربر بسبب حداثة عهدهم بالإسلام كانوا شديدي الحماسة للدين الجديد لأنه صار رمز سيادتهم وعزّهم، وحرص موسى بن نصير على ترك حاميات من جيشه في المدن التي فتحها، وهذا هو الأمر الذي جعل معظم أرجاء أسبانيا تعمر بالفاتحين الجدد وتمهد أسبانيا في سرعة ويسر لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف واستطاعت الإدارة الإسلامية التي شيّدها موسى بن نصير أن تضع الحجر الأساسي لبناء الحضارة الإسلامية في أسبانيا، وجعلت من تلك البلاد أعظم مركز للإشعاع الحضاري في أوربا في العصور الوسطي، ومن ثم أخذت أسبانيا تخطو سريعا في مضمار الازدهار العلمي وتدخل سجل التاريخ باعتبارها الشريان الذي نقل إلى أوربا ثمار الحضارة الإسلامية ومعارفهم، وهيّأ لسكان غرب أوربا السبيل للخروج من جهالة العصور الوسطي إلى نور الإسلام وضوء الحضارة الإسلامية الساطع. وقد استغرق الفتح الإسلامي لأسبانيا ثلاث سنوات وبضعة شهور؛ إذ بدأ الفتح الإسلامي لأسبانيا في رجب عام 92هـ وتم في ذي القعدة عام 95هـ. ويلاحظ أن العرب أطلقوا اسم الأندلس على المناطق التي كانوا يسيطرون عليها من شبه جزيرة أيبريا، ولا زال اسم الأندلس يطلق على الجزء الجنوبي منها موسى وطارق يقابلان الوليد في عاصمة الأمويين: سبق أن ذكرنا أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استدعى كلا من موسى بن نصير وطارق بن زياد لمقابلته شخصيا في دمشق، وأن موسى بن نصير أجّل تنفيذ هذا الطلب حتى ينتهي من عملياته الحربية، وبعد أن فرغ موسى بن نصير من إتمام الفتح اختار مدينة أشبيلية حاضرة للبلاد وعيّن ولده عبد العزيز واليا على الأندلس، واستخلف على المغرب الأقصى ابنه عبد الملك، كما استخلف على إفريقية ابنه عبد الله، ثم غادر موسى بن نصير الأندلس وبصحبته طارق بن زياد وكبار الجند في ذي القعدة عام 95هـ (714م)، ويقال إن يوليان كان معهم. وكان موكب موسى بن نصير إلى دمشق من الموضوعات التي أفاض في وصفها الرواة والإخباريون العرب، ونقلها المؤرخون مثل ابن عبد الحكم وابن قتيبة وابن القوطية والمراكشي وابن عذارى وابن خلكان والمقري وابن الأثير، ويقال إن موكب موسى ابن نصير اشتمل فيما عدا حاشيته الخاصة على أربعمائة من أفراد الأسرة القوطية المالكة وأسر النبلاء؛ تزين رؤوسهم التيجان وتطوق أوساطهم الأحزمة الذهبية، ومعهم جموع من العبيد والأسرى يحملون نفائس الغنائم. وعندما اقترب موسى من دمشق وصلته رسالتان كان لهما أكبر الأثر في اختتام حياته فيما بعد، أما الرسالة الأولى فكانت من ولي العهد سليمان بن عبد الملك يطلب فيها من موسى بن نصير أن يبطئ في الحضور إلى دمشق لأن الخليفة الوليد بن عبد الملك مريض مرض الموت وفي أيامه الأخيرة، وبذلك يحظى سليمان عندما يعتلي العرش باستقبال أعظم موكب للنصر عرفه الإسلام، ولكن موسى بن نصير رفض الاستجابة لهذا الطلب وتابع سيره إلى دمشق، وبعد ذلك بقليل تسلم الرسالة الثانية وكانت من عند الخليفة الوليد نفسه يأمره فيها بالإسراع بالحضور إلى دمشق حتى لا تحرمه المنية من شرف مشاهدة موكب النصر القادم على عاصمة الخلافة، وليتوج أيامه الأخيرة بهذا النصر المظفر. ودخل موسى بن نصير مدينة دمشق في السادس والعشرين من يناير عام 715م جمادى الأولى عام 96هـ، أي قبل وفاة الخليفة الوليد بأربعين يوما، وحرص موسى على أن يشرف بنفسه على طريقة سير الموكب وارتداء المشتركين فيه بثيابهم وبطريقة عرض الكنوز والغنائم، وأمر موسى بالأموال والجواهر واللؤلؤ والياقوت والزبرجد والجزع والوطاء والكساء المنسوج بالذهب والفضة المحرشة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وضمّها إلى موكب النصر مع رجاله بأرديتهم الجميلة الزاهية، ثم أقبل موسى بالذين ألبسهم التيجان حتى دخل مسجد دمشق والوليد على المنبر يحمد الله، وكان الخليفة يعاني في تلك الأيام من وطأة المرض ومع ذلك أبى إلا أن يخرج إلى المسجد متحملا لأجل قدوم موسى بن نصير، ولما رأى الخليفة هذا الموكب استولت عليه الدهشة والعجب الشديد وصاح الحاضرون من الناس: موسى موسى!، وأقبل هذا القائد المظفّر حتى سلّم على الخليفة ووقف ثلاثون رجلا من أصحاب التيجان في موكب النصر عن يمين المنبر وشماله، على حين وقف أمام الخليفة سائر أفراد الموكب ومراكب الغنائم المقامة على عجل، وهزّ هذا المنظر الباهر قلوب الحاضرين ومشاعرهم كما أثار ذكرياتهم عن فتوح المسلمين الكبرى، وقالوا إن الدولة الإسلامية لم تشهد منذ فتح فارس مثل هذا الموكب الرائع، ومثل تلك الغنائم الوافرة، وأخذ الخليفة يلقي خطبته في هذا المشهد الحافل وأكثر فيه الحمد لله والثناء عليه والشكر لما أيده الله ونصره، وأذهل موسى الناس بما أتى به من الخيرات والغنائم والأسرى، وكان موكب النصر هذا موكبا مشهودا؛ إذ لم ير الناس من قبل مثل هذا العدد من أمراء الغرب والأسرى الأوربيين، وقد جاءوا يقدمون الولاء والطاعة لأمير المؤمنين. وكان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير، كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط قد تفننوا في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وإنما أطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها واختلفت الروايات كذلك في وصف هذه المائدة وبيان هيئتها وسبب وجودها، فذكرت إحدى الروايات أن الأغنياء والموسرين من القوط دأبوا أن يوصلوا للكنائس بقدر معلوم من ثرواتهم عند الوفاة وكلما تجمع المال الوفير بين المشرفين على تلك الكنائس أمروا بصناعة موائد وكراسي من الذهب والفضة تضع القساوسة عليها الأناجيل في أيام الاحتفالات من أجل المباهاة والتفاخر، ونالت كنيسة طليطلة قدرا كبيرا من مال الوصايا، وخاصة أنها كانت مقرّ البيت المالك، ولذا تأنق الملوك في عمل مائدة لهذه الكنيسة فاقت كل الموائد في سائر أسبانيا؛ إذ حرص كل ملك على أن يزيد في مائدة كنيسة طليطلة إعلاء لذكره وتباهيا بعاصمة ملكه حتى صار لها مركز الصدارة في جميع البلاد وتحدث الجميع بجمالها وعلو قيمتها، فكانت مصنوعة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد. ومهما يكن من أمر تلك الروايات فمما لا شك فيه أنها أجمعت على شيء واحد هو عظمة هذا الكنز الثمين الذي فاقت أخباره ما عداه في كنوز وجدها الفاتحون في سائر مدن الأندلس، ويرجح أن هذه المائدة كانت مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، وأنها كانت على درجة خيالية من الجمال حتى تليق بعاصمة القوط، ولتكون رمزا على ثراء دولتهم وغناها الوافر. وكان مما قدّم للخليفة الدر والياقوت أكيالا والسيوف المحلاة بالجواهر والتيجان الذهبية المرصّعة بالحجارة الثمينة وآنية الذهب والفضة، وغير ذلك مما لا يحيط به وصف. وقد أغدق الخليفة الخلع على موسى ثلاث مرات تشريفا له، كما أغدق المنح لآل بيته، ولما انتهى الخليفة من منح موسى براءات الشرف والتكريم استأذن منه هذا القائد العظيم في تقديم المشتركين معه في موكب النصر فأدخل عليه موسى ملوك البربر وملوك الروم وملوك الأسبان وملوك الفرنجة، ثم أدخل عليه رؤوس البلاد ممن كان معه من قريش والعرب؛ فأحسن الخليفة لهم العطايا والمنح وبانتهاء يوم الاستقبال اختتم موسى بن نصير حياته العامة، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك توفي بعد ذلك اليوم بأربعين يوما فقط، وخلفه سليمان بن عبد الملك عام 96هـ (715م)، وأعفى الخليفة الجديد غداة توليه العرش موسى بن نصير - وكان إذ ذاك قد ناهز الثمانين من عمره - من العودة إلى الأندلس، وأراد الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يختم حياته بالحجّ إلى بيت الله الحرام واصطحب معه إلى مكة والمدينة موسى بن نصير، وقد توفي موسى بن نصير بالمدينة بعد أداء فريضة الحج ودفن بالبقيع في أوائل عام 97هـ. أما طارق بن زياد فقد انتهت حياته في غموض، ولا تذكر الرواية الإسلامية أين ومتى توفي، ويقال إن مغيث الرومي وشّى به وخوّف الخليفة منه، وكان الخليفة سليمان ابن عبد الملك يريد أن يوليه الأندلس فعدل عن ذلك. ولكن إهمال المؤرخين لطارق بن زياد لم يحرمه نصيبه من الخلود، فقد شاءت المقادير أن تحمل اسمه أول بقعة في الأندلس وطئتها قدماه وهي جبل طارق، كما سمي بحر الزقاق باسم مضيق جبل طارق، وانتقلت هذه التسمية إلى اللغات الأوربية جميعها بصيغها محرفة تحريفا بسيطا. ولم تشر الروايات العربية إلى مصير يوليان الذي مهّد لفتح الأندلس، وتذكر بعض الروايات أنه عاد إلى سبتة وأقطع ما حولها من الأرض، وظل أميرا على سبتة نظير خدماته، ولكنه بقي نصرانيا هو وبنوه الأقربون، أما ذريته فيقال إنها دخلت الإسلام بعد ذلك، أما أبناء غيطشة فقد أقطعوا ما كان لأبيهم، كما عين أخ غيطشة حاكما لمدينة طليطلة بعض مصادر البحث: 1_ الكامل في التاريخ لابن الأثير. 2_ الحلل السندسية طبعة 1936م لأرسلان. 3_ المغرب في ذكر إفريقية والمغرب طبعة 1911م للبكري. 4_ فتوح البلدان طبعة 1900م للبلاذري. 5_ قيام دولة المرابطين طبعة 1957م لحسن محمود. 6_ فتح العرب للمغرب طبعة 1947م لحسين مؤنس. 7_ فجر الأندلس طبعة 1959م لحسين مؤنس. 8_ تاريخ المغرب العربي طبعة 1965م لسعد زغلول عبد الحميد. 9_ الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى طبعة 1804م للسلاوي. 10_ المغرب الكبير (العصر الإسلامي) طبعة 1966م للسيد عبد العزيز سالم. 11_ بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس طبعة 1884م للضبي. 12_ فتوح مصر والمغرب طبعة 1920م لابن عبد الحكم. 13_ العقد الفريد لابن عبد ربه. 14_ الأساطيل العربية طبعة 1957م للعدوى. 15_ البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى. 16_ دولة الإسلام في الأندلس طبعة 1943م لمحمد عبد الله عنان. 17_ الآثار الأندلسية طبعة 1956م لمحمد عبد الله عنان. 18_ تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز. 19_ النجوم الزاهرة طبعة 1928م لأبي المحاسن. 20_ نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب طبعة 1855م للمقري. 21_ معجم البلدان لياقوت الحموي. المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية العدد 38