الحملات الصليبية من وجهة نظر ألمانية شهد نهاية القرن الحادي عشر ما أطلق عليه بالحملات الصليبية، وهي غزوات استعمارية شنتها أوربا في الشرق، حيث قامت هناك بتأسيس كيانات ودول إقطاعية مؤقتة هناك حسب النموذج الأوربي، ولكن ما لبثت الأقطار العربية في المشرق أن واجهتها وخاضت ضدها نضالاً متحداً وقاومتها. من أجل (تحرير القبور المقدسة) في القدس، كما جاء ذلك في نداء البابا أوربان الثاني عام 1096 في بلدة مونت كلير الفرنسية، تحركت مجموعات ضخمة من جيوش للإقطاع الأوربية ومن الفرسان، ومن جموع من المتدينين (كنائسيين) وكذلك من الشخصيات المعتبرة، ومن الفلاحين العبيد (المملوكين) والمغامرين ومقطوعي الجذور. وإذا لم يكن ممكناً هنا أن نورد الأسباب المختلفة لحركة الغزوات الصليبية في أوربا،( وبنفس المعنى كانت تدور الحملات ضد العرب في أسبانيا(الاستعادة)Reconquista، في توسع للإقطاع نحو الشرق)، ولكن ليس من العسير أن نثبت بأن المصالح السياسية والاقتصادية لمختلف الطبقات والفئات والمؤسسات كانت كامنة ومستترة خلف الشعارات الدينية. وقد بنى غالبية الإقطاعيين الصغار والمتوسطين وكذلك الفرسان، آمالهم وعولوا على كسب أراضي واسعة وعلى غنائم وفيرة. أما الفلاحون المملوكون كانوا يأملون بأنهم ربما سينجحون في سحق الإقطاعيين، كما كانت الكنيسة البابوية تسعى إلى توسيع سلطاتها وتثبيت موقعها القيادي لمسيحي الشرق الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف والمذاهب المسيحية. فيما كان التجار الأوربيون يسعون في المدن الإيطالية مثل جنوه، بيزا، البندقية، من خلال الدعم لحركة الغزوات الصليبية، وتقوية مواقعهم بكل السبل في منطقة شرق البحر المتوسط في وجه المنافسة البيزنطية والمصرية الحاسمة. وكانت المقدمات الأساسية لنجاح الحملات الصليبية تمثلت في سقوط مركزية الدولة الواحدة، السلجوقية في الشرق العربي، بالإضافة إلى الشلل السريع المتنامي للدولة الفاطمية في مصر على الصعيد السياسي والعسكري، وبما يقارب ذلك في المدن السورية وفي بلاد ما بين النهرين، حيث كان السلاجقة الأتابكيون والأمراء وزعماء القبائل في صراع شديد فيما بينهم. وأخيراً في المساعدة الطبيعية لهم من جيوش الدولة البيزنطية التي كانت تنتظر هذه المناسبة منذ أجيال. أما الخليفة العباسي في بغداد فكان منهمكاً في النضال من أجل استعادة ورفع مكانة وهيبة مؤسسة الخلافة ضد السلاجقة في العراق، فلم يكن يمتلك النية ولا الوسائل لإعلان الجهاد (الحرب المقدسة) للمسلمين ضد غير المؤمنين ( الكفار). كما استغل الحكام الفاطميون في مصر من جانبهم الانتصارات الصليبية الأولى في المعارك ضد السلاجقة في آسيا الصغرى وشمال سورية، في الأراضي الفلسطينية، فأفصحوا عن نواياهم ورؤيتهم باقتراحاتهم تقسيم سورية وفلسطين فيما بينهم وتشكيل جبهة موحدة ضد السلاجقة. وكانت الأقسام المختلفة للحملة الصليبية قد اتحدت عام 1097 م في القسطنطينية، وبدأت الزحف عبر آسيا الصغرى، حيث استولت على المقر الرئيسي للسلاجقة في نيسا Nicaa ثم اتخذت طريقها عبر كليكيا الأرمينية باتجاه سورية على الرغم من أن الظروف المناخية كانت قاسية بصفة خاصة على الفرسان المثقلين بالدروع مما زاد في حجم الصعوبات سواء للعربات (كان الكثير من الفرسان قد اصطحبوا عائلاتهم وخدمهم معهم) أو من الهجمات الخفيفة المستمرة، وقد تمكنت القطعات السلجوقية المتحركة بفاعلية من إعاقة تقدم الجيوش الصليبية التي بدأت تتقدم ببطء في جبهة دفاع مغلقة. وبعد ذلك تمكنت القوات الصليبية من احتلال مدينة اديسا Edessa الاستراتيجية المهمة، حيث أسس هناك بالدوين فون بولون Balduin Von Boullon دوقية فيها. وثم سقطت مدينة أنطاكية بسبب خيانة ضابط أرمني بعد حصار دام ثمانية أشهر. وهكذا جرى احتلال هذه المدينة التي شهدت مذابح للمسلمين، كما قام المسيحيون بنهب وسلب السكان المحليين. و بصرف النظر عن التنازل الشكلي الذي قدمه قيصر بيزنطة أسس نورمان بوموند فون تارنت Norman Bohemund Von Tarent في أنطاكية أيضا إمارة. وبهاتين الإمارتين مكث الكثير من قادة الحرب الصليبية في المناطق المحتلة دون أن يظهروا أي اهتمام باحتلال القدس. وكان معظم الحكام المسلمين في المدن الساحلية، بما في ذلك بيروت، من أجل نيل رحمة الغزاة، كانوا يسمحون للصليبيين باستباحة أراضيهم الخصبة وبساتينهم، بتقديم الطعام للقوات الصليبية، وكذلك من خلال تقديم الهدايا لقادتهم والسماح لهم بالتجول الحر في أراضيهم. وهكذا تمكن عشرون ألف مقاتل ( يصل هذا العددإلى مآت في المصادر العربية ) من الصليبيين من الوصول إلى القدس التي هاجموها بعد حصار دام شهراً في تموز 1099م .. والحقيقة أن الحاكم الفاطمي للمدينة وحرسه الخاص ومسلمي المدينة كانوا من عداد الضحايا في المدينة التي لم يستطع أحد أن ينجو منها بحياته، بل وحتى أن أعداداً من يهود المدينة قتلوا حرقاً في الكنيس الرئيسي للمدينة، وبذلك فإن حوالي سبعين ألفاً من سكان المدينة فارقوا الحياة. والحديث هنا عن الوحشية المنقطعة النظير وقسوة قوات الحملة الصليبية الذين كانوا :" كمن مسهم الجنون ، يقتلون كل شخص يصادفهم في الطريق من الرجال والنساء والأطفال في الطرق والشوارع والبيوت والجوامع، وبدون تميز" . ([1]) وبعد الاستيلاء على القدس، استتب الأمر لقادة الحروب الصليبية بدعم فعال من أساطيل المدن التجارية الإيطالية، ومن المدن الساحلية الشرقية للبحر المتوسط والتي كان قادتها من المسلمين المحليين قد ارتضوا دفع ضريبة سنوية في علاقة تبعية إلى ملك القدس وفي علاقة شكلية من التبعية إلى مملكة القدس التي كانت تحت بوبلون ولاحقاً أخوه بالدوين. ثم كان هناك حكام إقطاعيون في مدن مثل ايدسا وأنطاكيا ولاحقاً طرابلس. وفي الحقيقة فإن الزعماء الإقطاعيين تصرفوا ولم يكن الملك في القدس سوى شكلياً، وفوق ذلك منحت امتيازات خاصة للمقر الرئيسي للتجار الإيطاليين في المدن الساحلية. فيما شهد نظام الفروسية نمواً سريعاً، الذين كانوا الحماة الحقيقيين للحملة الصليبية، فكانوا يبدون وكأنهم رجال وفرسان الملك. وكان نقل النظام الإقطاعي الأوربي إلى المناطق التي كانت تحتلها القوات الصليبية يعني لجماهير الفلاحين المسلمين والمسيحيين، اشتداد حدة الاستغلال مترافقة مع ضغط إيديولوجي متصاعد. وقد شكل ذلك الأساس لاضطرابات كثيرة للفلاحين والتي منها: انتفاضات كالتي جرت في عام 1125 م في أنحاء بيروت. ولم يحقق قادة الحملات الصليبية أي تحسن في الحياة الاقتصادية للشرق، بل كانت هذه بصفة عامة في مستوى أعلى مما هي عليه في أوربا. وهذا ما عبر عنه ازدهار التجارة التي كان التجار الإيطاليون الذين كانوا ينقلون بتزايد المنتجات الشرقية (مصنوعات) إلى أوربا، كما أنهم أخذوا تقاليد وأساليب زراعية من الشرق، وقد استشرق العديد من أمراء الحملات الصليبية ولكنهم لم يتوصلوا إلى الحياة المرفهة للفئات العليا التي عاشوها في الشرق، وهم الذين أخذوا عن الشرق تقاليد وعادات التدبير المنزلي، الملابس التي نقلت إلى أوربا، والتي جرى تأصلها هناك. وكان الحجاج المسيحيون (إلى القدس وبيت لحم ـ المترجم) خير واسطة لعملية التبادل هذه، وكذلك قادة الحملات الصليبية الذين يطلق عليهم في أوربا البرابرة. إن التنامي السريع لاتجاهات القوة المركزية في دول الإقطاع الصليبية، والمنازعات بين الحكام السلاجقة ولا سيما حكام الموصل، حلب، دمشق، والفعاليات الإرهابية للإسماعيليين الجدد "الحشاشين" الذين سرعان ما بدأوا بالقتال ضد الصليبيين وضد السـلاجقة، أحـرز في النصف الأول من القرن الثاني عشر صورة ملونة ولكن مؤقتاً، وبعد عدة نجاحات انهارت تلك الائتلافات وغالباً ما كان يلاحظ وجود حكام مسلمين ومسيحيين في نضال مشترك ضد من هم منتمين إلى دينهم. ونقطة التحول التي كانت في مصلحة القضية العربية والإسلامية، تمثلت بنهوض أتابكة الموصل، وشخصية عماد الزنكي، الذي تمكن بعد استلامه للسلطة في حلب تمكن عام 1144 من استعادة أديسا، والحملة الصليبية الثانية جاءت نتيجة لذلك والتي قادها الملك لودفيغ السابع Ludwig VII الفرنسي، والملك كونراد الثالث الألماني Konrad III انتهت بفشل كامل، وبدأ القادة الجدد للقوات الصليبية الذين يجهلون المعطيات السياسية المعقدة للشرق، القتال ضد دمشق التي كان سلاجقتها وقادتها قد وقفوا إلى حد الآن مع الصليبيين وقاتلوا معهم ضد الموصل وحلب، كما كان بارونات القدس الإقطاعيين من مملكة القدس يعرقلون حصار دمشق، ولكن لم يكن بوسعهم منعه إذ أن مشاعر سكان هذه المدينة قد انقلب بشكل نهائي وتام لصالح الزنكيين، وهكذا فقد استولى ابن الخليفة ( لعل الكاتب حسب أن الخليفة لقب لكل حاكم ) الزنكي في المناطق السورية نور الدين الزنكي عام 1154 دمشق دون أن يلاقي مقاومة تذكر. انصب اهتمام قادة الصليبيين والزنكيين الآن على السلطة الفاطمية في مصر التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، والتي مثل ميناء عسقلان الحصن الأخير لها في المشرق العربي، ثم فقدتها على أيدي الصليبيين عام 1153م. أما مصر فقد كانت وبسبب موقعها الاستراتيجي وإنتاجها الوافر من الصناعات الحرفية والمنتجات الزراعية، أهميتها في تجارة البحر المتوسط، هدفاً مهماً لكل الأطراف المتصارعة على السلطة والسيادة. وبعد معارك عديدة ذات نتائج متباينة، تمكن الوزير الفاطمي شاور الذي نال دعماً من نورالدين الزنكي بعد أن أوفد إلى مصر ضابطاً كردياً مقتدراً (شيركو)، تمكن من الانتصار على منافسيه في الداخل وعلى القوات الصليبية التي سرعان ما نالت مساعدة من الملك آمالريش الأول Amalrich Iملك القدس ضد شيركو وقواته.(وكان قد أقيم في القاهرة معسكراً مؤقتاً للصليبيين)، وأخيراً تمكن شيركو عام 1169 م من دخول القاهرة واستلامها. وكان الخليفة الفاطمي" العاضد" (1160 ـ 1170)والذي لم يكن له حول ولا قوة , كان (وكما هو مألوف في السنوات الأخيرة) طفلاً على العرش، فكان عليه أن يعين شيركو وزيراً، وهي وظيفة حل بها بعد وفاته بشهرين ابن شقيقه صلاح الدين يوسف بن أيوب (1138 ـ 1193) وهو الر جل الذي اشتهر في التاريخ الأوربي باسم صلاح الدين Saladin . وصلاح الدين وهو ابن لضابط كردي يعمل في خدمة الزنكي، نفسه كان ضابطاً في جيشه، ثم أصبح لاحقاً مؤسساً للعائلة الأيوبية في مصر. فبعد وفاة نور الدين الزنكي عام 1174 (وكان تابع له شكلياً) بدأ ينتزع نفسه من موقف الدولة التابعة للزنكيين، في ظل وضع كانت فيه قدراته وامكاناته تتطور. وخطوة فخطوة بدأ باحتلال مواقع الزنكيين في سورية وبذلك أمكن له توفير المقدمات الجوهرية الأساسية في القتال والانتصار على الصليبيين. وعندما توفي الخليفة الفاطمي عام 1171 استعد صلاح الدين كداعية مجتهد للإسلام السني ..، لأن يجعل نهاية للسيادة الشيعية على مصر، وأن يذكر اسم الخليفة العباسي، وبذلك اعترف بالخلافة العباسية والارتباط بها وإن شكلياً. وفي عام 1174 ـ 1175، صادق الخليفة العباسي على سلطة صلاح الدين والأيوبيين ومنحه لقب سلطان. وكانت نهاية الأسرة الفاطمية، وكذلك الحل العنيف للوحدات العسكرية المؤلفة من السودانيين والبربر وتأسيس جيش كردي ـ تركي. وكان النظام السلجوقي مطروحاً كمثال في الإقطاع العسكري جاهز للتطبيق الكامل، ولم يجد أي رد فعل من الشعب المصري الذي كان بفئاته العليا والدنيا من المذهب السني. والعقود الأولى من حكم الأيوبيين في مصر وسورية، أدت جزئياً إلى تقدم اقتصادي جديد. وقد رفعت الحكومة الجديدة الكثير من الضرائب الجائرة، وخفضت الضرائب على الأرض من أجل إدارة الاقتصاد الزراعي، وكذلك من خلال تحسين أساليب الري، كسبت أراضي جديدة والبعض من هذه الأراضي أخذت من القطاعات (الأملاك العسكرية) التي هي الآن خاضعة بشكل مباشر لهدف الإنتاج الزراعي ومضاعفة أرباحها. وكان لإزاحة احتكار الدولة للعديد من الصناعات اليدوية والتجارة قد أدى إلى تصاعد الإنتاج الحرفي، وإيجاد أنظمة كمارك مختلفة. وأما بالنسبة إلى التجار، فقد مثل ذلك ازدهاراً لعهد التجارة البعيدة المدى، وكل هذه الإجراءات كانت تعني ضرورة وجود دولة مركزية قوية، وبالقياس مع الانهيار اللاحق حيث ساد الكساد والفوضى في الاقتصاد والعودة من جديد في اشتداد الاستغلال المباشر للقوى المنتجة. ومضى صلاح الدين معتمداً على القوات المنظمة المؤلفة من العناصر الكردية ـ التركية، وكذلك على ضعف السلطة الزنكية ومستثمراً ذلك في بناء وتكوين سلطته بصورة منظمة. وبعد عشر سنوات من القتال كان الأيوبيون قد أصبحوا سادة مصر والحجاز واليمن وسورية وفلسطين(طيلة احتلالها من قبل الصليبيين) وعبر بادية بلاد النهرين. وقدم رشيد الدين زينان الملقب بعجوز الجبال، وهو رئيس الحشاشين في سورية، تنازلات لرفع الحصار عن قلعته من قبل قوات صلاح الدين في عام 1176 م وأكد فيها إيقاف جميع الهجمات الإرهابية ضد أي طرف كان. وهكذا تمكن صلاح الدين أخيراً عام 1187 م من إلحاق الهزيمة بالصليبيين في فلسطين الذين أنهكوا بسبب قتال دفاعي طويل الأمد، في خطوط طويلة , ومنها شريط ساحلي طويل، أسر فيها ملك القدس، وكذلك شخصيات دينية ووجهاء نظام الفرسان , وعدد كبير من الشخصيات الإقطاعية والدنيوية. وفي مجرى عام 1187استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يحقق بقواته، سلسلة معارك ظافرة، وأن يحرر منتصراً 52 مدينة وحصن بما في ذلك القدس، وإلى جانب بعض القلاع، بقيت ثلاث مدن ساحلية محصنة وقوية هي : طرابلس، أنطاكية، صور. بقيت بسبب وضعها الجغرافي المناسب بيد الصليبيين. وبقدر ما كان ذلك ممكناً، كان موقف المسلمين وقادتهم كريماً عند احتلالهم القدس وفي تعاملهم مع الأسري والشخصيات المهمة، على عكس الفضاضة والوحشية القاسية التي كان غالباً ما يعامل به الصليبيون أسرى المسلمين، وهو السبب في الصورة الرومانسية لصلاح الدين في الأدب الأوربي. ولكن الصليبيين والحملات الصليبية ظلت عنصراً مهماً في ملعب القوى السياسية في الشرق حتى زمن المماليك والعهد المغولي. ونصر صلاح الدين كان له الأهمية الحاسمة في إطار الدفاع ضد الاستعمار الاستيطاني وهجوم نبلاء الإقطاع الأوربيين. وبعد وفاة صلاح الدين عام 1193 م الذي كان قد فقد عام 1191 م المدينة الساحلية "عكا " حيث احتلتها قوات الحملة الصليبية بقيادة الملك ريتشارد قلب الأسد، استطاع أخوه العادل الاستفادة من حالة الشقاق والنزاع بين أبناء صلاح الدين واستغلالها من أجل استلام السلطة في مصر وسورية وشمال بلاد النهرين. وكانت العلاقات بين الأيوبيين والصليبيين منتظمة عن طريق اتفاقيات منذ عام 1192م وكانت هذه تضم السيطرة على بعض المدن الساحلية في سورية وفلسطين. وكان الملك العادل قد اهتم بشكل خاص بالعلاقات مع الدول الإيطالية في التجارة مع مصر، وتوجب على ولده الذي خلفه في الحكم، الملك الكامل( 1218 م ـ 1232 م )القتال ضد الصليبيين الذين زحفوا على الأراضي المصرية حتى مدينة دمياط الساحلية، ولكن الملك الكامل استطاع إبعاد الصليبيين عن مصر ، وفي عام 1229 م أرغم على قبول طلب من البابا بالتنازل عن القدس للملك الألماني فردريك الثاني بموجب اتفاقية سلام، كما عن شريط من الأراضي يصل حتى الساحل مقابل مساعدة قدمها الملك فردريك بدعم السلطة الأيوبية. وبعد وفاة الكامل بدأ السقوط السريع للدولة الأيوبية، ودار صراع العائلة على الإرث والموروث، وبذلك فقد لعب الأتراك من قوات الحرس دوراً هاماً فيما يسمى بدور المماليك. وكان كل فرد من الأيوبيين يسعى لكسب أكبر عدد من المماليك إلى جانبه، وقد أدى ذلك إلى إضعاف شديد للسلطة المركزية. فتمكن الملك الأيوبي الصالح عام 1244 م وبمساعدة وحدات من الأتراك الخوارزميين، الذين كان المغول قد طردوهم إلى الغرب، تمكن بصورة نهائية وحاسمة من الاستيلاء على القدس من الصليبيين , وكانت زوجته ذات الحيوية وولده إلى جانبه، ثم تمكنوا أيضا عام 1250 م من طرد الصليبيين من دمياط التي كانوا قد احتلوها قبل عام (أي في 1249 م)، وكان قادة المماليك الممتازين قد بذلوا مساعيهم بصورة صريحة بهدف الاستيلاء على السلطة. وفي عام 1250 م كان قد ظهر على المسرح السياسي في مصر عائلات من المماليك ذات نفوذ قوي، وكذلك في أجزاء أخرى من سوريا، وقد استمرت في الحكم والنفوذ حتى الاحتلال ( الفتح ) العثماني. وكان التقدم الاقتصادي العام في أوربا في القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر، وتأسيس الجيوش الملكية في بلدان أوربا الغربية واشتداد النزعة العسكرية ـ الاستعمارية في التوسع باتجاه الشرق، من الأسباب الجوهرية للحملات الصليبية في الشرق. ولكن الحملات الصليبية كانت في ذات الوقت من الأسباب الجوهرية للتطور الاقتصادي السريع في أوربا لا سيما دول إيطاليا الشمالية. أما بالنسبة لسكان المشرق العربي (وكذلك بالنسبة للبيزنطيين) كانت الحروب الصليبية تعني وقبل كل شيء المعارك، الخراب، الظلم والقمع، الخسائر الاقتصادية، والتأثير المستمر على الاقتصاد الأوربي والثقافي ، وكذلك كان التأثير على أنماط الحياة أمراً وارد الحدوث، فكانت هناك تأثيرات ثقافية كما لعبت أسبانيا وصقلية دور الوسيط في نقل تلك التأثيرات وأبعادها إلى أوربا. وما كان السلاجقة قد بدأوا فيه، من تقوية العقائد الإسلامية السنية ..، كان تحت تأثيرات الضرورة في تشكيل جبهة سياسية وأيديولوجية موحدة ضد الحملة الصليبية، فقاموا بقفزة جديدة إلى الأمام، هذه القفزة لم تؤد فقط إلى تأسيس مدارس عديدة سنية حسب النموذج البغدادي له (النظامية) بل إلى جانب ما اجتهد به صلاح الدين في القاهرة , وما زالت حتى اليوم شواخص على هذه الجهود. المصدر : كتاب "تاريخ العرب منذ البدايات وحتى العصر الراهن " فريق من المستشرقين برئاسة بروفسور دكتور لوثر راتمان Geschichte der Araber von den Anfängen bis zur Gegenwart Autorenkollektiv unter Leitung von : Prof. Dr. Luther Ratmann الجزء الأول Teil : 1 : الفصل 5 / مبحث 3: S.199 وحتى S. 209/ Berlin 1975 بروفسور. دكتور غيرهارد هوفمانProf . Dr. Gerhard Hoffmann ترجمة : د. ضرغام عبد الله الدباغش
شهد نهاية القرن الحادي عشر ما أطلق عليه بالحملات الصليبية، وهي غزوات استعمارية شنتها أوربا في الشرق، حيث قامت هناك بتأسيس كيانات ودول إقطاعية مؤقتة هناك حسب النموذج الأوربي، ولكن ما لبثت الأقطار العربية في المشرق أن واجهتها وخاضت ضدها نضالاً متحداً وقاومتها.
من أجل (تحرير القبور المقدسة) في القدس، كما جاء ذلك في نداء البابا أوربان الثاني عام 1096 في بلدة مونت كلير الفرنسية، تحركت مجموعات ضخمة من جيوش للإقطاع الأوربية ومن الفرسان، ومن جموع من المتدينين (كنائسيين) وكذلك من الشخصيات المعتبرة، ومن الفلاحين العبيد (المملوكين) والمغامرين ومقطوعي الجذور. وإذا لم يكن ممكناً هنا أن نورد الأسباب المختلفة لحركة الغزوات الصليبية في أوربا،( وبنفس المعنى كانت تدور الحملات ضد العرب في أسبانيا(الاستعادة)Reconquista، في توسع للإقطاع نحو الشرق)، ولكن ليس من العسير أن نثبت بأن المصالح السياسية والاقتصادية لمختلف الطبقات والفئات والمؤسسات كانت كامنة ومستترة خلف الشعارات الدينية.
وقد بنى غالبية الإقطاعيين الصغار والمتوسطين وكذلك الفرسان، آمالهم وعولوا على كسب أراضي واسعة وعلى غنائم وفيرة. أما الفلاحون المملوكون كانوا يأملون بأنهم ربما سينجحون في سحق الإقطاعيين، كما كانت الكنيسة البابوية تسعى إلى توسيع سلطاتها وتثبيت موقعها القيادي لمسيحي الشرق الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف والمذاهب المسيحية. فيما كان التجار الأوربيون يسعون في المدن الإيطالية مثل جنوه، بيزا، البندقية، من خلال الدعم لحركة الغزوات الصليبية، وتقوية مواقعهم بكل السبل في منطقة شرق البحر المتوسط في وجه المنافسة البيزنطية والمصرية الحاسمة.
وكانت المقدمات الأساسية لنجاح الحملات الصليبية تمثلت في سقوط مركزية الدولة الواحدة، السلجوقية في الشرق العربي، بالإضافة إلى الشلل السريع المتنامي للدولة الفاطمية في مصر على الصعيد السياسي والعسكري، وبما يقارب ذلك في المدن السورية وفي بلاد ما بين النهرين، حيث كان السلاجقة الأتابكيون والأمراء وزعماء القبائل في صراع شديد فيما بينهم. وأخيراً في المساعدة الطبيعية لهم من جيوش الدولة البيزنطية التي كانت تنتظر هذه المناسبة منذ أجيال.
أما الخليفة العباسي في بغداد فكان منهمكاً في النضال من أجل استعادة ورفع مكانة وهيبة مؤسسة الخلافة ضد السلاجقة في العراق، فلم يكن يمتلك النية ولا الوسائل لإعلان الجهاد (الحرب المقدسة) للمسلمين ضد غير المؤمنين ( الكفار). كما استغل الحكام الفاطميون في مصر من جانبهم الانتصارات الصليبية الأولى في المعارك ضد السلاجقة في آسيا الصغرى وشمال سورية، في الأراضي الفلسطينية، فأفصحوا عن نواياهم ورؤيتهم باقتراحاتهم تقسيم سورية وفلسطين فيما بينهم وتشكيل جبهة موحدة ضد السلاجقة.
وكانت الأقسام المختلفة للحملة الصليبية قد اتحدت عام 1097 م في القسطنطينية، وبدأت الزحف عبر آسيا الصغرى، حيث استولت على المقر الرئيسي للسلاجقة في نيسا Nicaa ثم اتخذت طريقها عبر كليكيا الأرمينية باتجاه سورية على الرغم من أن الظروف المناخية كانت قاسية بصفة خاصة على الفرسان المثقلين بالدروع مما زاد في حجم الصعوبات سواء للعربات (كان الكثير من الفرسان قد اصطحبوا عائلاتهم وخدمهم معهم) أو من الهجمات الخفيفة المستمرة، وقد تمكنت القطعات السلجوقية المتحركة بفاعلية من إعاقة تقدم الجيوش الصليبية التي بدأت تتقدم ببطء في جبهة دفاع مغلقة.
وبعد ذلك تمكنت القوات الصليبية من احتلال مدينة اديسا Edessa الاستراتيجية المهمة، حيث أسس هناك بالدوين فون بولون Balduin Von Boullon دوقية فيها. وثم سقطت مدينة أنطاكية بسبب خيانة ضابط أرمني بعد حصار دام ثمانية أشهر. وهكذا جرى احتلال هذه المدينة التي شهدت مذابح للمسلمين، كما قام المسيحيون بنهب وسلب السكان المحليين. و بصرف النظر عن التنازل الشكلي الذي قدمه قيصر بيزنطة أسس نورمان بوموند فون تارنت Norman Bohemund Von Tarent في أنطاكية أيضا إمارة. وبهاتين الإمارتين مكث الكثير من قادة الحرب الصليبية في المناطق المحتلة دون أن يظهروا أي اهتمام باحتلال القدس.
وكان معظم الحكام المسلمين في المدن الساحلية، بما في ذلك بيروت، من أجل نيل رحمة الغزاة، كانوا يسمحون للصليبيين باستباحة أراضيهم الخصبة وبساتينهم، بتقديم الطعام للقوات الصليبية، وكذلك من خلال تقديم الهدايا لقادتهم والسماح لهم بالتجول الحر في أراضيهم. وهكذا تمكن عشرون ألف مقاتل ( يصل هذا العددإلى مآت في المصادر العربية ) من الصليبيين من الوصول إلى القدس التي هاجموها بعد حصار دام شهراً في تموز 1099م ..
والحقيقة أن الحاكم الفاطمي للمدينة وحرسه الخاص ومسلمي المدينة كانوا من عداد الضحايا في المدينة التي لم يستطع أحد أن ينجو منها بحياته، بل وحتى أن أعداداً من يهود المدينة قتلوا حرقاً في الكنيس الرئيسي للمدينة، وبذلك فإن حوالي سبعين ألفاً من سكان المدينة فارقوا الحياة.
والحديث هنا عن الوحشية المنقطعة النظير وقسوة قوات الحملة الصليبية الذين كانوا :" كمن مسهم الجنون ، يقتلون كل شخص يصادفهم في الطريق من الرجال والنساء والأطفال في الطرق والشوارع والبيوت والجوامع، وبدون تميز" . ([1])
وبعد الاستيلاء على القدس، استتب الأمر لقادة الحروب الصليبية بدعم فعال من أساطيل المدن التجارية الإيطالية، ومن المدن الساحلية الشرقية للبحر المتوسط والتي كان قادتها من المسلمين المحليين قد ارتضوا دفع ضريبة سنوية في علاقة تبعية إلى ملك القدس وفي علاقة شكلية من التبعية إلى مملكة القدس التي كانت تحت بوبلون ولاحقاً أخوه بالدوين. ثم كان هناك حكام إقطاعيون في مدن مثل ايدسا وأنطاكيا ولاحقاً طرابلس.
وفي الحقيقة فإن الزعماء الإقطاعيين تصرفوا ولم يكن الملك في القدس سوى شكلياً، وفوق ذلك منحت امتيازات خاصة للمقر الرئيسي للتجار الإيطاليين في المدن الساحلية. فيما شهد نظام الفروسية نمواً سريعاً، الذين كانوا الحماة الحقيقيين للحملة الصليبية، فكانوا يبدون وكأنهم رجال وفرسان الملك.
وكان نقل النظام الإقطاعي الأوربي إلى المناطق التي كانت تحتلها القوات الصليبية يعني لجماهير الفلاحين المسلمين والمسيحيين، اشتداد حدة الاستغلال مترافقة مع ضغط إيديولوجي متصاعد. وقد شكل ذلك الأساس لاضطرابات كثيرة للفلاحين والتي منها: انتفاضات كالتي جرت في عام 1125 م في أنحاء بيروت.
ولم يحقق قادة الحملات الصليبية أي تحسن في الحياة الاقتصادية للشرق، بل كانت هذه بصفة عامة في مستوى أعلى مما هي عليه في أوربا. وهذا ما عبر عنه ازدهار التجارة التي كان التجار الإيطاليون الذين كانوا ينقلون بتزايد المنتجات الشرقية (مصنوعات) إلى أوربا، كما أنهم أخذوا تقاليد وأساليب زراعية من الشرق، وقد استشرق العديد من أمراء الحملات الصليبية ولكنهم لم يتوصلوا إلى الحياة المرفهة للفئات العليا التي عاشوها في الشرق، وهم الذين أخذوا عن الشرق تقاليد وعادات التدبير المنزلي، الملابس التي نقلت إلى أوربا، والتي جرى تأصلها هناك. وكان الحجاج المسيحيون (إلى القدس وبيت لحم ـ المترجم) خير واسطة لعملية التبادل هذه، وكذلك قادة الحملات الصليبية الذين يطلق عليهم في أوربا البرابرة.
إن التنامي السريع لاتجاهات القوة المركزية في دول الإقطاع الصليبية، والمنازعات بين الحكام السلاجقة ولا سيما حكام الموصل، حلب، دمشق، والفعاليات الإرهابية للإسماعيليين الجدد "الحشاشين" الذين سرعان ما بدأوا بالقتال ضد الصليبيين وضد السـلاجقة، أحـرز في النصف الأول من القرن الثاني عشر صورة ملونة ولكن مؤقتاً، وبعد عدة نجاحات انهارت تلك الائتلافات وغالباً ما كان يلاحظ وجود حكام مسلمين ومسيحيين في نضال مشترك ضد من هم منتمين إلى دينهم.
ونقطة التحول التي كانت في مصلحة القضية العربية والإسلامية، تمثلت بنهوض أتابكة الموصل، وشخصية عماد الزنكي، الذي تمكن بعد استلامه للسلطة في حلب تمكن عام 1144 من استعادة أديسا، والحملة الصليبية الثانية جاءت نتيجة لذلك والتي قادها الملك لودفيغ السابع Ludwig VII الفرنسي، والملك كونراد الثالث الألماني Konrad III انتهت بفشل كامل، وبدأ القادة الجدد للقوات الصليبية الذين يجهلون المعطيات السياسية المعقدة للشرق، القتال ضد دمشق التي كان سلاجقتها وقادتها قد وقفوا إلى حد الآن مع الصليبيين وقاتلوا معهم ضد الموصل وحلب، كما كان بارونات القدس الإقطاعيين من مملكة القدس يعرقلون حصار دمشق، ولكن لم يكن بوسعهم منعه إذ أن مشاعر سكان هذه المدينة قد انقلب بشكل نهائي وتام لصالح الزنكيين، وهكذا فقد استولى ابن الخليفة ( لعل الكاتب حسب أن الخليفة لقب لكل حاكم ) الزنكي في المناطق السورية نور الدين الزنكي عام 1154 دمشق دون أن يلاقي مقاومة تذكر.
انصب اهتمام قادة الصليبيين والزنكيين الآن على السلطة الفاطمية في مصر التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، والتي مثل ميناء عسقلان الحصن الأخير لها في المشرق العربي، ثم فقدتها على أيدي الصليبيين عام 1153م. أما مصر فقد كانت وبسبب موقعها الاستراتيجي وإنتاجها الوافر من الصناعات الحرفية والمنتجات الزراعية، أهميتها في تجارة البحر المتوسط، هدفاً مهماً لكل الأطراف المتصارعة على السلطة والسيادة. وبعد معارك عديدة ذات نتائج متباينة، تمكن الوزير الفاطمي شاور الذي نال دعماً من نورالدين الزنكي بعد أن أوفد إلى مصر ضابطاً كردياً مقتدراً (شيركو)، تمكن من الانتصار على منافسيه في الداخل وعلى القوات الصليبية التي سرعان ما نالت مساعدة من الملك آمالريش الأول Amalrich Iملك القدس ضد شيركو وقواته.(وكان قد أقيم في القاهرة معسكراً مؤقتاً للصليبيين)، وأخيراً تمكن شيركو عام 1169 م من دخول القاهرة واستلامها.
وكان الخليفة الفاطمي" العاضد" (1160 ـ 1170)والذي لم يكن له حول ولا قوة , كان (وكما هو مألوف في السنوات الأخيرة) طفلاً على العرش، فكان عليه أن يعين شيركو وزيراً، وهي وظيفة حل بها بعد وفاته بشهرين ابن شقيقه صلاح الدين يوسف بن أيوب (1138 ـ 1193) وهو الر جل الذي اشتهر في التاريخ الأوربي باسم صلاح الدين Saladin .
وصلاح الدين وهو ابن لضابط كردي يعمل في خدمة الزنكي، نفسه كان ضابطاً في جيشه، ثم أصبح لاحقاً مؤسساً للعائلة الأيوبية في مصر. فبعد وفاة نور الدين الزنكي عام 1174 (وكان تابع له شكلياً) بدأ ينتزع نفسه من موقف الدولة التابعة للزنكيين، في ظل وضع كانت فيه قدراته وامكاناته تتطور. وخطوة فخطوة بدأ باحتلال مواقع الزنكيين في سورية وبذلك أمكن له توفير المقدمات الجوهرية الأساسية في القتال والانتصار على الصليبيين.
وعندما توفي الخليفة الفاطمي عام 1171 استعد صلاح الدين كداعية مجتهد للإسلام السني ..، لأن يجعل نهاية للسيادة الشيعية على مصر، وأن يذكر اسم الخليفة العباسي، وبذلك اعترف بالخلافة العباسية والارتباط بها وإن شكلياً. وفي عام 1174 ـ 1175، صادق الخليفة العباسي على سلطة صلاح الدين والأيوبيين ومنحه لقب سلطان. وكانت نهاية الأسرة الفاطمية، وكذلك الحل العنيف للوحدات العسكرية المؤلفة من السودانيين والبربر وتأسيس جيش كردي ـ تركي. وكان النظام السلجوقي مطروحاً كمثال في الإقطاع العسكري جاهز للتطبيق الكامل، ولم يجد أي رد فعل من الشعب المصري الذي كان بفئاته العليا والدنيا من المذهب السني.
والعقود الأولى من حكم الأيوبيين في مصر وسورية، أدت جزئياً إلى تقدم اقتصادي جديد. وقد رفعت الحكومة الجديدة الكثير من الضرائب الجائرة، وخفضت الضرائب على الأرض من أجل إدارة الاقتصاد الزراعي، وكذلك من خلال تحسين أساليب الري، كسبت أراضي جديدة والبعض من هذه الأراضي أخذت من القطاعات (الأملاك العسكرية) التي هي الآن خاضعة بشكل مباشر لهدف الإنتاج الزراعي ومضاعفة أرباحها.
وكان لإزاحة احتكار الدولة للعديد من الصناعات اليدوية والتجارة قد أدى إلى تصاعد الإنتاج الحرفي، وإيجاد أنظمة كمارك مختلفة. وأما بالنسبة إلى التجار، فقد مثل ذلك ازدهاراً لعهد التجارة البعيدة المدى، وكل هذه الإجراءات كانت تعني ضرورة وجود دولة مركزية قوية، وبالقياس مع الانهيار اللاحق حيث ساد الكساد والفوضى في الاقتصاد والعودة من جديد في اشتداد الاستغلال المباشر للقوى المنتجة.
ومضى صلاح الدين معتمداً على القوات المنظمة المؤلفة من العناصر الكردية ـ التركية، وكذلك على ضعف السلطة الزنكية ومستثمراً ذلك في بناء وتكوين سلطته بصورة منظمة. وبعد عشر سنوات من القتال كان الأيوبيون قد أصبحوا سادة مصر والحجاز واليمن وسورية وفلسطين(طيلة احتلالها من قبل الصليبيين) وعبر بادية بلاد النهرين.
وقدم رشيد الدين زينان الملقب بعجوز الجبال، وهو رئيس الحشاشين في سورية، تنازلات لرفع الحصار عن قلعته من قبل قوات صلاح الدين في عام 1176 م وأكد فيها إيقاف جميع الهجمات الإرهابية ضد أي طرف كان. وهكذا تمكن صلاح الدين أخيراً عام 1187 م من إلحاق الهزيمة بالصليبيين في فلسطين الذين أنهكوا بسبب قتال دفاعي طويل الأمد، في خطوط طويلة , ومنها شريط ساحلي طويل، أسر فيها ملك القدس، وكذلك شخصيات دينية ووجهاء نظام الفرسان , وعدد كبير من الشخصيات الإقطاعية والدنيوية.
وفي مجرى عام 1187استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يحقق بقواته، سلسلة معارك ظافرة، وأن يحرر منتصراً 52 مدينة وحصن بما في ذلك القدس، وإلى جانب بعض القلاع، بقيت ثلاث مدن ساحلية محصنة وقوية هي : طرابلس، أنطاكية، صور. بقيت بسبب وضعها الجغرافي المناسب بيد الصليبيين. وبقدر ما كان ذلك ممكناً، كان موقف المسلمين وقادتهم كريماً عند احتلالهم القدس وفي تعاملهم مع الأسري والشخصيات المهمة، على عكس الفضاضة والوحشية القاسية التي كان غالباً ما يعامل به الصليبيون أسرى المسلمين، وهو السبب في الصورة الرومانسية لصلاح الدين في الأدب الأوربي.
ولكن الصليبيين والحملات الصليبية ظلت عنصراً مهماً في ملعب القوى السياسية في الشرق حتى زمن المماليك والعهد المغولي. ونصر صلاح الدين كان له الأهمية الحاسمة في إطار الدفاع ضد الاستعمار الاستيطاني وهجوم نبلاء الإقطاع الأوربيين.
وبعد وفاة صلاح الدين عام 1193 م الذي كان قد فقد عام 1191 م المدينة الساحلية "عكا " حيث احتلتها قوات الحملة الصليبية بقيادة الملك ريتشارد قلب الأسد، استطاع أخوه العادل الاستفادة من حالة الشقاق والنزاع بين أبناء صلاح الدين واستغلالها من أجل استلام السلطة في مصر وسورية وشمال بلاد النهرين. وكانت العلاقات بين الأيوبيين والصليبيين منتظمة عن طريق اتفاقيات منذ عام 1192م وكانت هذه تضم السيطرة على بعض المدن الساحلية في سورية وفلسطين.
وكان الملك العادل قد اهتم بشكل خاص بالعلاقات مع الدول الإيطالية في التجارة مع مصر، وتوجب على ولده الذي خلفه في الحكم، الملك الكامل( 1218 م ـ 1232 م )القتال ضد الصليبيين الذين زحفوا على الأراضي المصرية حتى مدينة دمياط الساحلية، ولكن الملك الكامل استطاع إبعاد الصليبيين عن مصر ، وفي عام 1229 م أرغم على قبول طلب من البابا بالتنازل عن القدس للملك الألماني فردريك الثاني بموجب اتفاقية سلام، كما عن شريط من الأراضي يصل حتى الساحل مقابل مساعدة قدمها الملك فردريك بدعم السلطة الأيوبية.
وبعد وفاة الكامل بدأ السقوط السريع للدولة الأيوبية، ودار صراع العائلة على الإرث والموروث، وبذلك فقد لعب الأتراك من قوات الحرس دوراً هاماً فيما يسمى بدور المماليك. وكان كل فرد من الأيوبيين يسعى لكسب أكبر عدد من المماليك إلى جانبه، وقد أدى ذلك إلى إضعاف شديد للسلطة المركزية. فتمكن الملك الأيوبي الصالح عام 1244 م وبمساعدة وحدات من الأتراك الخوارزميين، الذين كان المغول قد طردوهم إلى الغرب، تمكن بصورة نهائية وحاسمة من الاستيلاء على القدس من الصليبيين , وكانت زوجته ذات الحيوية وولده إلى جانبه، ثم تمكنوا أيضا عام 1250 م من طرد الصليبيين من دمياط التي كانوا قد احتلوها قبل عام (أي في 1249 م)، وكان قادة المماليك الممتازين قد بذلوا مساعيهم بصورة صريحة بهدف الاستيلاء على السلطة. وفي عام 1250 م كان قد ظهر على المسرح السياسي في مصر عائلات من المماليك ذات نفوذ قوي، وكذلك في أجزاء أخرى من سوريا، وقد استمرت في الحكم والنفوذ حتى الاحتلال ( الفتح ) العثماني.
وكان التقدم الاقتصادي العام في أوربا في القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر، وتأسيس الجيوش الملكية في بلدان أوربا الغربية واشتداد النزعة العسكرية ـ الاستعمارية في التوسع باتجاه الشرق، من الأسباب الجوهرية للحملات الصليبية في الشرق. ولكن الحملات الصليبية كانت في ذات الوقت من الأسباب الجوهرية للتطور الاقتصادي السريع في أوربا لا سيما دول إيطاليا الشمالية.
أما بالنسبة لسكان المشرق العربي (وكذلك بالنسبة للبيزنطيين) كانت الحروب الصليبية تعني وقبل كل شيء المعارك، الخراب، الظلم والقمع، الخسائر الاقتصادية، والتأثير المستمر على الاقتصاد الأوربي والثقافي ، وكذلك كان التأثير على أنماط الحياة أمراً وارد الحدوث، فكانت هناك تأثيرات ثقافية كما لعبت أسبانيا وصقلية دور الوسيط في نقل تلك التأثيرات وأبعادها إلى أوربا.
وما كان السلاجقة قد بدأوا فيه، من تقوية العقائد الإسلامية السنية ..، كان تحت تأثيرات الضرورة في تشكيل جبهة سياسية وأيديولوجية موحدة ضد الحملة الصليبية، فقاموا بقفزة جديدة إلى الأمام، هذه القفزة لم تؤد فقط إلى تأسيس مدارس عديدة سنية حسب النموذج البغدادي له (النظامية) بل إلى جانب ما اجتهد به صلاح الدين في القاهرة , وما زالت حتى اليوم شواخص على هذه الجهود.