نشأة الحضارات وأفولها الحضارة متواصلة العطاء ، وقيمة كل أمة في ميزان بناء الحضارة يساوي ما قدمته مطروحاً منه ما أخذته. إن مصباح الحضارة ونتائجها ، نقلت من يد إلى يد ، حتى عشنا حضارة الذرة والإلكترون ، والصاروخ عابر القارات ، والحاسوب (الكمبيوتر) ، والرابوط (الإنسان الآلي). إن قيام حضارة جديدة في مكان ما ، كان يعني زوال أخرى من مكان آخر ، فالحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة ، واليوم لا تزول حضارة بقيام أخرى ، والسبب سهولة المواصلات ، وتقدم وسائل الاتصال ، فالعام أضحى (غرفة واحدة) محدودة الجوانب ، صغيرة الحجم ، واضحة المعالم ، فالإنسان يرى – أو يعلم سمعاً – ما يجري في الطرف الآخر من الكرة الأرضية ، في الثانية ذاتها ، عند وقوع الحدث. وأرجع العلامة عبد الرحمن بن خلدون أسباب أفول حضارة ، وبالتالي قيام أخرى من مكان إلى آخر ، إلى عوامل ، منها : 1- عوامل مادية : كاتساع رقعة الملك ، وعدم خضوع الأطراف النائية للسلطة المركزية. 2- عوامل اقتصادية : ويعني بها حالة الترف والدعة بعد فترة الاستقرار. 3- عوامل اجتماعية : فالمجتمع خاضع للتطور المحتوم ، وللدول أعمار كأعمار الأفراد. وتمر الحضارة في خمس أطوار : 1- الفتح والاستيلاء واكتساب المجد. 2- طور استبداد صاحب الدولة على قومه ، وكبح جماحهم عن التطاول. 3- طور الفراغ والدعة ، فيميل صاحب الدولة إلى تحصيل المال ، وتخليد ذكره بالآثار ، مع تمجيد شخصه. 4- طور القنوع والمسالمة ، يقنع الحاكم بما بناه أسلافه ، ويسالم غيره من الحكم وأصحاب السلطات. 5- طور الإسراف والتبذير ، حيث يصبح صاحب الدولة - وبطانته – أسير الملذات والشهوات ، فتصبح الدولة في حالة هرم ، وتسير بخطوات سريعة إلى الأفول. والحضارة مع ذلك في نمو مستمر ، فهي متواصلة العطاء ، وقيمة أمة في ميزان بناء الحضاري يساوي ما قدمته ، مطروحاً منه ما أخذته تطبيقاً للقاعدة : قيمة كل أمة في ميزان بناء الحضارة يساوي ما أعطت وقدمت ، مطروحاً منه ما أخذت واقتبست. قيمة أمة ما = ما أعطت وقدمت – ما أخذت واقتبست ولقد وضع العلماء لنمو الحضارة أشكالاً ، الشكل اللولبي ، وشكل الدوائر المقفلة : وتقدم شكل (السلم) ، الذي يمثل : 1- نمو الحضارة المتواصل. 2- أطوار الحضارة : بداية النهضة ، التي هي نهاية أفول الحضارة السابقة ، ثم الأوج ، ومن ثم الأفول الذي يعني بداية نهضة حضارية جديدة في مكان آخر من العالم. *** مهد الحضارة ومن حق المرء أن يتساءل : أين كان مهد الحضارة الأولى ؟ هل هي المناطق القاحلة في آسية الوسطى ، التي كانت في يوم من أيام التاريخ السحيقة في القدم ، تتمتع بمناخ معتدل مطير ، حيث عثر في (أناو) جنوبي التركستان على خزف وآثار تدل على حضارة أرجعت إلى 5000 ق.م ولما جفت المنطقة شيئاً فشيئاً وأقفرت ، اندفع أهلها عبر ثلاث قنوات : - شرقاً : إلى منشورية ، والصين ، وأمريكة الشمالية عبر مضيق (بيرنج Biring). - وجنوباً : إلى شمالي الهند ، حيث عثر السير (جون مارشال) عام 1924م، على الضفة الغربية من حوض نهر السند الأعلى – موقع : موهنجو – داور – على مدينة بالغة الرقي ، قامت خلال الألف الرابعة والثالثة قبل الميلاد. - وغرباً : إلى عيلام ، حيث عثر في عاصمتها سوزا (السوس ، شوشان) على حضارة راقية ، يرجع عهدها إلى عام 4500 ق.م ، حيث الزراعة ، واستئناس الحيوان ، وعرفوا كتابة مقدسة ، ووثائق تجارية ، سجلت حركة تجارتهم التي امتدت من الهند إلى مصر ، كما عثر فيها على عجلة الخزاف، وعجلات المركبات ، ومزهريات رشيقة ، وتشبه آثار سوزا آثار (أناو) ، مما جعل المؤرخين يفترضون أنه قد كان بينهما صلات حوالي 4000 ق.م. وهناك شبه كهذا في الفنون والمنتجات القديمة بين بلاد ما بين النهرين ومصر ، يوحي بوجود علاقة كبيرة بينهما ، وارتباط يدل على اتصال مجرى الحضارة. ويرجح آخرون من علماء الآثار والتاريخ – مع تزايد المعرفة – أن دلتا الفرات ودجلة شهدت أول مشاهد المسرحية التاريخية للحضارة الإنسانية . وقرر آخرون أن مراحل الحضارة القديمة نشأت في شرقي البحر المتوسط ، في كل من مصر والرافدين. ويمكننا القول لنقترب من الحقيقة أكثر : كانت دلتاوات الأنهار الكبرى في بلاد الرافدين ، ومصر ، والهند ، والصين مهد الحضارة ، علماً أن فريقاً من علماء الحفريات والأجناس الأمريكيين والفرنسيين العاملين في إثيوبية توصلوا إلى اكتشاف بقايا إنسان (هيكل عظمي) ، يرجع تاريخها حسب تقديرهم وفقاً لنشاط (الكربون 14 المشع) إلى أكثر من خمسة ملايين سنة. *** التقدم الإنساني نحو الحضارة : انقرضت تدريجياً الحيوانات الثديية الضخمة ، على الرغم من قوتها العظيمة ، ولم تستطع مقاومة القوى الطبيعية التي استطاع الإنسان (بعقله) أن يتغلب عليها ، وأن يدافع عن بقائه بين المخلوقات المتنافسة على البقاء ، وقد ازدادت مقدرته (وخبرته) إلى حد كبير عندما أصبح أول المخلوقات – بل الوحيد من بينها – الذي تمكن من صنع الأدوات ، التي كان من أولها تحسين شكل الحصاة التي التقطها ، وجعلها أكثر ملائمة للغرض الذي أراد أن يستعملها فيه ، حتى غدت قطعة الحجر هذه ، رمزاً متميزاً للعصر الحجري ، الذي كان قبل مئتي ألف سنة مضت. وتقدمت خبرة الإنسان في صناعة الأدوات والآلات ، التي كان لها أعمق الأثر في ارتقائه ، بعد تجربة بطيئة ، ومجهود طويل. وهكذا.. كان العمل أول عامل من عوامل الحضارة : صناعة ، ثم زراعة ، أي استقرار وأسرة وقبيلة ، ثم نقل وتجارة وتبادل سلع. كما نشأ نوع من تنظيم للحياة والمجتمع ، فقامت سلطة (حكومة) ، لحماية الإنسان من الكوارث أو الأخطار التي تحيط به. تلا هذه الحضارة ظهور أعراف ، وقوانين ، وشرائع نظمت ما يجيش في الإنسان من شهوات ، وأخضعتها للطريق السوي ، فبغير (القانون) تنحل الجماعة أفراداً ، وتسقط فريسة لمجتمع (أو لدولة ، أو لسلطة) أخرى ، يكون فيها التماسك الاجتماعي أمتن وأقوى ، (ويندر أن يأتي الموت إلى المدينة من خارجها ، بل لا بد للانحلال الداخلي أن يفت في نسيج المجتمع أولاً ، قبل أن يتاح للمؤامرات ، أو الهجمات الخارجية أن تغير جوهر بنائها ، أو أن تقضي عليها قضاء أخيراً. وفي ظل هذه الدول والمجتمعات المستقرة ، ظهرت الأديان ، وتوحدت العبادات في كل منها ، وأكثرها متشابه تمام التشابه ، وإن اختلفت في بعض الجزئيات ، ونحن نرى أن الأديان كانت أول أمرها نواميس سنها الله عز وجل للإنسان بوساطة أنبيائه : (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) كي يعيش الإنسان بطمأنينة وحرية وهناء، ومن المعلوم أن العقائد الوثنية عرفت في كل المجتمعات القديمة ، ولعل السبب في ذلك هو أنه عندما يأتي النبي يتبعه قومه ، وبعد وفاته يدخل الناس إلى تعاليم بعض العقائد الوثنية ، التي كانت قبل مجيئه ، وقد يقتبسون من بعض الديانات الوثنية الأخرى أشياء وتعاليم ، يحشرونها في دينهم ، كما قال تعالى : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ) ، لذلك لا تخلو عقائدهم من لمحات صحيحة وفكر سليمة. لقد عثر العلماء على مخلفات هذه الحياة البدائية في كثير من أرجاء آسية ، وإفريقية ، وأوربة ، ولا يعرف أحد في أي مكان تمت جميع المراحل التي ساعدت على تكوين حضارة ، هذه العملية لم تكن متساوية ، أو على مستوى واحد في أمكنة مختلفة في العالم ، فمثلاً : استطاع كل من سكان مصر ، وبلاد الرافدين ، من اختراع الكتابة قبل أن يعرف غربي أوربة أي طريقة للكتابة بثلاثة آلاف سنة. وكانت لمصر وبلاد الرافدين صلة تجارية بغيرهم من الأمم بوساطة السفن ، في الوقت الذي كان في الأوربيون ما زالوا يبنون منازلهم مستعينين بأدوات من الحجر، ولم يعرفوا أية وسيلة من وسائل الملاحة غير الزورق المنحوت من جذع الشجرة. كتاب الحضارة العربية الإسلامية ، للدكتور شوقي أبو خليل ، 17-42