لدينا، نحن المصريين، مخزون هائل من الصبر والقدرة على التحمل والتأقلم مع صعوبات الحياة اليومية. ولأن النمط الذى اعتدنا عليه فى حياتنا اليومية ملىء بالفعل بمصاعب وعقبات يندر أن نجد لها مثيلا فى معظم بلاد العالم، فكثيرا ما تتملكنا الدهشة فى كل مرة نتمكن فيها من اجتياز الصعب بسهولة أكبر من المعتاد. ومع ذلك لا يسلم الأمر بين الحين والآخر من «أيام نحس» تذكّرنا بما نحاول أن ننساه من عمق وتشابك أبعاد الأزمة التى تمر بها مصر فى المرحلة الراهنة. وكان يوم الثلاثاء الماضى واحدا من تلك الأيام، حيث تعين علىّ أن أتوجه فيه أولا لأحد البنوك فى شارع محيى الدين أبوالعز، ثم إلى أماكن أخرى من بينها المستشفى الجامعى، قبل أن أعود إلى مكتبى بالجامعة لمقابلات مع زائرين، وفق مواعيد متفق عليها سلفا. وإليكم نماذج لبعض، وليس كل، ما واجهته فى ذلك اليوم لأن المساحة لا تتسع للمزيد!.
استيقظت مبكرا كالمعتاد وتوجهت إلى الحمام لأخذ «دُش» فوجدت المياه «مقطوعة»، ولأننا اعتدنا فى منطقتنا السكنية على هذا النوع من المفاجآت، التى زادت معدلاتها فى الآونة الأخيرة، خصوصا منذ بدء العمل فى كوبرى بولاق الدكرور المجاور لمحل إقامتى، فقد احتطنا للأمر بملء ما لدينا من زجاجات مياه فارغة. ورغم أن هذا التحوط ساعدنى قضاء الحد الأدنى من احتياجاتى إلا أننى خرجت من منزلى متبرما بسبب عدم تمكنى من أخذ دُش بارد فى هذا الجو القائظ المحمّل بالرطوبة.
ما إن خرجت من بوابة مدينة المبعوثين، حيث أقيم، وانعطفت بسيارتى يمينا فى محاولة للوصول إلى الفتحة المخصصة للصعود على كوبرى ثروت حتى توقفت من شدة الزحام. وبعد حوالى ربع ساعة، لم أقطع خلالها سوى حوالى مائة متر، اكتشفت سبب الزحام وسبب انقطاع المياه معا، حيث كانت هناك ماسورة مياه منفجرة تحت الكوبرى الجديد الذى لم يفتتحه الرئيس بعد!. ولأن الزحام فى مصر يولد الفوضى، بدلا من أن يحث على المزيد من الانضباط كما يحدث فى كل البلاد المتحضرة، فقد ترتب عليها هدر إضافى للوقت أدى إلى وصولى إلى البنك متأخرا ساعة كاملة عن الموعد الذى قدرته. غير أن مفاجأة من العيار الثقيل كانت فى انتظارى هناك: فالكهرباء مقطوعة والحاسبات الآلية معطلة طبعا، والنصيحة التى تلقيتها هناك هى الذهاب إلى فرع آخر للبنك فى حى المهندسين المجاور. توكلت على الله، لكننى اكتشفت، بعد نصف ساعة أخرى مهدرة فى زحام لا معنى له، أننى قد لا ألحق بمواعيدى فى الجامعة، وأن الحكمة تقتضى ليس فقط أن ألغى مشوار البنك ولكن ألا أغامر بالذهاب إلى المستشفى الجامعى لصرف الأدوية الشهرية المقررة.
وصلت إلى الجامعة قبل دقائق من أول موعد مقرر، ولم أكد أستقر فى مكتبى حتى اتصل بى زائرى من عند البوابة الرئيسية ليخبرنى أن الحرس يمنعه من الدخول لأنه لا يحمل تصريحا من «العلاقات العامة». طلبت منه أن يترك مكانه فى هدوء وأن يحاول الدخول من باب جانبى وأن يتظاهر بالأهمية ولا يلتفت لأحد عند مروره. ودخل. واتصلت بالآخرين ممن نسيت تنبيههم على الحظر المفروض علىّ ليقوموا بالشىء نفسه.
أدرك أننى محظوظ جدا مقارنة بآخرين ممن لا يملكون سكنا أو سيارة، وليس لديهم حساب فى بنك أو تأمين صحى فى مستشفى أو وظيفة يتقاضون منها راتباً يكفيهم ذل الحاجة وسؤال اللئام. لكن كيف تستقيم الحياة، حتى لمن يعتبرون أنفسهم من المحظوظين، فى بلد لا تدار فيه المرافق وفق معايير الحد الأدنى المطلوب من الكفاءة، ويسيطر فيها الأمن على كل شاردة وواردة بما فى ذلك الجامعات ومراكز البحث؟ ألا يفسر هذا القصور الإدارى والمهنى وتلك الهيمنة الأمنية جانبا كبيرا من تفشى الفوضى التى يعتقد البعض، خطأ، أنها ناجمة عن شيوع ثقافة التخلف؟