تعريفها ، شروطها ، انتقالها، مصادرها ، نشأتها، مهدها إن كلمة الحضارة مشتقة من الحضر ، ومدنية مشتقة من الحياة المدنية ، وفي موسوعة القرن العشرين : ( الحضارة الإقامة في الحضر، انظر مدنية ) ، وفي مدنية جاء التعريف التالي : ( مدنية كلمة مشتقة من مدّن المدائن أي حضّرها وبناها ، ونحتوا منها فعل تمدّن، وجعلوا معناه تخلّق بأخلاق أهل المدن، وخرج من حالة البداوة ودخل في حالة الحضارة). وفي قصة الحضارة ل( ول ديورانت) استخدمت كلمة حضارة وكلمة مدنية بمعنى واحد. المدنية ( والتي اشتقت من مدّن المدائن ومن التمّدن ) تعني ابتعاد الجماعات الريفية التي تنتقل إلى المدنية من جذورها ، والتمدين يعني الرغبة في حياة أغنى وأرقى ، وعلى ذلك فالمدنية : التقدم العلمي والتكنولوجي والرفاهية والرقي الذي وصلت إليه المجتمعات. ونرى أن الحضارة لا تعنيى هذا الجانب المادي فقط ، بل إنها تشمل الجانب الروحي العقائدي الفكري التشريعي أيضاً ، وبالتالي تشمل نظرة متكاملة منسجمة إلى : الكون والإنسان والحياة. وتنشأ الحضارة من عاملين أساسيين هما : الأرض والإنسان ، من موارد الأرض الطبيعية التي تحولها رغبات الإنسان وجهوده وتنظيمه إلى ما فيه منفعته. ويمكن القول : إن الحضارة هي محاولات الإنسان الاستكشاف والاختراع والتفكير والتنظيم والعمل على استغلال الطبيعة ، للوصول إلى مستوى حياة أفضل ، وهي حصيلة جهود الأمم كلها. يقول مالك بن نبي : ( الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر ). ويقول صاحب قصة الحضارة : ( إن الحضارة لا تموت ، ولكنها تهاجر من بلد إلى بلد ، فهي تغير مسكنها وملبسها ولكنها تظل حية، وموت إحدى الحضارات كموت أحد الأفراد ، يفسح المكان لنشأة حضارة أخرى ، فالحياة تخلع عنها غشاءها القديم وتفاجئ الموت بشباب غض جديد). *** شروط قيام الحضارة : لا شروط عرقية لقيام الحضارة ، إذ يمكن أن تظهر في أية قارة ، يقول توينبي Toynbee : (لا يوجد عرق متفوق بدأت الحضارة عن يده). ونظرية توينبي تقول : إن تقدم الحضارة ، كان نتيجة رد فعل للتحدي في الظروف الصعبة التي تدفعه إلى بذل أكثر ، ومثال ذلك (الصحراء الكبرى) ، التي كانت سهولاً خصبة ملأى بالأعشاب والمياه ، وبتغير الظروف المناخية – وهي التحدي هنا – سلك السكان طرقاً ثلاثاً استجابة لهذا التحدي : 1- فبعضهم ظلوا مقيمين في الصحراء الكبرى ، وبدلوا عاداتهم ونمط معيشتهم إلى بدو رحل. 2- وآخرون انتقلوا إلى المناطق المدارية جنوباً حيث الغابات ، وحافظوا على حياتهم البدائية. 3- وآخرون دخلوا مستنقعات وادي النيل وغاباته ، كما دخلوا الدلتا ، وقبلوا التحدي ، وعملوا على تجفيف المستنقعات وإعدادها للزراعة ، وأتوا بالحضارة المصرية القديمة. وكذلك الحضارة السومرية في دلتا دجلة والفرات ، وكذلك حضارة الصين في وادي النهر الأصفر (هوانغ هو) ، ولا ندري تماماً ما نوع التحدي ، ولكن الأحوال كانت صعبة. والحضارة الإيجية المينوسية ، كان أصلها تحدي البحر للسكان. فالأحوال الصعبة المعاكسة ، وليست الأحوال المواتية ، هي التي تنتج الحضارات ، وهذا ما يسمى (حافز الصعوبات) ، أو (دافع البلاد ذات الأحوال المعاكسة). ثم يقول توينبي : (إن الأرض الجديدة تثير الهمم ، والأرض البكر تولد رد فعل أقوى من ذاك الذي تولده أرض ذات حضارة سابقة ، فالحضارات التي أتت بتأثير ما سبقها ، نرى أن مظاهرها القوية كانت في مناطق خارجية عن نطاق الحضارة الأصلية التي سبقتها). ويتساءل مستدركاً في نظرية التحديات هذه : أيجب أن يكون رد الفعل أعظم كلما كان التحدي أشد ؟ أم إن هناك تحديات شديدة جداً لا تأتي بأي مفعول معاكس ؟ ويجيب بأن بعض التحديات قضت على المجتمعات التي لاقتها ، ولكنها أخيراً أدت إلى رد فعل مناسب من مجتمع آخر ، أو من جهة أخرى ، مثل الاجتياح الهيليني للشرق ، أدى إلى ردود فعل مخفقة ضدها ، فظهرت الزردشتية. وهناك (حضارات عقيمة) ، لم يكن لها ما بعدها ، حاولت أن تأتي بحضارة من عندها ، كمنافسة لحضارة أعظم ، فنجحت مؤقتاً ، ولكنها انحطت وزالت من الوجود ، مثل الحضارة الكلتية في غربي أوربة ، ودامت حتى عام 375م ، ثم قضت عليها سلطة رومة الدينية ، ثم سلطة إنكلترة السياسية. ويمكن القول : إن الطبيعة ليست عدواً في كل الحالات ، فهي التي هيأت المناخ المعتدل ، والتربة الخصبة ؛ فإن كان التحدي يعني الإثارة فهذا مقبول. فالقحط تحد ، أو إثارة ، أوجب بناء السدود. والتصحر تحد ، كون تثبيت التربة. وتزايد السكان تحد ، سبب استصلاح الأراضي. ومشروط قيام الحضارة بطائفة من العوامل ، منها ما يستحث خطاها ، ومنها ما يعيق مسارها ، ومن هذه العوامل : 1- العوامل الجيولوجية : فعصر الجليد أعاق مسارها ، والتربة الخصبة استحثت خطاها. 2- العوامل الجغرافية : المناخ المناسب يستحث خطاها ، ولكنه لا يخلق حضارة خلقاً ، إلا أنه يستطيع أن يبتسم في وجهها ، ويهيئ سبيل ازدهارها وتقدمها ، وحرارة المناطق الاستوائية المرتفعة ، وما يجتاح تلك المناطق من أمراض لا تهيئ للحضارة أسبابها ، وهي بالتالي لا تستحث خطاها. 3- العوامل الاقتصادية : ( تبدأ الحضارة في كوخ الفلاح ، ولكنها لا تزدهر إلا في المدن) ، قد يكون لشعب مؤسسات اجتماعية منظمة ، وتشريع خلقي رفيع ، بل قد تزدهر فيه صغريات الفنون ، كما هي الحال مع الهنود الحمر ، ومع ذلك فإنه إن ظل في مرحلة الصيد البدائية ، واعتمد في وجوده على ما عسى أن يصادفه من قنائص فإنه يستحيل أن يتحول من البدائية إلى الحضارة تحولاً تاماً. إن الإنسان لا يجد لحضارته ( لتمدنه) معنى ومبرراً إلا إذا استقر في مكان يفلح تربته ، ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه مورداً لطعامه ، في هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة ، والتي هي مورد محقق من ماء وطعام ترى الإنسان يبني لنفسه الدور والمعابد والمدارس ، ويخترع الآلات التي تعينه على الإنتاج ، ويستأنس الحيوان ، ثم يسيطر على نفسه آخر الأمر ، فيتعلم كيف يعمل في نظام واطراد ، وكيف يزداد قدرة على نقل تراث الإنسانية من علم وأخلاق نقلاً أميناً. (إن حاجة بعض الناس إلى بعض ، صفة لازمة في طبائعهم ، وخلقة قائمة في جواهرهم ، وثابتة لا تزايلهم ، ومحيطة بجماعتهم ، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم ، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم – مما يعيشهم ويحييهم ، ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم ، ويجمع شملهم ، وإلى التعاون في درك ذلك ، والتوازر عليه – كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما يضرهم ، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم). 4- يضاف إلى ما سبق من عوامل ، العوامل النفسية التي تسرع في تقدم الحضارة ، إن العوامل الجيولوجية ، والجغرافية والاقتصادية لا تكون حضارة ، ولا تنشئ مدنية من عدم ، إذ لا بد أن يضاف إليها العوامل النفسية ، ولا بد أن يسود الناس نظام سياسي ، وحالة استقرار ، وربما كان من الضروري كذلك أن يكون بين الناس بعض الاتفاق في العقائد الرئيسية، وفي المثل الأعلى المنشود ، لأن ذلك يرفع الأخلاق من مرحلة توازن فيها بين نفع العمل وضرره ، إلى مرحلة الإخلاص للعمل ذاته ، وهو كذلك يجعل حياة الإنسان أشرف وأخصب. لو انعدمت هذه العوامل ، أو واحد منها ، لجاز للحضارة أن يتقوض أساسها ، فانقلاب جيولوجي خطير ، أو تغير مناخي شديد ، أو استنفاد للموارد الطبيعية ، أو تغير في طرق التجارة تغيراً يبعد أمة عن الطريق الرئيسية للتجارة العالمية ، أو انحلال خلقي ينشأ عن الحياة في الحواضر بما فيها من منهكات ومثيرات واتصالات ، أو ينشأ عن تهدم القواعد التقليدية التي كان النظام الاجتماعي يقوم على أساسها ، ثم العجز عن إحلال غيرها مكانها - هذه من الوسائل التي قد تؤدي إلى فناء الحضارة ، (إذا الحضارة ليست شيئاً مجبولاً في فطرة الإنسان ، كلا ، ولا هي شيء يستعصي على الفناء ، إنما هي شيء لا بد أن يكسبه كل جيل من الأجيال اكتساباً جديداً ، فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية ، أو في طرائق انتقالها من جيل إلى جيل ، فقد يكون عاملاً على فنائها ، إن الإنسان ليختلف عن الحيوان في شيء واحد ، وهو التربية ، ونقصد بها الوسيلة التي تنتقل بها الحضارة من جيل إلى جيل). *** اتصال الحضارات وانتقالها : يتم الاتصال بين الحضارات ، وبالتالي انتقالها عن طريق : الغزو أو الفتح ، أو الحكم الأجنبي ، أو الهجرة والسياحة والتجارة والحوار، ومثال ذلك (الهيكسوس) ، الذين غزوا مصر ، وعاملوا أهلها بشدة وعنف ، لكنهم ما لبثوا بعد مدة من الزمن أن أخذوا يتعودون على الحياة المصرية ، وجرفهم تيار حضارتها فتمصروا وقلدوا الفراعنة في أسمائهم وألقابهم وأزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم الملكية ولغتهم ، وقدموا القرابين إلى الآلهة المصرية ، وسموا أنفسهم (أبناء رع). ونميز في حالات الاتصال هذه ، نوعين رئيسيين من انتقال الحضارة : 1- إذا كان الشعب المهاجم في حال بدائية ، أي حضارة الشعب المهاجم الذي ساد البلاد وحكمها دون حضارة الشعب المغلوب ، فتحصل فترة توقف في مسيرة الحضارة الأصلية ، كالهيكسوس ، والبرابرة والجرمان ، والتتر ، ففي مثل هذه الحال تهضم حضارة المغلوب الغزاة المنتصرين ، وتردهم – ولو بعد حين – وقد اقتبسوا حضارة الشعوب المغلوبة. 2- أما إذا كان الشعب الفاتح في حال فكري أرقى ، كالفاتحين العرب والمسلمين، فعندها تزدهر حضارة رائعة بعد الفتح والاستقرار ، مع طبع الحضارة بطابع الفاتحين الخاص. وقد يحصل تبادل حضاري بين طرفين حضاريين ، وقد يعطي الشعب المغلوب إلى الشعب الغالب أكثر مما يأخذ منه، مثال ذلك اليونان عندما حكمهم الرومان، والصليبيون عندما وصلوا بلاد الشام ، واطلعوا على الحضارة العربية الإسلامية. وقد يتم الانتقال عن طريق طرف آخر ، فالحضارة العربية الإسلامية انتقلت إلى أوربة عن طريق المدن الإيطالية ، وصقلية ، ومدن فرنسة الجنوبية ، والأندلس. *** مظاهر الحضارة : للحضارة عناصر تتألف منها ، ومظاهر متعددة تظهر بها : 1- المظهر السياسي : ويبحث في هيكل الحكم ، ونوع الحكومة ، ملكية أم جمهورية ، دستورية أم مطلقة ، والمؤسسات الإدارية والمحلية. والدولة تنشأ بسبب ضرورة النظام ، ولا يعود بالإمكان الاستغناء عنها ، وتصبح الدولة وسيلة للتوفيق بين المصالح المتباينة التي تكون مجتمعاً مركباً، ويرى ول ديورانت أن (العنف هو الذي ولد الدولة) ، وأن الدولة هي نتيجة الغلبة والفتح ، وتوطد نفوذ الغالبين ، كطبقة حاكمة على المغلوبين. 2- المظهر الاقتصادي : ويبحث في موارد الثروة ، ووسائل الإنتاج الزراعي والصناعي ، وتبادل المنتجات. 3- المظهر الاجتماعي : ويبحث في تكون المجتمع ونظمه ، وحياة الأسرة ، والمرأة ، وطبقات المجتمع ، والآداب ، والأعياد. 4- المظهر الديني : ويبحث في المعتقدات الدينية ، والعبادات ، وعلاقة الإنسان ونظرته إلى الكون والحياة. 5- المظهر الفكري : ويبحث في النتاج الفكري ، من فلسفة وعلم وأدب. 6- المظهر الفني : ويبحث في الفن المعماري ، والرسم ، والموسيقى ، وغيرها من الفنون. *** مصادر الحضارة : إن الكتابة أهم وسيلة لحضارة الإنسان ، وحيثما وجدت الحضارة وجدت القراءة والكتابة ، وأصبحت اللغة المكتوبة وسيلة الحضارة والعلم والتربية ، فالكتابة تعطي المعرفة البشرية صفة الدوام ، والبراهين عن حضارة الإنسان القديم قليلة حتى نصل إلى عصر الكتاب ، ووضع الوثائق المكتوبة ، ولهذا السبب احترم القدماء الكتابة ، ونسبها المصريون القدماء إلى الإله توت Thoth ، فهو – في رأيهم - مخترع وسائل الثقافة جميعها ، وفي بابل كان الإله نبو (Nebo) بن مردوخ إله الكتابة ، والصينيون القدماء ، والهنود وغيرهم ، اعتقدوا بأصل إلهي للكتابة ، والأساطير اليونانية نسبتها إلى هرمس. وبوجه الإجمال كان للكتابة مفعول سحري على الناس ، فاختراع الكتابة أهم من اللغة ، لأن اللغة ليست اختراعاً بشرياً كالكتابة ، وإنما هي ميزة بشرية. الكتابة: وسيلة لنقل الكلام ، تسجل أصواتاً آتية من الفم ، أو فكراً آتية من الدماغ ، برموز منظورة على الورق ، أو الحجر ، أو الخشب ، أو غيرها. ومن الصعب تحديد دقيق لوقت معين لبدء الكتابة ، ولكن لا برهان على وجود كتابة منظمة قبل منتصف الألف الرابع قبل الميلاد ، وكانت كتابة تصويرية Pictography ، حيث الصورة تمثل الشيء الذي يراد ذكره ، فالدائرة تمثل الشمس ، وصورة الحيوان تدل عليه. ثم جاءت الكتابة الفكرية (أو الرمزية) Ideographic ، وهي أرقى من التصويرية ، لأنها تصور الأفكار التي يراد نقلها من شخص إلى آخر ، فالدائرة لا تمثل الشمس فقط ، بل تمثل النهار ، أو النور ، والحيوان لا يمثل بصورة الحيوان وإنما برأسه فقط ، وفكرة الذهاب تمثل بقدمين ، أو بخطين يمثلان قدميه ، والرموز المستعملة هنا تسمى صوراً فكرية Ideographic ، ويمكن قراءة الرموز في أية لغة في هاتين المرحلتين – التصويرية والفكرية ، إذ لا علاقة بين الرمز وبين اسم الشيء الذي يمثله. ثم جاءت مرحلة الكتابة ذات المقاطع ، وهي صوتية ، بمعنى أن كل رمز أو صورة لها صوت في اللغة الخاصة التي تكتب بها ، والرموز التي لها أصوات معينة ، يمكن جمعها بأشكال مختلفة لإخراج كلمات وفكر مختلفة ، وهي لا تمثل الأشياء والفكر فقط ، وإنما الأصوات ، وتصبح الكتابة صوتية تماماً عندما تصبح الأشكال المكتوبة ثانوية بالنسبة للكلمات التي تلفظ ، وتفقد تلك الأشكال مدلولها الأصلي حينما تجتمع لتشكيل كلمة أو فكرة جديدة ، بمعنى أنها تصبح قسماً أو مقطعاً من كلمة ، فكلمة (درفيل) مثلاً ، مكونة من مقطعين (در) و (فيل) ، ولكل منهما معناه ورمزه ، فإذا اجتمعا لتكوين كلمة واحدة يفقد عند ذلك المقطعان مدلولهما الأصلي، ويصبح كل منهما صوتاً أو مقطعاً في كلمة جديدة. أما الكتابة الأبجدية ، وهي أرقى أنواع الكتابة وأنسبها وأسهلها ، فهي آخر المراحل في تطور الكتابة ، وفيها توجد حروف تمثل أصواتاً مفردة ، لا مقاطع وفكراً ، والأبجدية التي اكتشفت في سيناء ، وأبجدية رأس شمرا (أوغاريت) ، هما أقدم الأبجديات في العالم ، وترقى أبجدية رأس شمرا إلى القرن الرابع عشر الميلاد، ومنها اقتبست الأبجديات التي تستعملها معظم شعوب العالم في أيامنا هذه. ويعد اختراع الأبجدية بالنسبة للبشرية موازياً لأهمية اختراع المطبعة ، بعد ثلاثة آلاف سنة ، إن لم أكثر أهمية. يقول الجاحظ : ( لولا الكتب المدونة ، والأخبار المخلدة ، والحكم المخطوطة التي تحصّن الحساب وغير الحساب ، لبطل أكثر العلم ، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر ، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ، ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع)، ويقول : ( وليس في الأرض أمة بها طِرق – قوة – أو لها مُسكة ، ولا جيل لهم قبض وبسط ، إلا ولهم خط). والوثائق المكتوبة ، وهي تجمع السجلات الصكوك والمراسلات .. مع الآثار المادية كالأبنية والبقايا الفنية ، والأواني ، والأدوات ، والأسلحة ، هي مصادر الحضارة. ويزداد شأن الآثار في التاريخ كلما أوغلنا رجوعاً في الزمن ، لتصبح في بعض الأحوال ، وفي العصور القديمة خاصة ، مصادر التاريخ الوحيدة ، فالشعوب كلها بدافع من العقائد الدينية في الغالب ، أو من رغبات الملوك ، أو من الحاجات الحياتية الأخرى ، تركت آثارها على الأرض التي عرفتها ، وعلى هذه الآثار نبني معارفاً عن الحضارات القديمة. والكتابات الأثرية هي وثائق العصور القديمة ، فمعظم الحضارات السالفة سجلت على آثارها ما تريد قوله بكتابات شتى ، فحين حل شمبليون (Jean – Francois champolion) رموز الهيروغليفية ، أضاف إلى التاريخ ثلاثة آلاف سنة ، والكتابات التي استعصت على الحل – مثل كتابة كريت – ما تزال تحتفظ بأسرار التاريخ. وهكذا عصور ما قبل التاريخ وحتى سنة 3200 ق.م حيث اختراع الكتابة في مصر، فإن مصادرنا عن الحضارة هي الأدوات ، والبقايا المادية فقط ، لعدم وجود كتابة ، ومن هنا تظهر أهمية علم الآثار ، والحفريات الأثرية التي أصبحت اليوم تستهدف الفوائد العلمية ، والاستنتاجات التاريخية ، وليس مجرد البحث عن العاديات – المكتشفات الأثرية - ، إذ العاديات لم تعد غاية في ذاتها ، وإنما وسيلة لمعرفة الحضارات وتطورها. فالكتابة تروي لنا التاريخ السياسي والعسكري ، والحياة الاجتماعية والفكرية ، والاقتصادية والدينية ، وهذا ما كان بعد اكتشاف مكتبة إيبلا – تقع إيبلا جنوبي حلب ، قامت في الألف الثالث قبل الميلاد-. ومع هذا كله ، يستفيد التاريخ اليوم من كشوف الانتروبولوجيا ، وعلم الاجتماع ، واللغويات وعلوم الاقتصاد والإحصاء والتقاليد والطب وغيرها من العلوم ، إن التاريخ يحاول بذلك ، كله أن يحتضن الإنسان بكل أبعاده ، شريطة أن يعرف المؤرخ كيف يستنطق تلك الوسائل ، وهذه العلوم. لمشاهدة الأبجديات القديمة اضغط هنا كتاب الحضارة العربية الإسلامية ، للدكتور شوقي أبو خليل
لمشاهدة الأبجديات القديمة اضغط هنا
كتاب الحضارة العربية الإسلامية ، للدكتور شوقي أبو خليل