المرأة الصحابية نتحدث عن المرأة حينما تكونُ صحابية، وإن كانت هذه الوظيفة من أقصر الوظائف عُمرًا؛ حيث تَحدَّدت بدايتها من وقتِ إسلام صحابية بالغة التقت بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم ماتت على الإسلام. ولإن كان مدة هذه الوظيفة قد انتهت، إلا أنَّ دَوْرَ المرأة الصَّحابية المؤثِّر والفَعَّال في تجديد صفحات التاريخ، وتغيير ظلمات الجاهلية الأولى - لم ولن ينتهي، فرغم تباعُد الزمان بيننا وبينها، لكنَّها لا تزال أنفاسها النقية حية، وتفاصيل أحداثها متجددة بيننا، ولم تكن تكتسب هذه الصفة الحالية المستمرة، إلاَّ لأنَّها كانت لسانَ حال التشريع والأحكام في العهد النبوي؛ لتكونَ مثالاً يُحتذى به في كل عصر، بِغَضِّ النظر عن الفروق الزمنية أو المكانية. والمرأة الصحابية اختلفت عن غيرها من نساء عصرها؛ حيث شهدت المرأة الصحابية في عصر النبوة تباشيرَ التحوُّل الكلي في التشريعات والعلاقات والمعاملات فيما بين المرأة والرجل، بل شهدت تأريخًا جديدًا مَحَا قواعدَ باطلة، وأرسى قواعدَ غيرها صافية؛ يقول فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "والله، إنَّا كنا في جاهلية ما نعير للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم". فكان حال الصحابيات مثالاً حَيًّا، وواقعًا مرئيًّا لميزان العدل، الذي أنزل من فوق سبع سموات في التعامُل بين الرجال وشقائقهم، تلك المعاملات التي اختلفت كثيرًا عما سبق، والتي أدَّت إلى تغيير ومَحو مفاهيم رسخت في أذهان الرِّجال عن المرأة في العصر الجاهلي، وتصحيح مفاهيم أخرى، وتشريع مفاهيم جديدة ثالثة، إلى أنْ تَشكَّل في المجتمع المسلم في العصر النبوي صورةٌ سوية ناضجة لأرقى الطُّرق والأساليب في التعامل مع المرأة. وقد كان هذا الرقي داخليًّا نابعًا من الباطن، ومستندًا على عقيدة سديدة، ومُرتبطًا بحقوق والتزامات على المسلم لله - عزَّ وجلَّ - يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب في الدُّنيا والآخرة، وليس مجرد رقي مظهري أو ظاهرة حضارية قابلة للتبدُّل، وخاضعة للتجربة والنقاش، تنجح تارة وتخفق الأخرى، فإن هذا الترقي عُنِي بالمكنونات، وتلمس الأفئدة، وحاكى الضمائر، وعالج عثراتِ السرائر، ولم يقصر نفسه في البحث جاهدًا عن قشور المادة فقط؛ ليتركَ البواطن يستثيرها أوار الاختلال. دور المرأة الصحابية من هنا ظهر هذا الرقي وذاك النضج بارزًا على الصَّحابِيَّات - رضوان الله عليهن أجمعين - سواء في تفاعلهن مع المجتمع، أو ظهور هذا النضج على شخصياتهن وأسرهن. فقد أحجمت المرأة الصَّحابية عن تصرُّفاتٍ، وأكدت تصرفاتٍ أخرى، وظهرت عليها ثالثة لم تكن مَوجودة من قبل، وقد تفوَّقت المرأة الصحابية عن غيرها - رضي الله عنها - في الإفصاح عن كل هذا، وتجسيده، والعمل به، والتصريح عنه، عَمَلِيًّا وفكرِيًّا،، بل الاستفسار عَمَّا بدا لها في جوانح نفسها من أسئلة تشمل: حقوق وحدود وهبات كتبت لها، وقد حرمت منها في الجاهلية، كالإرث، والحقوق المالية، والزوجية وغيرها، وأجور أخروية كانت تتمنَّاها لم تفرض عليها، فرُفع تكليفُها عنها، كالجهاد وصلاة الجماعة، ومُطالبات اجتماعية سَعَت نَحو تَحقيقها، وقد كان طموحها في هذه المطالبات، لا لسببٍ إلاَّ لما فتحه الإسلام عليها من سَعة صدرٍ، ورحابة تشريع احتوى هذه المرأة، وحقق لها كل ما ترغب فيه؛ مما أدَّى لتنامي طموحها؛ طمعًا في المزيد من فضل الله، بل وعُد ملاذًا آمِنًا، ورُكنًا ركينًا لكل آمالها، وأهدافِها المستقبليَّة، بعد أنْ ذاقت في الجاهلية مرارةَ الحرمان، وظلمات القهر والحيف. فدَور المرأة الصَّحابية يُعَدُّ محوريًّا ومُغيرًا لحياة المرأة المسلمة على وجهِ الخصوص، بل إنَّنا لا بُدَّ أن نفعِّل هذا الدورَ في مَحافلنا العامة والخاصة، ومجتمعاتنا، بل في دواخل ذواتنا, وتفعيله يكون بتفعيل حياة الصَّحابيات فيما بيننا، والبحث عن القُدوة الصالحة في حياة كل صحابية. حَقًّا، إنَّنا - معاشرَ النساء - يمكننا أن نتعلم الكثيرَ من الرجال، لكن يظل التأثير الأكبر والفعالية الأعمق من نساء مثلنا، كن لهن التركيبة العقلية والجسدية التكوينية نفسها، بل العاطفية والشعورية، التي قد تَختلف عن طبائع الرِّجال؛ ليظلَّ دَورُ المرأة الصحابية هو الأقربَ للاحتياج التربوي والنفسي السلوكي لبنات حواء. لماذا المرأة الصحابية (أسباب تَميزها وأسباب اتباعنا لها) ومن أهم أسباب تميز المرأة الصحابية عن غيرها كقدوة: أسباب شرعية بفضل من الله - عزَّ وجلَّ - وتوفيقه لها، ومنها أسباب بيئية واجتماعية. أولاً: الأسباب الاجتماعية البيئية: • فقد تفوَّقت المرأةُ الصحابية - رضي الله عنها - في استيعاب الأحكام والشرائع وفهمها فيما لو كان هذا في أي امرأة أخرى؛ بسبب طلاقة الألسنة، وفصاحتها، وملكة اللغة التي هي لغة القرآن، والتي ما تميزت امرأة عنهن في مَلَكَتها، فكن منهن الشاعرات، كالخنساء، والبليغات كأم معبد، والنسابات الفقيهات، كعائشة - رضي الله عنها - وكن يحفظن من الشعر والأدب، ويَملكن من التُّراث اللغوي ما فاق الدرجات الأكاديمية أضعافًا، مما أكسب المرأةَ الصَّحابية حُسْنَ التعبير عن مَطالبها، وحسن فهم الأحكام، ثُمَّ تطبيقها عمليًّا كما ينبغي، تلك الأحكام والشرائع التي جاءت بلغةٍ برعت وتميزت في معرفة أغوارها المرأة الصحابية. • وكذا فقد تَميَّزْنَ بنصاعة الفطر والفهم الأصيل الصافي لقواعدِ الإسلام، بل استسلامهن لله - تبارك وتعالى - وإخلاصهن، وهذا لم يكن ليحدث في مجتمع غير هذا، ولا في نساء مثلهن - رضي الله عنهن جميعًا. • ولإن كان الفضل الأكمل في هداية البشرية بعد الله - عزَّ وجلَّ - لصاحبِ الرِّسالة - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّ من خلفه صَحابِيَّات كن لهن فضل التصديق والتطبيق، ولن نعرف هذا الفضلَ، إلاَّ حينما نقارن بين وجودهن، وتفاعلن في المجتمع الإسلامي الأول المكي والمدني، وبين وجود حواري موسى أو عيسى - عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام - فأين دَوْرُ النساء الأوائل في المجتمع العبراني؟ وأين دورهن في المجتمع النصراني الأول؟ وماذا قدمن هؤلاء للبشرية؟ وأين ذِكْرهن في صفحات التاريخ؟ ليس لدينا سوى جدتنا الحبيبة الطاهرة مريم بنت عمران - عليها السلام - وأمها، والمجاهدات الصابرات امرأة فرعون وماشطته، اللاتي نحن أَوْلَى بهن وأحب، وذكرهن يَعنينا أكثر من غيرنا، لكنَّنا نلحظ أنَّ دورهن قد اقتصر في الغالب على مُحاربة الطَّواغيت، وقصصهن تَمتلئ بالكفاح والمناضلة، فكُنَّ معنًى للفداء بكل ما تحمله الكلمة، فما أنْ نذكرهن - رضي الله عنهن - إلاَّ ونذكر رموزَ الصبر والجهاد والتضحية. لكنَّ المرأةَ الصحابية تُوضِّح لنا نموذجًا مشرقًا عمليًّا لدور المرأة في كلا المجالين، سواء في الغزوات والشدائد، أم في المجتمع المدني المستقر، وهو الأهم، والأطول عمرًا في الغالب، والذي يَحتاج لقواعدَ تشريعية خاصَّة تسد احتياجاتِ المرأة كأمٍّ، وزوجة، وابنة، وأرملة، ومطلقة، وعاملة ما لها وما عليها، هذا هو ما يميزهن - رضي الله عنهن. فأدوارُهن كانت أكثرَ تفاعلاً واندماجًا، وأقربَ للتطبيق الواقعي. يقول د/ أكرم ضياء: "ولم تقتصرْ مَسؤولية المرأة المسلمة في دَعم رسالةِ الإسلام على مساندة حركة الجهاد، وتقديمِ الخدمات للمُجاهدين في سُوحِ الوَغَى، ودفع فلذاتِ أكبادهن إلى ميادينِ القتال، والصبر على مُفارقة الزوج والأهل والولد، بل كانت لبعضهن مسؤولية كبيرة في الحياة الاجتماعية، سواء في نشر العلم أم في مواساة الفقراء، أم في السعي في مصالح الناس" اهـ. "المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة في عصر الرسالة"؛ د. أكرم ضياء العمري. قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، فقد كانت الصَّحابية تُساعد أيضًا في مشاريع التنمية والتكافُل؛ لتسعى في تَحقيق التوازُن الاجتماعي بكثرة الصدقات، ومُساعدة الأسر المحتاجة، وزيادة الإنتاج كأم المساكين زينب - رضي الله عنها - ومعلمة تربي بناتِ جنسها، كالفقيهة عائشة - رضي الله عنها - وطبيبة، كرفيدة - رضي الله عنها. ثانيًا: الأسباب الشرعية (فضلهن وشرفهن على الأمة): أولاً: لهن فضل صحبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي لا يعدلها فضل، وفضل السبق بالإسلام؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه قال: "من كان مُستنًّا، فليستن بمن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا أفضلَ هذه الأمة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصُحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتبعوهم على آثارهم، وتَمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنَّهم كانوا على الهدى المستقيم". وقال - رضي الله عنه -: "إنَّ الله - تعالى - نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالتِه ونبوته، ثُمَّ نظر في قلوب العباد، فوجد قلوبَ أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه". وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي موسى الأشعري: قال - عليه الصلاة والسلام -: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)). ثانيًا: إنَّه لا يبلغ أحد من النساء مبلغَهُنَّ في الفضل والشرف: 1 - ففيهن أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الدُّنيا والآخرة المبشرات بالجنة، وقد نزل فيهن: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]. "أي: فإنكن بذلك تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها".اهـ؛"تفسير السعدي". 2 - وفيهن اثنتان كانتا أكملَ نساء العالمين من بين أربع نساء في الدنيا: فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاَّ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام))؛ صحيح البخاري... وفي رواية الطبري: ((وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد))؛ أخرجه الطبراني، فخديجة وفاطمة - رضي الله عنهن - من كاملات نساء الدُّنيا الأربع. 3 - فاطمة - رضي الله عنها - سيدة نساء العالمين؛ ((سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران: فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون))؛ حديث صحيح؛ "السلسلة الصحيحة للألباني، المجلد الثالث". ثالثًا: لهن فضل الهجرة إلى الله، كما في الهجرتين الأولى والثانية للحبشة، والهجرة إلى المدينة: فنلنَ شرف الهجرة، ونلن رضا الله - عزَّ وجلَّ - ونال رضاه كل من اتبعهن بإحسان إلى يَومِ الدين؛ يقول تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]. • وقد كانت رقيةُ بنت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوجها عثمان أول بيت هاجر إلى الله بعد نبي الله إبراهيم. رابعًا: ولهن فضل البيعة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستغفاره لهن: يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 12]، وسماعهن منه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اذهبْنَ فقد بايعتكن، إنَّما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة))، ثُمَّ أمر ربه بأن يستغفرَ لهن؛ ﴿ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 12]. خامسًا: وهن المحدثات عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الناقلات دينَه، المتعلمات بين يديه: فمنهن من روت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحاديثَ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومنهن من ملأت الدُّنيا بفقهها وعلمها، فكن يسمعن عن رسول الله، ويوعظن منه مباشرة، فتربين في هديه، والتمسن من معين نوره، ونشأن في مدرسته. فعن ابن عباس يقول: "أشهد على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه صلى قبل الخطبة، ثم خطب، فرأى أنه لم يسمع النساء، فأتاهن، فذكرهن، ووعظهن، وأمرهن بالصدقة، وبلال قائل بيديه هكذا، فجعلت المرأة تلقي الخرص والخاتم والشيء"؛ "(صحيح)، "صحيح أبي داود، 1036 - 1038"، وأخرجه البخاري ومسلم، وبلال قائل بيديه؛ أي: آخذ ثوبه بيده، وباسط إياه، فهو من استعمال القول في الفعل للأخذ والبسط، الخرص: بالضم والكسر: الحلقة من الذهب والفضة. "صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند"؛ الألباني. سابعًا: ولهن فضلُ الصلاة خلفه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: عن عائشةَ - رضي الله عنها - أنَّها "قالت: إِنْ كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس"؛(صحيح) أخرجه البخاري ومسلم. ثامنا: تفاعلهن مع الوحي: فكان لهن السبق في سؤال رسولِ الله، والاستفسار، والفهم منه، والشكوى له، فنزلت بسبب ذلك عليهن الأحكام الخالدة، وكن شاهدات الشرع. ففي السؤال مثل: عن عبدالله بن عمر عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((يا معشر النساء، تصدَّقن، وأكثرن من الاستغفار، فإنِّي رأيتكن أكثرَ أهلِ النار))، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير...))؛ أخرجه البخاري ومسلم. حَدَّثنا علي بن محمد ومحمد بن طريف قالا: حدثنا أبو معاوية، حدثني محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: رفعت امرأة صبيًّا لها إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجته، فقالت: يا رسولَ الله، ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر))؛ (صحيح)، حجة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - 94؛ الإرواء 985، صحيح أبي داود 1525. وعن أسماء بنت أبي بكر أنَّها قالت: "سألتِ امرأةٌ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ قال: ((إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض، فلتقرصه، ثم لتنضحه بالماء، ثُمَّ لتصلِّ))؛ (صحيح) أخرجه البخاري ومسلم. وفي الاستفسار مثل: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، وأبو عمر الضرير، قالوا: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "جاءت هند إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يُعطيني ما يَكفيني وولدي إلاَّ ما أخذت من ماله وهو لا يعلم، فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))"؛ (صحيح)، الإرواء 2646، وأخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس قال: "كان زوجُ بريرة عبدًا يقال له: مغيث، كأنِّي أنظر إليه يطوف خلفها ويبكي ودموعه تسيل على خده، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للعباس: ((يا عباس، ألاَ تعجب من حُبِّ مغيث بريرة، ومن بُغض بريرة مغيثًا؟))، فقال لها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو راجعتِه، فإنه أبو ولدك))، قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: ((إنَّما أشفع))، قالت: لا حاجةَ لي فيه"؛ (صحيح)، الإرواء 276/6 - 277، وصحيح أبي داود 1933 - 1934، وأخرجه البخاري. وفي الشكوى مثل: عن إياس بن عبدالله بن أبي ذباب قال: "قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تضربوا إماءَ الله))، فجاء عمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ذَئِرْنَ النساء على أزواجهن، فرَخَّص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نساء كثير يشكون أزواجَهن، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد طاف بآل محمد نساءٌ كثير يشكون أزواجَهن، ليس أولئك بخياركم))"؛ (صحيح)؛ "أي: خيركم الذين لا يضربون نساءَهم، ذئرن؛ أي: اجترأن، ونشزن، وغلبن"؛ سنن أبي داود، صححه الألباني. عن زينب أنَّها كانت تفلي رأسَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعنده امرأة عثمان بن عفان، ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن أنَّها تضيق عليهن، ويخرجن منها، فأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبدالله بن مسعود، فورثته امرأته دارًا بالمدينة؛ (صحيح الإسناد). وفي مثل شكوى خُوَيْلَة بنت مالك في سورة المجادلة كما سيأتي، وقد نزل في بعضهن قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة، كما في تبرئة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة - رضي الله عنهما - قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]. وكذلك زينب بنت جحش - رضي الله عنها -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]. وخويلة بنت مالك - رضي الله عنها -: فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشكو إليه، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُجادلني فيه، ويقول: ((اتقي الله؛ فإنَّه ابن عمك))، فما برحت حتى نزل القرآن: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: ((يعتق رقبة))، قالت: لا يجد، قال: ((فيصوم شهرين متتابعين))، قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: ((فليطعم ستين مِسكينًا))، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأُتِيَ ساعتئذ بعِرقٍ من تَمر، قلت: يا رسول الله، فإنِّي أعينه بعرق آخر، قال: ((قد أحسنتِ، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مِسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك))، قال: والعرق ستون صاعًا؛ (حسن)، دون قوله: والعرق ستون؛ "العرق: هو زنبيل يَسَعُ خمسةَ عشر صاعًا أو أكثر"؛ صحيح سنن أبي داود باختصار السند. ثامنًا: وهن خير النِّساء المخاطبات ابتداءً بـ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران : 110]، كمثل الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين. وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ خَيْرَ نساءٍ ركبن أعجازَ الإبل صالِحُ نساء قريش، أخشاه على ولد في صغر، وأرعاه على بعل بذات يد))؛ "السلسلة الصحيحة، للألباني". وقالت عائشة: "نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياءُ أن يسألنَ عن الدين، وأن يتفقهن فيه"؛ (قول عائشة: نعم... إلخ معلق عند البخاري). وعن أم سلمة قالت: "لَمَّا نزلت: ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 59]، خرج نساء الأنصار كأنَّ على رؤوسهن الغربان من الأكسية"، وهذا دليل على سرعة امتثالهن لأوامر الله - عزَّ وجلَّ - (صحيح)،"حجاب المرأة المسلمة، ص 38، من صحيح سنن أبي داود للألباني". وازدَدْنَ شرفًا إنْ كان منهن زوجات الصَّحابة، الذي نزل فيهم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]. تاسعًا: ولهن فضلُ الجهاد معه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحضور الغزوات، والمشاهد والصبر على الشدائد. فكانت سُمَيَّة - رضي الله عنها - أولَ شهيدة في الإسلام على الإطلاق، وحضرت صحابياتٌ المشاهدَ أمثال أم عمارة، وبعض زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصبرت خديجة - رضي الله عنها - في حصار الشعب، وغيرها من مسلمات قريش. وإن مدح مادح: "إنَّ المرأة نصف الدنيا"، فإن للمرأة الصحابية فضلاً في نصف الدنيا، وفضلاً آخر في النصف الآخر، فهُنَّ مربيات الصالحين من التابعين - رضي الله عنهن - نحسبهن - والله حسيبهن - ولا نزكي على الله أحدًا.