شبكة النبأ: في كل مجتمع فئة وظيفتها أن تفسر للمواطنين الظواهر الطبيعية، النفسية، الاجتماعية، توضح لهم ما يحيط بهم من مشكلات وأزمات، لأنها تملك أنواعا خاصة من المعرفة، توصلت إليها عن طريق التبصر، المثاقفة، البحث العلمي، إنها قد نسقت جهودها، نظمت فعالياتها لإنماء التراث الحضاري عن طريق تنوير المواطنين وإخصاب معرفتهم، تلك هي طبقة المثقفين.
يتميز المثقفون عن غيرهم بمواقفهم العلمية، باتجاهاتهم الفكرية المختلفة، بل والمتضاربة في بحوثهم بغية الوصول الى أكثر الحلول ثمرة، أقلها كلفة، دون أن يفرضوا سلفا وجهة نظر معينة، أو أن يمرروا من خرم ضيق كل ما يلاحظون من وقائع وحوادث، لأنهم قد نذروا حياتهم لخدمة المعرفة، للدفاع عن حرية البحث والاستقصاء، أوقفوا أنفسهم لازدهار الإنتاج الفكري والمعرفي.
كلمة (مثقف) يجب أن تستعمل بمعنى واسع لتشمل دور اجتماعي، ليس إلى شخصية كاملة، طالما امتزج دور المثقف بدوره كمواطن. هناك وشائج وثيقة بين دور المثقف وبين الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فكلما ازدادت الحاجة إليه بسبب ما يتمتع به من خصائص لإنجاز دوره، فانه يشغل مكانة اجتماعية تمنحه بعض الحق، وتفرض عليه بعض الواجب. للقيام بذلك يتطلب منه أن يحيط إحاطة كافية بطبيعة دوره، فان كان سطحي المعرفة، ضحل المادة، ضيق التفكير، جديب الخيال، اعتبرته الهيئة الاجتماعية غير لائق بالدور المناط به.
مسؤولية التغير الاجتماعي
يعد المعلم والمدرس لهذا العمل بمحض رغبته، أحيانا تدفعه الظروف القاهرة دفعا لهذا الإعداد. الطالب كذلك، مخلوق يرسله البيت أول الأمر الى المدرسة على غير إرادته في كثير من الأحيان. فالمدرس محمل بآثار طفولته، ما يطرأ في أدوار نموه من مشكلات، تتسرب الى شعوره بمسئولياته ورسالته، كذلك الطالب. الطالب والمعلم طرفان عندما يتقابلان يكون كل منهما وحدة معقدة، وراءها تاريخ طويل جدا. عمل المعلم دون كثير من الأعمال، ذو نهاية غير محسوسة كالمهندس الذي يمكنه أن يرى تصميمه بعد فترة قصيرة ويبقى شاخصا.. مثل جسر.
يمكن اعتبار المعلمين، المدرسين، الأساتذة، طلاب الكليات من فئة المثقفين، لأنهم ينتمون الى مؤسسة اجتماعية أخذت على عاتقها المحافظة على التراث الحضاري الإنساني ونقله من جيل الى جيل.
يبرز دور المثقف في المجتمع، من خلال تنظيم علاقاتنا كمواطنين في هيئة متمدنة، تمر بوضعية شاذة، بلغ التصادم القيمي فيها درجة لا نستطيع أن نحدد بدقة مواقفنا إزاء المشكلات الناجمة من تعقد الحياة وحركتها، المنعكسة آثارها في الأدوار التي تقوم بها، في المكانات التي نشغلها، فلا يمكن للمثقفين، ولا يحسن بهم أن يوقفوا أقلامهم، يهبوا إنتاجهم لترويج نوع معين من الدعاية، يقصد من ورائها بذر بذور الانحلال في الأمة، توسيع شقة الخلاف بين أبنائها، خاصة إذا فضل المثقفون الجلوس على التل، تاركين المواطنين حيارى يتخبطون في نزاع القيم والمواقف الآخذ في الازدياد، يوما بعد يوم، أو أنهم جمدوا على وجهات نظرهم، لا يقبلون مبادلة الرأي، ظانين إن ما لديهم هو الصواب وإن ما عند غيرهم هو الضلال.
ليس من واجب المثقفين نقل التراث الحضاري فحسب بل عليهم أن يتعرفوا على مواطن القوة والضعف فيه، ليطلعوا الرأي العام على ذلك فيجعلونه واعيا بما يحيق بالأمة من تصادم في الغايات، في الوسائل حتى يتدبر المسؤلون واجبهم ويعي المواطنون حقوقهم.
إن الظروف التي يجتازها العراق اليوم، والأحوال الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، النفسية، آخذة بالتعقيد والاضطراب، بحيث صرنا في دوامة أزمة حضارية، تصدع قيمي، فقدان الإمكانية على ربط الأجزاء المتناثرة من النسيج الاجتماعي. ليس بالمستطاع والحال هذه إيقاظ الضمائر، تعبئة الرأي العام، إلا عن طريق الفئة المثقفة التربوية الواعية بواجبها للعمل على تنبيه الطلاب الذين يخرجون الى منازلهم أفواجا، ينقلون الى المواطنين ما تتضمنه الأوضاع، حتى لا يكونوا ضحايا باردة لمختلف الدعايات.
واجب المثقفين كفئة لا ينحصر في تلقين الطلاب والمواطنين بعض الحقائق، فهي نسبية ناشئة من خبراتنا في المواضيع الطبيعية، إنما اختيار المواضيع الاجتماعية، التي نعتقد بأنها مهمة وجديرة بالدراسة. لاشك فأن هذه المهمة ليست بسيطة ويسيرة. من الواجب تدريس طلابنا ومواطنينا الطريقة التي يستطيعون بها أن يعرفوا كيف يكتشفون الحقائق بأنفسهم، كيف يميزون بين ما يلصق بها من آراء ذاتية، من قيم شخصية. نحن وإياهم لا نعيش في عالم مملوء بالحقائق وإنما بالمواضيع الطبيعية الزاخرة بالإمكانيات لتصبح مواضيع اجتماعية.
وما دمنا نعيش في وضعية انفتاح، اضطراب وقلق، لابد أن تتباين خبراتنا وتتعدد قيمنا، يزداد الغموض والإبهام، تنتشر العلل الاجتماعية، يسود السخط والتذمر، تنشط سيول المغريات، فيجهل المواطنون أدوارهم، يكبت الناس رغباتهم وآمالهم، تصبح الأراجيف والإشاعات وسائل للتنفيس والتطمين، تحرك العواطف، تثير الكراهية لتزيد في إحكام السدود والفواصل بين أفراد المجتمع الواحد.
ومن المفيد تذكير المثقفين بأن موضوعا معينا يؤدي الى معاني كثيرة، أن معنى واحدا يمر في مراحل متعاقبة من التاريخ، أن جهودا منظمة تقوم بها مؤسسات خاصة، أفراد معينون لتجريد بعض الكلمات من معانيها، أبدالها بأخرى لغرض التأثير في سلوك الناس وفعالياتهم. فإذا اختلفت معاني المواضيع، تباينت أنماط السلوك، ازدادت الحدود والفواصل في المجتمع، اضطربت المقاييس الخلقية واختلفت القيم المجتمعية. لأن المعنى وظيفة تتصل اتصالا وثيقا في ربط أفراد المجتمع بعضهم بالبعض الآخر، بل ان المعنى مادة الموضوع المعتمدة اعتمادا كليا على التعامل الحاصل بين الكائنات الاجتماعية. لهذا ينصب اهتمامنا على اللغة لأنها حقيقة اجتماعية، على المعنى لأنه تطور موضوعي لبعض أوجه العمل الاجتماعي.
المعنى يكون موضوعيا عاما إذا نشأ وتطور كطريقة موحدة ومتآلفة للتمتع في استعمال المواضيع لأنه يشير إلى تبادل ممكن فيما بين العلاقات وليس إلى شيء منعزل. ليست جزءا جوهريا من المواضيع نفسها، انما المواضيع موجودة ضمن المعنى المكتسب في عملية تبادل العلاقات الاجتماعية. ليس من الممكن أن تؤدي كلمة واحدة معنى متماثلا لكافة الناس، إذا كانت خبراتهم متباينة، غير متشابهة، كلما كانت المواضيع مادية محسوسة كان الاختلاف عليها في المعنى قليلا. فالمعنى اجتماعي في طبيعته، يشتمل على وضعية اجتماعية، هي الشرط الأول لظهوره، لهذا فالعمل الاجتماعي هو أساس الوعي بالمعنى. يمكن القول بأن المواضيع تكتسب معانيها من الإضافات التي تضيفها الكائنات البشرية، هي نتائج لخبراتها. علينا أن نميز بين المواضيع الطبيعية وبين القيم الاجتماعية.
المواضيع والمعاني ليست جامدة
يولد الإنسان في عالم مملوء بالمواضيع الطبيعية، كالآباء والأمهات، الحيوانات، الأشجار، البيوت، الموبايل، الأنترنيت، الأنظمة الدينية، الخلقية، الآداب والفنون... فان لم تكن لديه خبرة بأحدها تبقى كأنها جزء من الطبيعة، في الوقت الذي تنال فيه المواضيع الطبيعية معنى تصبح قيما اجتماعية، أما الوسائل التي تصير بها قيما هي الخبرات الشخصية. نضرب مثالا عن عبور شارع الرشيد. فإشارة شرطي المرور بتوقيف السيارات والسماح للمارة بالعبور تعني معنا متماثلا لكل الناس المساهمين في وضعية العبور. ربما تؤدي في بعض الأحيان توضيحا انعكاسيا غير تفسيري للكلاب المدربة على قيادة العميان في أمريكا فهي لا تعبر الشارع إلا عندما ترى اللون الأخضر. بالطبع نفرق بين سلوك الحيوانات الناشيء عن الدوافع الأساسية، التدريب الطويل وبين سلوك الإنسان المتطور من الإدراك العقلي المفسر للوضعية. توجد مواضيع مجردة تدرك بالتفكر، تختلف باختلاف خبرات الأفراد كالديمقراطية، الإصلاح، العدالة..
المعنى الذي يسبغه الطلاب على المواضيع يقرر الموقف الذي يتخذونه ازائها. . نحولها إلى قيم اجتماعية. سيصبح الموقف ميل للعمل في طريق ما...لذلك مطلوب دور المعلم المثقف في المجتمع المتغير.
مطارحة الرأي
الدين؛ يعني الشريعة التي تتقوم بالطاعة من جهة، وبالجزاء من جهة ثانية. يقول آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي: لو أن الإنسان لم يطع الله سبحانه وتعالى في أية مفردة من المفردات كان خارجا عن طاعة الله وولايته بنفس المقدار وداخلا في طاعة الشيطان وولايته بذات النسبة، إستحق الجزاء على ذلك أيضا.
وفي كتابه القيم (بحوث في العقيدة والسلوك) يشير ويتساءل السيد مرتضى الشيرازي إلى بلد إسلامي نفوسه أقل من 80 مليونا فيه 14 مليون مريض نفسياً.. لماذا؟
الجواب، لأن دين الله ليس هو الحاكم.
ونستوضح هذا عندما يحكم دين الله في الزواج، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الحقوق.. كذلك في التربية والتعليم والصحة، بعدها لا ترون هناك مريضا إلا نادرا جدا. كم مليون مريض نفسي، فقير، عاطل عن العمل، معلم غير ملتزم، طالب متسرب من الدراسة والقائمة تطول وتشير الى ظواهر اجتماعية تكبد بلد مسلم مثل العراق هذه الازمة الكارثية، نتساءل، أين حكم الله؟
وقد تطرق الإمام علي عليه السلام الذي كانت الدولة الإسلامية في وقت خلافته تمتد على مساحة خمسين دولة بجغرافية اليوم، إلى حال الفقراء فكان يقول:" لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، اوَ أبيت مبطانا وحولي بطونا غرثى"..
أنه عليه السلام فقط (يحتمل) أن يكون هناك إنسان واحد هكذا! رغم أن فترة حكومته كانت قصيرة، مليئة بالاضطرابات، الحروب، الفتن الداخلية التي أثارها الأعداء.. لكنه طبّقَ دين الله. فما كنتَ تجد في ذلك البلد وغيره فقيرا.
الإمام عليه السلام على شدة احتياطه، دقته، إتقانه في الكلام يصرح بهذا، مع وجود شهود كثر، منافسين كثر، متصيدين بالماء العكر، فانه إذا كان في كلامه أدنى مبالغة، كان يقوم احدهم ويعترض، ويقول: كلا هناك فقراء وبكثرة.
الآن من يقول إلى الطبيب، العامل، المعلم، الطالب، المواطن.. أي مسؤول،"ان المخالفات في ازدياد، من يتصدى لها"..