حث الإسلام على التداوي منذ إشراقة شمسه، وذلك حرصًا على مصلحة الإنسان الذي هو أكرم مخلوق على ظهر الأرض، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم :" تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له الدواء " (1) وقال: "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه شفاء علمه من علمه وجهله من جهلة " (2). وهذان الحديثان كانا كفيلين بفتح باب الأمل أمام كل مريض وطبيب في البحث عن سبل لعلاج أي من الأمراض المستعصية وإن عظمت، والمضي قدمًا في هذا الشأن. ولما كانت الأمة العربية محدودة الثقافة في هذا الأمر (3) زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان لا بد أن تمكث فترة حتى تؤتي تلك الدعوة ثمارها، حتى إذا ازدادت فتوحاتهم واستقرت أمورهم في عهد الأمويين " نشأت في الشام وفارس وغيرهما طائفة من الأطباء واسعة العلم عظيمة المقدرة " (4) وهؤلاء قاموا يترجمه بعض الكتب الطبية عن الأمم الأخرى، وخاصة الإغريق، والذين يعدون بحق أئمة العالم في هذا المجال (5). وعلى يدي هؤلاء وجدت بوادر صنع الأدوية على أسس علمية عند المسلمين (6) ثم ازداد هذا الأمر شيئًا فشيئًا، حتى صار للمسلمين الريادة في صناعة الأدوية خلال العصر العباسي، وساعد على ذلك أيضًا تشجيع الأمراء العباسيين الجم للأطباء على اختلاف مللهم، إذ أجزلوا لهم العطاء، وقربوهم إليهم حتى ذكر أن بختيشوع طبيب هارون الرشيد والبرامكة جمع ثروة مقدارها 88.80.000 درهم (7). ونظرة عجلى فيما كتبه يحيى بن ماسويه الذي عاصر المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل يتضح لنا مدى الازدهار في هذا المجال، فقد ذكر له ابن النديم من المؤلفات الطبية" كتاب دفع ضرر الأغذية" و"كتاب الإسهال " وكتاب علاج " الصداع " وكتاب " الدوار "وكتاب" لِمَ امتنع الأطباء عن علاج النساء الحوامل في بعض شهور حملهن" " وكتاب " مجسة الورم " وكتاب " الصوت " وكتاب " البحة " وكتاب " ماء الشعير " وكتاب " الفصد " وكتاب " الحجامة " وكتاب " المرة السوداء " وكتاب " علاج النساء اللاتي لا يحبلن " كتاب "إصلاح الأدوية المسهلة " وكتاب " الحميات " وكتاب "القولنج " (8). وما كتبه الطبيب حنين بن إسحاق( ت 260 هـ) إذ عدد له ابن العديم مجموعة كتب منها كتاب " اللبن " كتاب " العين " كتاب " آلات الغذاء " كتاب " الأسنان واللثة " كتاب " الباه " وكتاب " أوجاع المعدة وعلاجها " وكتاب " الترياق " وكتاب " الفرُّوج " وكتاب " تولد الحصاة " وكتاب " اختيار الأدوية " (9) . وهذه المؤلفات كانت تجمع بين الترجمة من اللغات الإغريقية والهندية والفارسية وبين التأليف الخالص (10) ولكن أهم ما اتسمت به أنها لم تكن مجرد مؤلفات نظرية ، وإنما لازمها التطبيق العملي , يؤكد ذلك ما قاله "ول ديورانت " صاحب كتاب قصة الحضارة الشهير : " إن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة , والتجارب العملية , والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان على ما نعلم ـ على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة ـ فقد اخترعوا الأنبيق وسموه بهذا الاسم ، وحللوا عددًا لا يحصى من المواد تحليلاً كيميائياً، ووضعوا مؤلفات في الحجارة (الكريمة) وميزوا بين القلويات والأحماض ، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها ، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية ، وركبوا مئات منها (11) وأشار في موضع آخر إلى استخدام الحقن فقال : ومن الأدوية المركبة الحقنة … في الدبر وفي قبل المرأة ، وكذلك المراهم التي يعالج بها الجراحات والقروح ، وكثيرًا ما نجد عبارة " جربته " ومجرب " (12) عند وصفهم للأدوية. ويقول أيضا: " وأضافوا إلى علم الأقرباذين العنبر والكافور وخيار الشنبر والقرنفل العطري والزنبق والسنالمكي والمر ، وأدخلوا في الأدوية مستحضرات طبية جديدة ، منها : أنواع الشراب , والجلاب , وماء الورد وما إليها، وكان من أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربية، وكان المسلمون أول من أنشأ مخازن للأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشئوا أول مدرسة للصيدلة " (13). ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئًا على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة ، وقد استخدموا التخدير بالاستنشاق في بعض العمليات الجراحية ، واستعانوا بالحشيش وغيره من المخدرات في النوم العميق (14) . وهم أول من أدخل تغليف الحبوب بالذهب والفضة، وأول من حضّر الأقراص بالكبس في قوالب خاصة .... واستخدموا في عمليات الترشيح والتبخير والتذويب ( الصهر ) والتبلور أدوات طبية تشبه الآلات المستخدمة حديثًا , مثل البوط والبوتقة والراط والمسبكة "القالب " والمكوى والماسك والمبرد والملعقة والمقص والمطرقة والمنفاخ والأتون والأثال والإنبيق والتنور والحريرة والدرج والرادوف من الخيش والسلة أو القفص والسكرجة والصلابة والقابلة والقارورة والقدور والقمع والمنخل والمهراس والنشابة والميزان لوزن وتقدير الثقل (15). واستخدموا المباضع لإجراء العلميات الجراحية (16) والإبرة المجوفة لامتصاص ماء العين (17) وقاموا بتجريب الدواء على الحيوان لمعرفة مدى فاعليته وآثاره الجانبية قبل تناول البشر له (18) وسبقوا العالم الحديث في ذلك ، واستفادوا من الحشرات التي يظن أنها ضارة ولا يرجى منها فائدة مثل الذباب الذي يقول عنه الجاحظ :" من منافع الذباب أنها تحرق وتخلط بالكحل، فإذا اكتحلت به المرأة كانت عينها أحسن ما يكون وقيل: إن المواشط تستعمله (19). وابتكروا منذ وقت مبكر أدوية للأمراض التي يُظن أنها لم تعالج إلا حديثًا مثل العقم ، فقد ذكر ابن العديم أن مسلمة بن هشام بن عبد الملك كان لا ينجب فوصف له برمك جد البرامكة دواء فتعالج به (20) ومثل السكتة الدموية أو انفجار المخ ، والذي يعد من أخطر الأمراض العصرية، وذلك عن طريق الجراحة واستخراج الدم الفاسد (21) واستطاعوا تحديد نوع الجنين ذكرا أم أنثى في الشهور المتقدمة من الحمل عن طريق فحص بول الأم (22). ووضعوا من القواعد الصحية ما تنادي به منظمات الصحة العالمية الآن مثل ضرورة الاقتصاد في استعمال الأدوية قدر الإمكان ، يقول أحدهم: " لا تشرب الدواء إلا وأنت محتاج إليه، فإن شربته من غير حاجة ولم يجد داء يعمل فيه ،وجد صحة يعمل فيها ، فيحدث ضررًا "(23) ويقول الآخر:" مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية! ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب ! (24) ويقول ثالث : "دافع الدواء ما وجدت مدافعًا ! ولا تشربه إلا من ضرورة ! فإنه لا يصلح شيئًا إلا أفسد مثله (25) .. وتوصلوا إلى أن الأحوال النفسية تؤثر في البدن تأثيرًا قويًا وفي صحة المريض سلبًا وإيجابًا (26). وهذا التطور في المجال الطبي عند المسلمين كان له أثر على البشرية جمعاء , وما زال الناس يعترفون بفضل الأطباء المسلمين مثل : ابن سيناء والرازي (27) الذين عاشا في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي , وقد ظلت مؤلفاتهم الطبية , تدرس في الغرب حتى القرن السادس عشر الميلادي ، بل وعلقت لهما بمدرسة الطب بجامعة باريس صورتان ملونتان (28) وقد لعبت الحكومات الإسلامية دورا هاما في ازدهار المجال الطبي , إذ كانوا ينظمون هيئات من الأطباء يطوفون في مختلف البلاد ليعالجوا المرضى، كما كان الأطباء يذهبون في كل يوم إلى السجون ليعالجوا نزلاءها (29) كما كان بعضهم يقوم بتوزيع الأدوية على المرضى في أوقات انتشار الأمراض دون أي مقابل (30) . وأقاموا المستشفيات وأوجدوا لها الأطباء في كل التخصصات حسب احتياجات كل بلد , فكان بمستشفى دمشق عام 978م على سبيل المثال أربعة وعشرون طبيبًا (31) . وبرع من المتخصصين في صناعة الأدوية كثير من العلماء خلال العصر العباسي مثل أبي عبد الله محمد بن سعيد التميمي وكان مقيمًا بالقدس، وكان له غرام وعناية فائقة في تركيب الأدوية ، وحسن اختيار مادتها ، وعنده غوص بأمور هذا النوع ، واستغرق في طلب غوامضه ، وهو الذي أكمل الترياق الفاروق بما زاده فيه من المفردات ، وذلك بإجماع الأطباء على أنه الذي أكمله . وشجعه على ذلك الحسن بن عبد الله بن طغج الإخشيدي ، وكان مغرمًا به وبما يعالجه من المفردات والمركبات، وعمل له عدة معاجين ولخالخ طبية ودخنا دافعة للوباء, وسطر ذلك في أثناء مصنفاته ، وكذلك الوزير ابن كلس حيث أهدى له هذا العالم كتابًا سماه مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأبدان (32) . ولنسمع له وهو يصف أحد أدويته حيث يقول : هذا ترياق ألفته بالقدس ، وأحكمت تركيبه ، مختصر نافع الفعل ، دافع لضرر السمومات القاتلة الشريرة والمصحوبة في الأبدان بلسع ذوات السم من الأفاعي والثعابين ، وأنواع الحيات المهلكة والعقارب …. وغيرها ، وذوات الأربع والأربعين رجلاً .. مجرب ليس له مثيل ، ثم قدم لنا وصفًا دقيقًا للأشجار التي يأخذ منها مواده الأولية وأوقات جمعها ، وكيفية عجن هذا الدواء (33) . واشتهر من العلماء في صناعة الأدوية أيضًا أبو عثمان الدمشقي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي ( القرن الرابع الهجري) وابن دينار الذي عاش في القرن الحادي عشر ( القرن الخامس هـ ) والذي كان خبيرًا بصناعة الأدوية , وينسب إليه دواء الشراب المعروف بالديناري وله كتاب الأقرباذين (34) وابن بطلان الذي عاش في القرن الخامس الهجري( الحادي عشر الميلادي) (35)وغيرهم الكثير الذين امتلأت خزائن المستشفيات بما أنتجوه من أدوية (36) . وكان منهم من يقوم بصناعة الأدوية وتوزيعها مجانًا على المحتاجين مثل أحمد بن عبد الملك الهاشمي الذي كان يعد العلاجات والأدوية والأشربة التي لا توجد عند أحد إلا هو(37). وشاع بيعها في الحوانيت الخاصة بها والمنتشرة في سائر البلاد الشامية(38) على اختلاف أصنافها حتى قال المقدسي : "وبه ـ الشام ـ عقاقير كل دواء" (39). وأما عن أشهر الأدوية التي صنعت في العصر العباسي فهي: الترياق وهو اسم جنس لمجموعة أدوية مختلفة مقاومة للسموم , وغيرها من الأمراض ، واشتهر بإنتاجه وتصديره كثير من المدن الإسلامية (40) وهذا الدواء قد وجد في كثير من أقطار العالم منذ صدر الإسلام (41) إلا أنه توسع في تركيبه , فتعددت أنواعه وفوائده ، يقول صاحب عيون الأنباء في طبقات الأطباء : لم يكن الترياق سوى حب الغار وعسل , ثم صار إلى ما صار إليه من الكثرة (42) وأفرده كثير من الأطباء والصيادلة بمؤلفات خاصة (43) . وقد أشار الأنطاكي فيما بعد إلى فائدة بعض أنواعه بقوله : يحلل الرياح الغليظة ويصلح الكبد والطحال إصلاحًا عظيمًا ... وقال أيضًا عجيب الفعل في التخلص من السموم والقيء والإسهال ويقوي المعدة .. والدوران وأوجاع الظهر (44) . والسقمونيا وهو من الأدوية الشائعة المتعددة الأنواع أيضًا , وأجوده الأنطاكي , ويستخرج من تجاويف نبات يسمى بهذا الاسم مع بعض المواد المعطرة كالفلفل والزنجبيل والأيسون ويستخدم في علاج أمراض المعدة والأحشاء , وفي علاج المرارة والصفراء... وفي القضاء على دودة البطن بشربه مع الحليب على الريق (45) وتستخدم أنواع منه في معالجة البرص والكحة والصداع المزمن وعرق النسا كما يفيد في لسع العقرب سواء تناوله كشراب أو كطلاء على العضو المصاب (46) وبعضه يستخدم كعلاج للإسهال (47) . ودهن البفسج الذي كان يستعمل في علاج الصداع والسعال (48) وشراب الهليون الذي كان يستعمل في تفتيت الحصى (49) وماء الشعير وماء البذور و الكسنجين وهو خليط من الخل والعسل أو السكر وبعض الفواكه وهو دواء نافع للربو (50) . وشراب زوفا وهو نبات بجبال بيت المقدس كان يستخدم لعلاج الصدر والرئة والربو (51)والجوارسن وكان يسمى مفتاح السرور, وهو شراب يصنع من التفاح يستخدم لعلاج المفاصل والنقرس وضعف الأحشاء (52) ومنه نوع يقوي المعدة ويهضم الطعام (53). واستخدموا من السماق أيضا دواء لشد المعدة وجلاء خشونة اللسان وتسكين العطش والغثيان (54). وشراب التفاح لتقوية الكبد وإصلاح الدم وشراب الإجاص لتخفيف القرح وقتل الدود (55) وشراب ورق الآسي البري وثمره في إدرار البول وتفتيت الحصى وإدرار الطمث وبرء اليرقان والصداع (56). ومن الأدوية التي شاعت أيضا عند المسلمين الشائعة دهن الخطارة ، وكان يصنع بمدينة الرقة بالشام ، ويعالج به الرياح والنقرس (57). وماء الورد الذي اشتهر باسم ماء ورد شامي ، وكان يصنع بالشام , ويصدر إلى كثير من بلدان العالم ، وكذلك ماء القرنفل (58). وصنعوا بعض الأدوية لعلاج الأسنان واللثة ، ومن تلك الأدوية ما قال عنه أحد الأطباء العرب وهو " الكفرطابي " : " يثبت اللحم في اللثة ويقويها ... ويطيب رائحة الفم ، وصفته يؤخذ عدس مقشر , وأبو البحر , وحب الأثل , وسعد كوفي , ومن كل واحد جزء سكر بياض , تسحق مفردة وتنخل , ويمضمض بعده في الشتاء بماء حار , وفي الصيف بماء بارد(59) . كما صنعوا توليفة لعلاج البواسير , يقول عنها أيضًا الكفرطابي : " دواء حار لقطع البواسير مجرب....زرنيخ وكبريت وزنجار وأصل الكبد وقلى ونورة غير قطنية وهال هندي وبلاذ رود فلى وميعة رطبه وأصل حرمل ،عن كل واحد جزء واحد على حدته ، ويضاف إليه مثله ثلاث مرات دهن نوى مشمس أو من زيت عتيق ، ويضرب في الهاون حتى يصير شيئًا واحدًا , ويلطخ به البواسير بعد أن يطلى ما يليها بطين وصمغ عربي , محلولة بماء ورد ؛ لئلا يقع الدواء على غيرها ، وإذا كانت البواسير في داخل السفرة أقلبت السفرة بالآلة التي تستعمل في قلبها ، ولطخت وتركت مدة ثلاث ساعات ، ثم مسحت بقطنة مبلولة بدهن فإنه يجففها ويسقطها ويداوى موضعها بمرهم الأسفيناج (60) . هذا وقد حازت أمراض العيون باهتمام كبير عند المسلمين السابقين ، وابتكر لها كثير من الأدوية ووسائل العلاج ، وكثرة المؤلفات التي وضعت في هذا الشأن دليل على ذلك (61) ومن تلك المؤلفات كتاب "تشريح العين " لعلي بن إبراهيم الكفر طابي ، وأقتطف منه هذا الوصف لأحد الأدوية التي ذكرها حيث يقول : " يؤخذ أثمد أصفهاني وزن ثلاثين درهما ومشاذنج وتوتيا خضراء ، وإن كانت هندية كان أجود، من كل واحد خمسة دراهم , تغسل بماء مطر أو من عين عذبة صافية الماء تسع مرات, ويسحق ناعمًا، ثم يسكب عليه ماء داز يانج أخضر مدقوق معصور، ويسحق به أيامًا حتى يجف ، ويربى بهذين ثلاث دفعات كلما جف أعيد إليه، ثم ينخل بحريرة، ثم يؤخذ من سنبل الطيب ثلاثة دراهم , وسنبل شامي ثلاثة دراهم , ويخلط الجميع ويكحتل به بكرة وعشية, فإني جربته فرأيت منفعته بالغة حسنة بإذن الله (62) كما أشار الخوارزمي إلى مجموعة من هذه الأدوية في كتابه "مفاتيح العلوم "(63). هذا وينبغي أن نعلم أنه إذا كان الصيادلة المسلمون في القديم قد اعتمدوا في تركيبهم للأدوية على النباتات الطبية أو ما يسمى بالعقاقير أو الأعشاب أكثر من غيرها, فإن استعمالهم لها لم يكن جزافًا كما يفعل العطارون حديثًا ، مُوهمين الناس أن هذا علاج طبيعي ليست له آثار جانبية ، جاهلين أن كثيرًا من هذه النباتات قد تودي بمن يتناولها إذا استخدمت على غير علم. وليت المسئولين عن الصحة يلزمونهم بما أُلزم به السابقون , حيث كان لا يمكن أحد من بيع العقاقير إلا من له معرفة وخبرة وتجربة , ويكون أمينًا في دينه عنده خوف من الله تعالى كما يقول ابن الأخوة: "وقد يشتري الجاهل عقارًا من العقاقير معتمدًا على أنه هو ثم يبتاعه منه جاهل آخر متيقناً منفعته فيحصل له باستعماله عكس مطلوبه (64)وقال الشيرازي : إن العقاقير والأشربة منها ما يصلح لمرض ومزاح فإن أضيف إليها غيرها أخرجها عن مزاجها فأفضت بالمريض لا محاله ….)(65) . وكان المحتسب يلزم العقاقيري أو الصيدلي بعدم بيع الأدوية إلا لمن لا يستراب فيه وهو معروف , وبخط متطبب ماهر لمريض معين في دواء موصوف(66). وكان يلزم الصيدلي أيضاً أن يختار أفضل الأدوية، ويتعهد بألا يخالطها شيء من غيرها, وفي حالة الأدوية المباعة مثل الحشائش والبذور فينبغي أن يطحنها طحنًا دقيقًا في الهاون , ثم تنخل بحريرة , ويعاد دقها ونخلها ثانية ، ثم تعاد إلى الهاون , وتسحق سحقًا دقيقًا حتى تصير كالغبار ، وينبغي أن يصحن كل من الأدوية مفردا, ويؤخذ من كل الأوصاف الوزن الموصوف, ويخلط جميعًا ثم ينخلل في منخل الحرير, وإذا أُريد أن يُعمل من الدواء معجونًا بالعسل تؤخذ الكمية المحدودة , ثم يبذر عليها الأدوية المسحوقة , ويضرب حتى يستوي ، وإذا أريد أن يعمل من الدواء أقراصًا فينبغي أن يلقى الدواء المسحوق في الهاون ، ويصب عليه الماء أو الشراب أو غيره , مما يحتاج أن يعجن به قليلاً , ويدق دقًا جيدًا حتى يلتئم ويستوي ، ويمكن أن يصنع منه أقراص , وإذ أريد عمل حبوب فينبغي إن كان فيها شيء من الصموغ أن تحل الصموغ بالماء الحار, وتسحق الأدوية وتدق دقًا جيدًا ,ثم يصب على الصمغ , ويحرك حتى يلتئم الصمغ بالعجين,ثم يحبب على مقدار ما يحتاج إليه , ويجفف في الظل ، وإذا كان الدواء شرابًا فإن عمل مما يعقد ماؤه كالرمان أُلقي الثلثان من السكر على المثل من مائه ثم يطبخ حتى ينعقد .. (67). هذا وقد عرف المسلمون الأوائل نظام التخصص في الطب , وتدرج المستويات , وصار لكل طبيب تخصص معين , ومع ذلك كان ينصح المتخصص باستشارة أصحاب التخصصات الأخرى قبل وصف العلاج ـ كما يحدث الآن ـ كيما لا يضر بأعضاء أخرى, فكان رئيس الكحالين ـ أطباء العيون ـ مثلاً يأمر كلاً منهم ألاّ يقدم على مداواة عين حتى يعرف حقيقة المرض …..وأن يستشير الأطباء الطبيعيين فيما أهمَّ مما لا يستغنى عن رأي مثلهم(68) . كما كان للأطباء رئيس يكلف بكثير من المهام منها : أن يأمر المعالج أن يعرف حقيقة المرض وأسبابه وعلاماته ثم ينظر إلى السن والبلد ، وأن لا يهاجم الداء ولا يستغرب الدواء ، ولا يُقدم على الأبدان إلا بما يلائمها، ولا يخرج عن عادة الأطباء , ولو غلب على ظنه الإصابة , حتى يستبصر فيه برأي أمثاله , ويتجنب القياس إلا ما صح بتجريب غيره في مثل ما أخذ في علاجه,وما عرض له وسنه وفصله وبلده ودرجة الدواء , وأن يحذر التجربة فإنها خطر, مع الاحتراز في المقادير والكيفيات, وفي الاستعمال والأوقات , وما يتقدم ذلك الدواء أو يتأخر عنه , ولا يأمر باستعمال دواء ما يستغرب من غذاء حتى يحقق حقيقته, ويعرف جيده من عتيقه ليعرف قوته في الفعل (69) . وأخيرا أقول : إن المسلمين الأوائل قد عرفوا أيضًا صناعة الأدوية البيطرية ، إذ كان لا بد من الاعتناء بها ، خاصة في مناطق الثغور, حيث ترابط الخيول التي تحتاج إلى رعاية واهتمام في وقت كان ثمن الفرس يصل إلى آلاف من الدراهم ، وقد عد ابن الأخوة صاحب كتاب "معالم القربة في أحكام الحسبة " حوالي ثلاثمائة وعشرين علة تصيب الدواب (70) وذكر الأدوية البيطرية التي تستخدم في علاجها . كما عرفوا كثيرا من أدوية النبات , وقد قال ناصر خسرو أحد الرحالة عن بعضها : " ويخرج من البحيرة المالحة" بحيرة طبرية " شيء كالحجارة السوداء غير صلب , يأخذه السكان ويقطعونه ويحملونه إلى المدن والولايات، ويقال : إنه إذا وضعت قطعة منه تحت شجرة يمنع الدود منها من غير أن يمس جذورها أذى .. وقيل : كذلك كان العطارون يستخدمونه لأنه يبعد دودة تصيب البذور اسمها النقرة (71). وابتكروا لآفة السوس التي هي من الآفات الخطيرة التي تصيب النبات وخاصة القصب طريقة ظريفة حيث كانوا " يجعلون القطران في قادوس مبخوش [ مثقوب من أسفله] ويُسد ذلك البخش بشيء من الحلفاء ، ويعلق القادوس على جدول الماء ، ويمزج القطران فيقطر من خلال ذلك البخش المسدود، ويمتزج قطره بالماء الذي يصل إلى القصب ، ويحصل به المقصود (72) .. وأما بالنسبة للحبوب فحفظوها من التسوس عن طريق خلطها بقليل من الرماد ، يقول المقدسي : " وإذا خلط في كل مائة جزء من الحنطة جزء من الرماد الأبيض حفظها "(73) . ـــــــــــــــــــــــ الهوامش : (1) سنن الترمذي: كتاب (الطب عن رسول الله ) الحديث رقم 1961/و سنن أبي داوود :كتاب الطب الحديث رقم 3376/ وهو في مسند أحمد رقم 17727 أيضا بلفظ "...إلا أنزل معه شفاء إلا الموت والهرم " (2) مسند أحمد :حديث رقم 4106 (3) دلت بعض الأحاديث على شيوع قليل من الأدوية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مثل اللد الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم "خير ما تداويتم به اللد وهو شراب يسقى في أحد شقي الفم " (انظر المزهر في اللغة :ج 2 ص 127 ) وخير الدواء العلقة .. " وهي دويبة حمراء تكون في الماء تعلق بالبدن وتمتص الدم وهي من أدوية الحلق والورم ؛ لامتصاصها الدم الغالب على الإنسان (النهاية في غريب الحديث: ج 3 ص 197) وشاع دواء الترياق المقاوم للسموم انظر (طبقات الشافعية :ج 1 ص 228) . (4) ول ديورانت : قصة الحضارة مجلد 4 جزء 2 ص 189 . (5) ومن يراجع كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء يرى صدق ذلك. (6) د / عبد العظيم حنفي وآخرون : موجز تاريخ الصيدلة عند العرب ص 318 إصدار جامعة الدول العربية . (7) ول ديورانت : قصة الحضارة مجلد 4 جزء 2 ص 190 /وانظر عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ج 1 ص 186 وما بعدها . (8) الفهرست: ص 411 . (9) ابن العديم : بغية الطلب ج 6 ص 2986 . (10) انظر مثلاً الفهرست ص415 . (11) ول ديورانت: قصة الحضارة مجلد ج24 ص 187 .وقد قسم الخوارزمي الأدوية الشائعة في عصره إلى : أدوية معجونة ومطبوخات وحبوب ولعوقات وأضمدة وأطلية وأدهنة وأشربة وربوب (انظر الخوارزمي : مفاتيح العلوم ص88). (12) انظر مثلا : عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ج1 ص 548 . (13) ول ديورانت : قصة الحضارة ج2 مجلد 4 ص 189 . وانظر فيليب حتى : تاريخ العرب ص 447 / و سيدو : تاريخ العرب العام ص 382 ترجمة عادل زعتر ط2 سنة 1389 هـ . (14) السابق : مجلد4 ج 2ص 189 ، 190 . (15) د . عبد العظيم حنفي : موجز تاريخ الصيدلة ص 354 و 357 و 358 بتصرف . (16) عيون الأنباء: ج 1 ص 314 . (17) عبد المنعم ماجد: تاريخ الحضارة الإسلامية ص 253 . (18) انظر عيون الأنباء: ج 1 ص 16 . (19 المستطرف في كل فن ستطرف: ج2 ص 245 . (20) ( بغية الطبب ج7 ص 3019 . (21) انظر عيون الأنباء :ج1 ص 314 . (22) السابق: ج1 ص 215 . (32) السابق :ج 1 ص 50 . (24) أبجد العلوم :ج 3 ص 115 /وانظر عبد العزيز سالم : الحياة العملية والأدبية في الأندلس ص 194 . 195 ط سنة 1958 م ضمن( سلسة دائرة معارف الشعب كتاب 64 ). (25) عيون الأنباء: ج 1 ص 166 . (26) انظر السابق: جـ 1 ص 548 . (27) ول ديورانت : قصة الحضارة مجلد4 ج2 ص 196 . (28) السابق:مجلد 4ج2 ص 192 بتصرف . (29) السابق: مجلد 4ج2 ص 190 . (30) ابن الجوزي:المنتظم ج9ص27 (31) ول ديورانت : قصة الحضارة مجلد 4ج2 ص 190 . (32)أبو العباس أحمد بن القاسم : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ـ تحقيق نزار رضا ، بيروت ـ مكتبة دارالحياة ج1 ص 546 وما بعدها . (33) السابق:ج1 ص 548. (34) السابق:ج1 ص 329 . (35 السابق:ج1 ص 316 . (36) ابن جبير : الرحلة ص 198 . (37) ابن العديم : بغية الطلب جـ 2 ص 1002 . (38) السابق: جـ 9 ص 4010 . (39) أحسن التقاسيم : ص 134 . (40) المقدسي : أحسم التقاسيم ص 155 . (41) انظر الأصفهاني : حلية الأولياء جـ 1 ص 185/ والمغرب في حلى المغرب جـ1 ص 73/ وابن حجر : الإصابة جـ1 ص 595 والدارس في تاريخ المدارس جـ2 ص 105 . (42)عيون الأنباء: جـ 1 ص 16. (43انظر مثلاً ابن النديم : الفهرست ص 405 و 409/ وابن العديم : بغية الطب جـ 6 ص 2986 / وكشب الظنون جـ 2 ص 1204 /ولسان العرب جـ 10 ص 32 . (44) داود الأنطاكي : تذكرة داود 108 . (45) انظر عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج1ص91 , 190 208 . (46) د . محمد مؤنس : الجغرافيون والرحالة المسلمون .في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية ص 242 ، 243 . (47) التعريفات: جـ 1 ص 141 . (48) المقدسي : أحسم التقاسيم ص 55/وابن الأخوة : معالم القربة ص 188 /و أ / محمد كرد:خطط الشام جـ 4 ص 166 . (49ابن الأخوة : معالم القربة ص 189 . (50) عيون الأنباء:ج1 ص 314 . (51) ابن الأخوة : معالم القربة ص 188 . (52) ابن العديم: بغية الطب ج1 ص 211 ولسان العرب: جـ 7 ص 457 . (53) لسان العرب: جـ 13 ص 88. (54)البدري: نزهة الأنام ص 202 ، 203 . (55) ابن الأخوة :معالم القربة ص 186 . (56) نزهة البدري ص 108 ، 109 . (57) ابن الفقيه: مختصر كتاب البلدان ص 134 . (58) انظر ابن الشحنة :الدر المنتخب ص252 ،وقد ذكر أن الأطباء كانوا يصفونه لمرضاهم (59) علي بن إبراهيم الكفرطابي : تشريح العين ص 118 . (60) حسن السمين: الحياة العلمية في بلاد الشام ص 804 وانظر الكفرطابي : تشريح العين ص 121 . (61) انظر مثلا عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج ص (62) حسن السمين : الحياة العلمية في بلاد الشام ج2 ص 824 وانظر علي بن إبراهيم الكفرطابي : تشريح العين ص 118 . (63)انظر الخوارزمي:مفاتيح العلوم ص89 . (64) ابن الأخوة: معالم القربة ص 199 (65) الشيرازي: نهاية الرتبة ص 42 (66) السابق: ج11 ص 212 (67) د.عبد العظيم حنفي صابر وآخرون . موجز تاريخ الصيدلة عند العرب ص 371 بتصرف/ وانظر أيضًا الأنطاكي : تذكرة داود ص 35 وما بعدها . (68 السابق: ج11 ص 99 (69) صبح الأعشى :ج11 ص 99/ وانظر الإشارة إلى محاسن التجارة ص 40 (70) انظر ابن الأخوة : معالم القربة ص 235 . بتصرف . (71) سفرنامه: ص 53 . (72) نهاية الأرب ج8 ص 267. (73) السابق : ج8 ص 267. المصدر : موقع التاريخ